الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

العراق ولبنان: “انتزاع” الحكومة من قبضة إيران

عبدالوهاب بدرخان *

تكثر التشابهات بين العراق ولبنان، وساهمت زيارتا الرئيس الفرنسي في تسليط الضوء عليها، على رغم أن ايمانويل ماكرون التزم في المحطتين تجهيل مصادر التأزيم في البلدين، من الخطر الإيراني، إلى الخطر التركي الذي بات يُضاف إليه، فضلاً عن الخطر الإسرائيلي الدائم بالنسبة إلى لبنان. لكن “دعم مسيرة السيادة”، بالتعاون مع الأمم المتحدة، شكّل عنواناً واضحاً ومبرَّراً لهبوطه في بغداد، حيث وجدت أخيراً حكومة تسعى قولاً وفعلاً الى استعادة الدولة والسيادة، بل إنها بدأت تتحرّك في هذا الاتجاه مع ادراكها حجم الصعوبات والتحدّيات.

يرزح العراق ولبنان تحت أزمة اقتصادية ومالية هائلة، وأسبابها في الحالين سوء إدارة المال العام وحُسن إدارة الفساد وتحالف الميليشيات مع المافيات في التهام الموارد. لم يتردّد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي فور تسلّمه مهماته في إعلان أن “الخزينة خاوية”، وهو لم يفاجأ بذلك إذ كان يدير الاستخبارات ويعلم أن الفساد مستشرٍ ومُمأسس، لكنه ربما وجد الواقع أسوأ مما نقلته إليه التقارير، بل أسوأ مما كانت “ثورة تشرين” قد صوّرته. ومع أن المسؤولين والسياسيين اللبنانيين حاذروا الاعتراف بإفلاس البلد مع أنهم ساعون الى تسوّل المساعدات، فإنهم قبل “ثورة 17 تشرين” كانوا يشيرون لماماً الى الفساد ثم صاروا بعدها يتحدّثون عنه بسهولة، لكن بلهجة المتبرّئين منه، فالفساد هو دائماً “فساد الآخرين”. غير أن الحقيقة بانت خصوصاً في السطو على أموال المواطنين الذين لم يدركوا أنهم يرتكبون خطأً باطمئنانهم الى نظام مصرفي اعتقدوا أنه لن يتأثّر باهتراء النظام السياسي ولا بالاختراقات الميليشوية للنظام الأمني.

ساهمت مبادرات ماكرون في إبراز ضرورة الاعتراف بالأولويات، كذلك بالفوارق بين لبنان والعراق. فالأزمة المالية وضعت لبنان على مسار انهيار لا مجال لوقفه، وما لبثت كارثة انفجار المرفأ أن سرّعته، لذلك كان لا بدّ من التحرك الفرنسي السريع، استناداً الى توافق مع الولايات المتحدة على “منع الانهيار”. لماذا؟ لأن المستفيد الوحيد من الانهيار هو “حزب الله” والنفوذ الإيراني، نظراً الى جهوزيتهما لتلقّف البلد واستثمارهما في البؤس والفقر والقمع والتيئيس، كذلك التهديد بحرب أهلية، كوسائل كفيلة بتطويعه. إذاً، تعتبر باريس أن التصدي للأزمة المالية والاقتصادية يتقدّم مرحلياً على مسألة “السيادة” التي صارت مرادفاً للمواجهة المباشرة مع إيران منذ هيمن “حزبها” على الدولة اللبنانية ومؤسساتها. والرهان الآن على انتزاع “الحكومة” من أنياب هذه الهيمنة لتمكينها من العمل من أجل التعافي الاقتصادي، لكن واشنطن لا ترى أنه رهان صلب لأن الحكومة تعمل في بيئة سياسية أفسدها “حزب الله” وزاد حلفاؤه في إفسادها، لذلك يتوعّد الفرنسيون والأميركيون أشخاصاً وكياناتٍ بسوط العقوبات.

ما يختلف في العراق أنه أمكن بالفعل “انتزاع” الحكومة من قبضة السطوة الإيرانية، وباتت قدرتها على التغيير مراهنةً قائمةً داخلياً وخارجياً. إذ أن الدولة كانت تُدار باعتبارها مشروع انهيار دائم، وساهمت عوامل عدّة منذ 2006 في تسليط الضوء على فشل الحكومات الموالية لإيران بل في رضوخها لإرادة طهران بإبقاء الدولة أضعف الكيانات الموجودة وإخضاعها لإملاءات مثل إلزامها بتمويل الميليشيات وبالتالي ارتضاء ازدواجية “مشرعنة” للقوات المسلحة بولائين متناقضين. فالمحنة القاسية التي شكّلتها “الحرب على داعش” والدمار الكبير الذي خلّفته، والنهب المنظّم لموارد الدولة، والانتفاضات الشعبية المتوالية احتجاجاً على تردّي الخدمات، والانعكاسات الاجتماعية لسيطرة الميليشيات، فضلاً عن تداعيات الصراع الأميركي – الإيراني وذروته باغتيال قاسم سليماني… كل ذلك حتّم الذهاب الى “حكومة انقاذ” لأن غرق السفينة بات يتهدّد نفوذ طهران نفسه، فبادرت الى القبول بحكومة يترأسها مصطفى الكاظمي حتى بعدما أكّد مبعوثوها وموالوها أن لديه “أجندة وطنية” ترمي الى تعزيز مكانة الدولة وقوّتها. وعلى رغم أن الخطوات التي أمكن الكاظمي أن يقوم بها محدودة حتى الآن، إلا أن حكومته أظهرت فارقاً لا ينفكّ يتأكّد، ثم أنه ربط العراق باتفاق استراتيجي سيكون ملزماً لواشنطن أيّاً تكن الإدارة فيها.

يقارن بعض المحللين اغتيال سليماني، كحدث غير متوقّع، بانفجار مرفأ بيروت. فالأول تسبّب بخسارة استراتيجية لإيران وأنذرها بضرورة الإقدام على تنازلٍ ما في العراق، ولم تكن البدائل من الكاظمي بأفضل منه، بل اتّسمت بميل شبه معلن الى الصدام والمواجهة مع نفوذها. لكن تنازل طهران لم يكن إنكفاءً بل مجرد تراجع تكتيكي وسطحي، مع اعتمادٍ على ميليشيات غير ممثّلة في البرلمان، لوضع الحكومة (والوجود الأميركي) تحت المراقبة ومواصلة الضغط عليها بالاغتيالات وإطلاق الصواريخ والقذائف على القواعد العسكرية والمطار والمنطقة الخضراء. في الوقت نفسه، تبدي الحكومة تصميماً على تنفيذ برنامجها متوقّعة إخفاقات لكنها مصرّة على مراكمة النجاحات ولو محدودةً. ومن أبرز محاولاتها السعي الى استعادة المنافذ الحدودية (وقد سجّلت زيادة ملموسة في المداخيل)، وتشكيل رقابة متصاعدة على الميليشيات، والاستعداد أمنياً وقضائياً لفتح ملفات كبار الفاسدين ومعظمهم ممن تولّوا مناصب عليا في السابق، بالإضافة إلى أنها حدّدت بالاتفاق مع واشنطن جدولاً زمنياً مريحاً للانسحاب الأميركي على رغم أن طهران كانت تلحّ على انسحاب وشيك. وليس أدلّ إلى فرض الحكومة وجودها أن ثمة بحثاً الآن في إمكان إبرام “اتفاق استراتيجي” بين بغداد وطهران، بعدما كانت الأخيرة تستبعد الفكرة.

لا شك في أن التغيير مسار طويل وشاق، وقد يكون محفوفاً بالمخاطر والدماء، لكن المهم أن يبدأ، وأن يكون مرفقاً بمواكبة خارجية. في العراق توفّرت هذه المواكبة من خلال “التحالف ضد الإرهاب” وبوجود أميركي كبير تتضح نتائجه بإعادة تأهيل الجيش والأجهزة الأمنية. أما في لبنان فإن المواكبة الخارجية اتّخذت من انفجار المرفأ مناسبة مواطئ على الأرض، ولم يكن دمار المرفأ خسارة لبنانية وطنية فحسب بل أيضاً خسارة لإيران و”حزب الله” إذ أمن لهما مستودعات محميّة وذراعاً لوجستية ومنفذاً لتصريف السلع من دون أي ضرائب جمركية. لكن تبقى “الدولة” حلقة مفقودة في لبنان، فلا شيء يشير الى أن الأزمة شحذت تصميمها على استعادة دورها ومكانتها، بل ان “الحزب” موقنٌ بأن ترهيبه للداخل سيبقى فاعلاً ومتفلّتاً طالما أنه يصادر رئاسة الجمهورية والغالبية البرلمانية ولا مجال لحكومة تتصدّى له، حتى باعتراف ضمني من الرئيس الفرنسي.

* كاتب صحفي ومحلل سياسي لبناني

المصدر: النهار العربي

التعليقات مغلقة.