الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مراجعات بهاء طاهر: كيف وصلنا إلى الإخوان؟

عبد الله السناوي *

كان ذلك سؤاله في ديسمبر (2005)، وهو يرى أمامه انتخابات نيابية أفضت إلى صعود غير مسبوق في الوزن السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين».

لم يكن معنيًا، وهو يتقصى خلفيات وأصول ما كان جاريا على سطح الحياة السياسية، بالانتخابات وصفقات الأقبية السرية إلا بقدر ما تكشف وتنير الحقائق الكامنة في بنية المجتمع بتحولاته وأزماته ومستقبل ثقافته.

بالتكوين الثقافي فهو من مدرسة عميد الأدب العربي «طه حسين» في طلب التحديث والاستنارة والالتحاق بالعصر.

وبالتكوين السياسي فهو ينتسب إلى مشروع ثورة يوليو، وبالمفارقات تأكد ذلك الانتساب بعد هزيمة يونيو (1967)، لا قبلها، دفاعا عن الوطنية المصرية عند معركة حياة أو موت.

عند منتصف تسعينيات القرن الماضي نشر كتابا قيمته في جدته تحت عنوان: «أبناء رفاعة» عن صعود الدولة المدنية وانحسارها وإرث التنوير الذى يكاد أن يتبدد.

أعاد طرح مراجعاته في التاريخ الثقافي المصري في مقال نشره بصحيفة «العربي، الناصرية» عند نهايات عام (2005) مكتوباً بقلم رصاص، كما اعتاد أن يكتب رواياته التي أضفت عليه مكانة استثنائية في تاريخ الأدب العربي.

في ذلك المقال وصف ما يجرى بـ«انقلاب في ثقافة ووجدان المواطن المصري»، قاصدا سيطرة الفكر «الإخواني» على نسبة غالبة من الرأي العام في مصر شاملة الأغلبية التي قاطعت، أو التي لم تكن تعنيها الانتخابات.

«حتى ستينيات القرن الماضي كان في مصر مجتمع مدنى قوى ينخرط في كفاح تحرري للتخلص من تخلف قرون طويلة في ظل الخلافة العثمانية، التي وصفها مفكرنا الكبير جمال حمدان بأنها استعمار ديني من نوع باطش غريب يتستر بمفهوم الخلافة، ليستنزف آخر قطرة من عرق المصريين ودمائهم، وعلى مدى قرون ذلك الاستعمار تمثلت الأسس النظرية، أو المنظومة الفكرية للحكم العثماني، في التسليم بحق السلطان- الخليفة فيما بعد- في الحكم المطلق والأمر والنهى دون أية حقوق للرعية غير الطاعة العمياء لهذا القائد الديني».

«عم الخراب إقليم مصر على قول ’’الجبرتي‘‘ المؤرخ المعاصر لهذه الحقبة المظلمة وكاد المصريون يندثرون فعلا لا مجازا بسبب المجاعات المتكررة والمجازر والأوبئة. بارت الأرض الزراعية بسبب إهمال الحكم لأعمال الري والصرف، ولهروب الفلاحين من أرضهم، فراراً من جُباة الضرائب الفاحشة والمتكررة».

«انتشرت فيمن بقى من السكان على قيد الحياة- وهم قليل بالقياس إلى أي عصر في تاريخنا- الجهل الشامل والخرافة والشعوذة».

«يرجع الفضل كل الفضل في خروج مصر من هذا الفصل الكارثي من تاريخها إلى جهود أجيال متتابعة من المثقفين، عملت على تصحيح وإلغاء مفاهيم البطش العثماني، وخروج رعيلها الأول من عباءة محمد على ومشروعه الكبير. لولاه ما تسنى لهم نشر مفاهيمهم الجديدة المتحررة، ولولاهم لما كان مشروعه سوى مجرد فصل لحاكم آخر مستبد سخر الشعب لمجده الشخصي».

«استطاع هؤلاء المثقفون العظام أن يغيروا بالتدريج كل الأسس الفكرية المتخلفة للحكم العثماني وأن يشيدوا بدلا منها منظومة فكرية عصرية ومدنية ظللنا نعيش في نطاقها قرنا ونصف القرن من الزمن، وأبرز ملامح هذه المنظومة هي:

1 ــ إحياء فكرة الوطن- مصر- التي كانت غائبة تماما في ظل فكرة الأممية العثمانية التي تجعل كل سكان الإمبراطورية رعايا على قدم المساواة في العبودية لإمام الأستانة.

2 ــ إدخال مبدأ الوحدة الوطنية والمساواة بين المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات، وعلى قول الطهطاوي فإن جميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من أخوة الوطنية. وهكذا تم نفى المبدأ العثماني للفصل بين الملل وسياسة فرق تسد.

3 ــ نفى وجود السلطة الدينية، يقول الإمام محمد عبده بوضوح: أصل من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. ويقول أيضا: لا يسوغ لقوى ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد. ولا يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به من أحد، إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم.

وبذلك تم نزع أي قداسة، أو صفة دينية عن أي حاكم بشرى مهما كان لقبه وعن أي جماعة ومؤسسة تدعى لها سلطة دينية من أي نوع.

4 ــ تحرر المرأة التي كانت في وضع أسوأ من الرقيق، أو الإماء، والمساواة بينها وبين الرجل، وأذكر في ذلك دور قاسم أمين والشيخ الإمام.

5 ــ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية وحق التعليم للجميع. وهى قيم جديدة تماماً لم تنطبق تلك المبادئ العصرية بالطبع فورا ولا من تلقاء نفسها، بل عبر صراع، دفع المثقفون خلاله أثمانا فادحة. لكن هذه المبادئ اكتسبت مصداقيتها لأنها نبعت وتطورت من خلال معارك وطنية ضد الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، ولأنها كانت تستجيب لحاجات ملحة للمجتمع، وربما أهم من ذلك لأن رواد التنوير الأوائل كانوا حريصين باستمرار على إثبات أن هذه المبادئ العصرية مستمدة من صحيح الدين. ومع أنه كانت هناك طوال الوقت تيارات سلفية تحن حنينا قويا للعودة إلى المنظومة العثمانية، إلا أن الشعب المصري أثبت انحيازه في النهاية لهذه القيم الجديدة خلال ثورتيه الكبيرتين في 1919 و1952».

«غير أن ذلك كله قد تغير منذ أوائل السبعينيات».. «فقد بدأ السادات عصره بحملة شاملة على الثقافة فأغلق المجلات الثقافية جملة، وأغلق من بعدها المسارح الجادة، والمؤسسة الوطنية للسينما، وطارد وطرد المثقفين الحقيقيين من كل منابر الإعلام والثقافة».

«حسب البعض أن تلك ضربة لخصومه، أو من اعتبرهم خصومه من الناصريين واليساريين، غير أنها كانت موجهة في الواقع إلى قيم النهضة العصرية، إلى كل من يمثلونها، أو يحملون أمانة مواصلتها من المثقفين».

«عندئذ، أو قبل إذ، دخل الإخوان المسرح فوجدوا المشهد مهيئاً تماماً».

«جماهير أدارت ظهورها، أو صرفت عنوة، عن كل مكتسبات الدولة المدنية التي ضحت من أجلها أجيال متعاقبة، واستبدلت بالعقلانية الإذعان والدروشة».

بدأ التغلغل التدريجي في المجتمع، بدأوا بالنظام التعليمي، جندوا آلافا من المدرسين العموميين ومولوا إنشاء مدارس خاصة إسلامية التوجه والمناهج، واستثمروا فى تخلى الدولة عن واجباتها نحو أضعف شرائح المجتمع.

وهكذا في كل نواحي المجتمع.

إذا لم ننتبه بالقدر الكافي لمكامن الخطر في بنية المجتمع والثقافة المصرية، فإن ما حذر منه «بهاء طاهر» قد يتبدى مجدداً.

* كاتب عربي من مصر

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.