الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الربيع العربي كان فرصة نادرة للشرق الأوسط كي يتحكّم في مصيره

أحمد عيشة *

عندما احتشد المصريون عام 2011، في ميدان التحرير بالقاهرة، للمطالبة بإنهاء حكم نظام حسني مبارك (الرئيس الأبدي)، تجمعوا لأكثر من مجرد إطاحة دكتاتور غير شعبي. من خلال شجاعتهم، أرسلوا رسالة إلى إخوانهم العرب وإلى العالم بأسره، مفادها أن التغيير، أخيرًا، آتٍ إلى الشرق الأوسط.

اليوم، صارت الأحلام المبهجة لعام 2011 تبدو كأنها من حقبة أخرى. فقد أعاد انقلاب عسكري في مصر تلك البلاد إلى الاستبداد، وتدخلت السعودية عسكريًا في البحرين باسم النظام، لتنهي آمال المتظاهرين هناك، وأدّت الحروب الأهلية في ليبيا وسورية واليمن إلى حالة تشويه دموي لرؤى حقبة جديدة من الديمقراطية. الثورة الديمقراطية الوحيدة التي ما زالت قائمة هي في تونس، حيث بدأت الاحتجاجات، وكان أول سقوط لدكتاتور. ويرى نوح فيلدمان، في كتابه الجديد المهم (الشتاء العربي: مأساة)، أنه “في نهاية المطاف، الربيع العربي جعل حياة كثير من الناس أسوأ مما كانت عليه من قبل”.

عمل فيلدمان، وهو أستاذ في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، كمستشار للمسؤولين الأميركيين في الأيام الأولى لاحتلال العراق، وبعد عام 2011، تواصل مع التونسيين الباحثين عن المساعدة في أثناء تخطيطهم لبناء أول دستور ديمقراطي حقيقي لهم. يستعرض كتاب “الشتاء العربي” أربعة أحداث رئيسة من الربيع العربي -الانتفاضة والانقلاب المصري، والحرب الأهلية السورية، و”خلافة” الدولة الإسلامية، والتقدم المتقطع والتشنجي في تونس نحو الديمقراطية- لتوضيح نقاطه الأساسية.

كتاب فيلدمان هو تأمّل وتفكرٌ في الربيع العربي، ويوحي عنوانه “الشتاء العربي” بنهايته الكارثية، إنه ليس تاريخًا بل جدال أو حجة، بأفضل معاني تلك الكلمة، وهو مبطنٌ في الفلسفة السياسية. ولتحقيق أقصى استفادة من الجدل، يجب أن يكون القارئ على دراية بالشرق الأوسط. ويجب أن يقدّر قراء الواشنطن بوست المهتمين ذلك الكتاب، إنه ليس للمبتدئين.

الإرادة والمعنى في قلب جدل أو منطق فيلدمان:

طوال قرون، سيطر الغرباء، سواء كانوا عثمانيين أو بريطانيين أو فرنسيين أو أميركيين، على مصير الشرق الأوسط. في الماضي. وإن “المعنى السياسي المركزي للربيع العربي وما تلاه هو أنه أظهر أن هناك أشخاصًا ناطقين باللغة العربية يتصرفون بشكل أساسي بمفردهم، وفق إرادتهم، كصناع مستقلين كاملي الأهلية لتاريخهم”. في مصر، تحدث الناس عندما دعوا الجيش لإطاحة مبارك، وتحدثوا مرة أخرى بعد ذلك بعامين، عندما دعوه إلى إزاحة حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة ديمقراطيًا بقيادة محمد مرسي. يحترم فيلدمان اختيارهم حتى عندما لا يتفق معه، إذ إنهم “أخذوا مصيرهم بأيديهم، ثم تخلوا عنه”.

الإرادة تعني عدم اليقين، والشخصيات تلوح في الأفق في “الشتاء العربي”، لتصبح مصدر قلق. في كل من مصر وتونس، لم تقد أي مؤسسات قوية عملية الانتقال من الثورة إلى الديمقراطية، وسمح ذلك للقادة بممارسة نفوذ هائل. أثبت الإسلاميون التونسيون في حزب النهضة أنهم أكثر مرونة وقابلية للمساومة، من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن زعيمهم راشد الغنوشي أدرك الحاجة إلى حل وسط. في المقابل، “تسبب مرسي تقريبًا بالأزمة التي تحولت إلى شاهد ضده”، وفشل في العمل مع المعارضين السياسيين. وأدى ازدراء المثقفين وتهميش المصريين ذوي التعليم الغربي إلى اللجوء إلى الجيش كمنقذ، وإضفاء الشرعية على الانقلاب، بل بات يُصوّر كانعكاس لإرادة الشعب، في نظر فيلدمان.

فكرتان كانتا قد شكلتا الشرق الأوسط، طوال عقود من الزمن: القومية العربية، والإسلام السياسي، وقد ازدادتا سخونة في نيران الثورة، ثم تحولتا إلى اختبار قاسٍ/ بوتقة. سلّط الربيع العربي نفسه الضوء على قوة القومية العربية، حيث قامت القنوات الفضائية العربية -مثل قناة الجزيرة- بنشر صور الاحتجاجات من دولة إلى أخرى، وبدا أن الثورة التي لم يكن من الممكن تصورها في يوم من الأيام باتت حتمية. في الوقت نفسه، أظهرت تلك القنوات ليبيا وسورية واليمن بشكل مؤلم، وأثبتت الانقسامات العرقية والطائفية والقبلية وغيرها أن الهوية العربية بحد ذاتها غير كافية للتوحيد أو الوحدة.

يشير فيلدمان إلى أن الإسلام السياسي أكثر تقلبًا، واليوم من غير الواضح كيف يأمل الإسلاميون في تحقيق رؤيتهم. في سورية، رفض تنظيم الدولة الإسلامية [داعش] أي شكل من أشكال الديمقراطية باسم الإسلام، لكن خلافته انتهت بالدمار. وفي مصر، أدت الجهود المبذولة لاستخدام العملية الديمقراطية لفرض الإسلاموية، إلى انقلاب شعبي. وفي تونس، فاز حزب النهضة بصناديق الاقتراع، لكنه من أجل البقاء، تحرك نحو نسخة ليبرالية من السياسة، متقبلًا أنه لن يستخدم القوة السياسية لفرض الإسلام مباشرة.

تركيز فيلدمان على الإرادة قاده في بعض الأحيان إلى التقليل من العوامل الخارجة عن سيطرة الحشود والقادة الذين عارضوا تلك العوامل. في سورية، لم يستطع المتظاهرون السنة مطالبة الجيش بإسقاط بشار الأسد، لأن نظامه العلوي كان قد رتب هذا الجيش وسيّسه، منذ مدة طويلة. ولذلك، كما يشير فيلدمان، لم يثق المتظاهرون بالجيش، كما أنهم كانوا يمقتون الأقليات التي تحابيها الحكومة، حيث نال العلويون النصيب الأكبر من الكراهية، وقد هتف بعض المتظاهرين: “المسيحيون إلى بيروت، والعلويون عالتابوت”. [سُمع هذا الشعار في التظاهرات الأولى في اللاذقية، لكن مصدره، كما تشير كثير من التقارير، يعود لعناصر من الشبيحة، وليس للمتظاهرين، وكل هذا لا ينفي وجود بعض المتطرفين الذين يناظرون الشبيحة في موقفهم من الثورة، وكان ردّ المتظاهرين واضحًا: الشعب السوري واحد (المترجم)].

ونظرًا لأن نظام الأسد صنع الانقسامات الطائفية في البلاد وأدخلها إلى هيكله، فقد رأى كل من المتظاهرين والأسد وأعوانه أن التسوية مستحيلة: سيتكاتف النظام وأعوانه معًا، أو سيشنقون فرادى. وعلى الرغم من حرص فيلدمان على ملاحظة هذا التوتر، فإنه يقدم تحذيرًا مهمًا لتأكيده على الإرادة.

يتجاهل كتاب فيلدمان أيضًا الدعم العسكري الإيراني للنظام السوري، ودعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للانقلاب في مصر، وأن ذلك الدعم قد ساعد في قلب ميزان القوى غير المستقر، وعلى العكس من ذلك، أدى عدم وجود تدخل خارجي في تونس إلى منح القادة هناك المزيد من الحرية. لقد صنع الجمهور العربي والأنظمة التي عارضوها سياساتهم الخاصة إبّان الربيع العربي، لكنهم لم يكونوا دائمًا وحدهم.

الولايات المتحدة، في عهد الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، كانت غالبًا ما تتهرب من المسؤولية. يكتب فيلدمان عن سياسة الولايات المتحدة في سورية: “لنقلها بصراحة، كانت تدعم القوات التي تهدد النظام بما يكفي لإبقاء القتال مشتعلًا، بينما ترفض اتخاذ خطوات حاسمة تجعلهم ينتصرون”. ويؤكد أن أوباما لا يريد أن يتحمل مسؤولية فوز الأسد أو الفوضى في سورية ما بعد الأسد. وأود أن أضيف كلمة، ببساطة، ترامب لا يهتم”.

هل يمكن أن تزدهر الديمقراطية في العالم العربي؟ لا شك في أن انهيار الربيع العربي محزن ومزعج. ومع ذلك، أجد نفسي مقتنعًا، بل مرتاحًا بعض الشيء، بادعاء فيلدمان أن “استمرار الدكتاتورية هو النتيجة الأكثر احتمالية؛ ومع ذلك، فإن النضال من أجل القيام بعمل أفضل لا يزال يحمل معنًى عميقًا”.

الشتاء الذي تلا الربيع العربي هو أمرٌ يدعو لليأس، إلا أن الربيع العربي لا يزال مصدرًا للإلهام.
…………………………………………………………………………………………………
اسم المقال الأصلي   For the Middle East, the Arab Spring was a rare chance to control its own fate

الكاتب: دانيال بايمان، Daniel Byman

مكان النشر وتاريخه واشنطن بوست،The Washington Post، 26 حزيران/ يونيو 2020

رابط المقالة: https://wapo.st/2EySb2N
…………………………………………………………………………………………………
* كاتب سوري ومترجم لغة انكليزية

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.