الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السديس بين الجهل والتضليل والنفاق

محمد صالح المسفر*

 (1)

كان خطيب الحرم المكي، الشيخ عبد الرحمن السديس، في بداية إمامته المصلّين في الحرم قبل 38 عاماً، أكثر الأئمة محبّة عند الناس. كانت تلاوته كتاب الله، وهو يؤدّي صلوات القيام في الحرم جهراً، جذّابةً لمن يستمعون له. كانت أشرطة تلاوته القرآن الكريم تُسمع على امتداد العالم العربي، بل والعالم الإسلامي. كان دعاء القنوت الذي يردّده، بصوته الرخيم، في صلوات القيام في رمضان، يُبكي القلوب قبل الأعين من خشية الله. كان في خطبه يوم الجمعة يدعو إلى وحدة الأمة وقوّتها من أجل تحرير فلسطين وإعادة الأرض المحتلة إلى أهلها، أهل الحق.

 (2)

في رمضان عام 2014، وقف يؤم الناس في الحرم المكي، وكان دعاؤه بعد العدوان على غزة “اللهم عظُم الكربُ على إخواننا المسلمين، اللهم انصرهم في فلسطين على اليهود المعتدين المحتلين. إلهنا عزّ جارك، وجلّ ثناؤك، وتقدّست أسماؤك، نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العلى، أن تنقذ المسجد الأقصى من رجس اليهود المعتدين”. وفي خطبة جمعة في الحرم المكي في العام نفسه، قال: “وفي الأمة من لا يزال مخدوعاً بعملية التطبيع والاستسلام، ويستنكر الجهاد والانتفاضة ويتهمها بالغوغائية والفوضوية، ولا تمثل عنده مقدّسات الأمة شيئاً، ولا تثير عنده حسّاً ولا معنى، ويرى في المسجد الأقصى كأي مبنى آخر في وجه علمانيين كالح، فهل يعي خطّاب الوهم واللاهثون وراء السراب حقيقة الصراع قبل فوات الأوان”.

ويتنكّر شيخنا السديس لكل ما سبق قوله، في خطبة الجمعة، 4 سبتمبر/ أيلول الجاري. انقلب تماماً عن مواقفه. راح يدعو إلى التعايش مع اليهود (أي يهود؟)، أسوة بما فعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع جاره اليهودي. يروي، في خطبة جمعةٍ، تبثّ على قنوات التلفزة السعودية، أن الرسول عليه السلام توضّأ من مزادة (إناء) مشركة. ومات، عليه أفضل الصلاة والسلام، ودرعه مرهونٌ عند يهودي لديْنٍ استدانه منه، وإن جار مسكنه كان يهودياً. وقد فات السديس أن اليهود في المدينة المنورة في ذلك الزمان ليسوا دخلاء، ولا غزاة احتلوها، وإنما هم من أهلها ومن صلب قبائلها. أما يهود اليوم في فلسطين فهم غزاةٌ، جيء بهم من آفاق الأرض، لا صلة لهم بفلسطين. هم نتؤء مستلٌّ من المجتمعات الغربية، زوّدوا بالمال والسلاح، وقتلوا من أهل أرض فلسطين، إلا من أنقذه الله، واستولوا على فلسطين، وما تدرّ من خيرات، وشعبها يعيش في الشتات. الصهيونية عقيدتهم، وليست الديانة اليهودية، يا شيخ. إنهم فجروا وطغوا وقتلوا ودمّروا واقتلعوا حتى أشجار الزيتون في فلسطين، فهل ما برحتَ على اقتناعٍ بمعاملتهم بالحسنى، وهم يعاملون أهلنا في فلسطين، بكل ما يملكون من قوة وجبروت؟

 (3)

كان الاعتقاد عندي أن عبد الرحمن السديس ملمٌّ بالتاريخ الإسلامي، وأنه يعلم علم اليقين عن مجتمع أهل المدينة المنورة قبل هجرة الرسول عليه السلام إليها، وفي مرحلة حياته فيها، ويعلم ما واجه من مصاعب. لكن الشيخ خيّب اعتقادي، واكتشفت كغيري أنه أجوف، ولا يعرف إلا ما يحفظ مصالحة الذاتية، ويداعب أفكار الحاكم ورغباته ونواياه.

يروي السديس، في خطبته آنفة الذكر، أن الرسول عليه السلام “رهن درعه عند يهودي، ووافته المنية والدرع مرهون”. والسؤال الواجب طرحه على شيخنا وأمثاله: أليس في صحابة رسول الله من كان قادراً على سد حاجاته، كي لا يمد يده لأي كائن، ولا يرهن من ما يملك نظير ديْن يسد به حاجته الحياتية؟ أين غيرة المهاجرين والأنصار على رسول الله؟ ألم يجهّز عثمان بن عفان، رضي الله عنه، جيش العسرة (غزوة تبوك) بـ300 بعير، بأحلاسها وأقتابها وألف دينار، استجابة لنداء النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا عن الصديق أبي بكر، رضي الله عنه، صاحب رسول الله في الغار. كان كثير الإنفاق في سبيل الله عزّ وجل. لقد أعتق عشرين من الصحابة من العبودية، وأنفق في ذلك 40 ألف دينار؟ هل يعجزون عن سد حاجة النبي الأعظم، كي لا يرهن درعه عند يهودي، كما يردّد فقهاء السلطان. أين علماء التفسير وفقهاء الإسلام عن قول الحق “فوجدك عائلاً فأغنى” (سورة الضحى، آية 8). يقول السديس إنه يجب معاملة غير المسلم معاملة حسنة، تأليفاً للقلوب، واستمالتهم للدين الإسلامي.

كنت أحسب أن الشيخ السديس سوف يستخدم قربه من ولي العهد في بلده، محمد بن سلمان، والدعاء له، من على منبر الحرم المكي، فيطلب منه الإفراج عن الفقهاء والعلماء دعاة الوسطية المعتقلين، بدلاً من دعوته إلى التسامح مع اليهود (أي يهود؟)، تمهيداً للتطبيع الرسمي معهم في إسرائيل.

 (4)

لا يجوز لفقهاء الإسلام أن يتاجروا بدين الله مرضاة للحاكم، ولا يجوز لهم، بأي ذريعة، تفسير الدين لتحقيق مصلحة ذاتية. نعلم أن محمد بن سلمان من أنصار التطبيع مع إسرائيل، العدو الأول للعرب والمسلمين، بحسب ما كان السديس يصفها في خطب له في المسجد الحرام. ولذلك لا يجوز له أن ينافق ولي العهد، ويزيّن له سوء أعماله وقراراته.

آخر القول: ظهرت علينا، في السنوات الأخيرة، ثلةٌ من الذين نحسبهم أكثر الناس تقوى وخوفا من الله العزيز الجبار، فإذا بهم أصبحوا أكثر نفاقاً وأكثر ارتزاقاً بالدين، كما يفعل السديس، ومن قبله الشيخ عبد العزيز الريس الذي قال على شاشة تلفزيون الجوهرة من الكويت “عليك طاعة الحاكم، وعدم الخروج عليه، وعدم نصحه، حتى لو كان الحاكم يزني كل يوم بمومس في خيمة، ويشرب الخمر، فعليك اتباعه، حتى لو كان يلوط أيضاً”. إنهم فقهاء آخر الزمان والعياذ بالله. ونقول للشيخ السديس: اتّق الله في ما تقول.

* كاتب وباحث أكاديمي من قطر

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.