الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الميثاق الوطني – جمال عبد الناصر


الباب التاسع

الوحدة العربية:

   إن مسؤولية الجمهورية العربية المتحدة في صنع التقدم وفي تدعيمه وحمايته تمتد لتشمل الأمة العربية كلها، إن الأمة العربية لم تعد في حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها، لقد تجاوزت الوحدة هذه المرحلة، وأصبحت حقيقة الوجود العربي ذاته، يكفي أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير.

   إن الذين يحاولون طعن فكرة الوحدة العربية من أساسها مستدلين بقيام خلافات بين الحكومات العربية، ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، إن مجرد وجود هذه الخلافات هو في حد ذاته دليل على قيام الوحدة، إن هذه الخلافات تنبع من الصراع الاجتماعي في الواقع العربي، واللقاء بين القوى التقدمية الشعبية في كل مكان من العالم العربي، والتجمع الذى تقوم به العناصر الرجعية والانتهازية في العالم العربي هو الدليل على وحدة التيارات الاجتماعية التي تهب على الأمة العربية، وتحرك خطواتها وتنسقها عبر الحدود المصطنعة.

   إن التقاء القوى التقدمية الشعبية على الأمل الواحد في كل مكان من الأرض العربية، وتجمع القوى الرجعية على المصالح المتحدة في كل مكان من الأرض العربية هو في حد ذاته دليل على الوحدة أكثر مما هو دليل على التفرقة، إن مفهوم الوحدة العربية تجاوز النطاق الذى كان يفرض التقاء حكام الأمة العربية ليكون من لقائهم صورة للتضامن بين الحكومات، إن مرحلة الثورة الاجتماعية تقدمت بهذا المفهوم السطحي للوحدة العربية، ودفعت به خطوة إلى مرحلة أصبحت فيها وحدة الهدف هي صورة الوحدة.

   إن وحدة الهدف حقيقة قائمة عند القواعد الشعبية في الأمة العربية كلها، واختلاف الأهداف عند الفئات الحاكمة هو صورة من صور التطور الحتمي الثوري واختلاف مراحله بين الشعوب العربية، لكن وحدة الهدف عند القواعد هي التي ستتكفل بسد الفجوات الناشئة من اختلاف مراحل التطور.

   إن وحدة الأمة العربية قد وصلت في صلابتها إلى حد أنها أصبحت تتحمل مرحلة الثورة الاجتماعية، ولا يمكن أن تدل أساليب الانقلاب العسكري، ولا أساليب الانتهازية الفردية، ولا أساليب الرجعية المتحكمة على شيء إلا على أن النظام القديم في العالم العربي يعاني جنون اليأس، وأنه يفقد أعصابه تدريجياً وهو يسمع من بعيد في قصوره المعزولة وقع أقدام الجماهير الزاحفة إلى أهدافها.

   إن وحدة الهدف لا بد أن تكون شعار الوحدة العربية في تقدمها من مرحلة الثورة السياسية إلى الثورة الاجتماعية، ولا بد أن ينبذ الشعار الذى جرت تحته مرحلة سابقة من النضال الوطني؛ هي مرحلة الثورة السياسية ضد الاستعمار، إن الاستعمار الآن غيّر مكانه ولم يعد قادراً على مواجهة الشعوب مباشرة، وكان مخبأه الطبيعي بحكم الظروف داخل قصور الرجعية.

   إن الاستعمار نفسه دون أن يدرى ساهم في تقريب يوم الثورة الاجتماعية، وذلك حين توارى بمطامعه وراء العناصر المستغلة يوجهها ويحركها، وليس من شك أن الثورات الأصيلة تستفيد من حركات خصومها في مواجهتها، وتكتسب منها قوة دافعة، إن الاستعمار كشف نفسه، وكذلك فعلت الرجعية بتهالكها على التعاون معه، وأصبح محتماً على الشعوب ضربهما معاً، وهزيمتهما معاً؛ تأكيداً لانتصار الثورة السياسية في بقية أجزاء الوطن العربي، وتدعيماً لحق الإنسان العربي في حياة اجتماعية أفضل لم يعد قادراً على صنعها بغير الطريق الثوري.

   والعمل العربي في هذه المرحلة يحتاج إلى كل خبرة الأمة العربية مع تاريخها الطويل المجيد، ويحتاج إلى حكمتها العميقة، بقدر حاجته إلى ثوريتها وإرادتها على التغيير الحاسم.

   إن الوحدة لا يمكن – بل ولا ينبغي – أن تكون فرضاً، فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافئ أساليبها شرفاً مع غايتها، ومن ثم فإن القسر بأي وسيلة من الوسائل عمل مضاد للوحدة، إنه ليس عملاً غير أخلاقي فحسب؛ وإنما هو خطر على الوحدة الوطنية داخل كل شعب من الشعوب العربية، ومن ثم بالتالي فهو خطر على وحدة الأمة العربية في تطورها الشامل، وليست الوحدة العربية صورة دستورية واحدة لا مناص من تطبيقها، ولكن الوحدة العربية طريق طويل قد تتعدد عليه الأشكال والمراحل وصولاً إلى هدف أخير، إن أي حكومة وطنية في العالم العربي تمثل إرادة شعبها ونضاله في إطار من الاستقلال الوطني هي خطوة نحو الوحدة، من حيث أنها ترفع كل سبب للتناقض بينها وبين الآمال النهائية في الوحدة، إن أي وحدة جزئية في العالم العربي – تمثل إرادة شعبين أو أكثر من شعوب الأمة العربية – هي خطوة وحدوية متقدمة تقرب من يوم الوحدة الشاملة، وتمهد لها وتمد جذورها في أعماق الأرض العربية.

   إن مثل هذه الظروف تمهد الطريق للدعوة إلى الوحدة الشاملة، وإذا كانت الجمهورية العربية المتحدة ترى في رسالتها العمل من أجل الوحدة الشاملة، فإن الوصول إلى هذا الهدف ليساعد عليه وضوح الوسائل التي لابد من تحديدها تحديداً قاطعاً وملزماً في هذه المرحلة من النضال العربي.

   إن الدعوة السلمية هي المقدمة والتطبيق العلمي لكل ما تضّمنه الدعوة من مفاهيم تقدمية للوحدة، هي الخطوة الثانية للوصول إلى نتيجة محققة، إن استعجال مراحل التطور نحو الوحدة يترك من خلفه كما أثبتت التجارب فجوات اقتصادية واجتماعية تستغلها العناصر المعادية للوحدة كي تطعنها من الخلف.

   إن تطور العمل الوحدوي نحو هدفه النهائي الشامل يجب أن تصحبه بكل وسيلة جهود عملية لملء الفجوات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة من اختلاف مراحل التطور بين شعوب الأمة العربية، هذا الاختلاف الذى فرضته قوى العزلة الرجعية والاستعمارية.

   إن جهوداً عظيمة وواعية يجب أن تتجه أيضاً إلى فتح الطريق أمام التيارات الفكرية الجديدة حتى تستطيع أن تحدث أثرها في محاولات التمزيق، وتتغلب على بقايا التشتت الفكري، الذى أحدثه ضغط ظروف القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وما تركتها دسائسها ومناوراتها من رواسب تحجب الرؤية الصافية في بعض الظروف، والجمهورية العربية المتحدة – وهى تؤمن بأنها جزء من الأمة العربية – لابد لها أن تنقل دعوتها والمبادئ التي تتضمنها لتكون تحت تصرف كل مواطن عربي، ولا ينبغي الوقوف لحظة أمام الحجة البالية القديمة التي قد تعتبر ذلك تدخلاً منها في شئون غيرها، وفى هذا المجال فإن الجمهورية العربية المتحدة لابد لها أن تحرص على ألا تصبح طرفاً في المنازعات الحزبية المحلية في أي بلد عربي، إن ذلك أمراً يضع دعوة الوحدة ومبادئها فى أقل من مكانها الصحيح، وإذا كانت الجمهورية العربية المتحدة تشعر أن واجبها المؤكد يحتم عليها مساندة كل حركة شعبية وطنية، فإن هذه المساندة يجب أن تظل في إطار المبادئ الأساسية تاركة مناورات الصراع ذاته للعناصر المحلية تجمع له الطاقات الوطنية، وتدفعه إلى أهدافه وفق التطور المحلى وإمكانياته، كذلك فإن الجمهورية العربية المتحدة مطالبة بأن تفتح مجال التعاون بين جميع الحركات الوطنية التقدمية في العالم العربي، إنها مطالبة بأن تتفاعل معها فكرياً من أجل التجربة المشتركة، لكنها في نفس الوقت لا تستطيع أن تفرض عليها صيغة محددة لصنع التقدم.

   إن قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية في العالم العربي أمر سوف يفرض نفسه على المراحل القادمة من النضال، إن ذلك لا يؤثر ولا ينبغي له أن يؤثر على قيام جامعة الدول العربية، وإذا كانت الجامعة العربية غير قادرة على أن تحمل الشوط العربي إلى غايته العظيمة البعيدة، فإنها تقدر على السير به خطوات. إن الشعوب تريد أملها كاملاً، والجامعة العربية بحكم كونها جامعة للحكومات لا تقدر أن تصل إلى أبعد من الممكن؛ إن الممكن خطوة في طريق المقلوب الشامل، إن تحقيق الجزء مساهمة في تقريب يوم الكل، لهذا فإن الجامعة العربية تستحق كل التأييد، على ألا يكون هناك تحت أي ظرف من الظروف وهم تحميلها أكثر من طاقتها العملية التي تحدها ظروف قيامها وطبيعتها.

   إن الجامعة العربية قادرة على تنسيق ألوان ضرورية من النشاط العربي في المرحلة الحاضرة، لكنها في نفس الوقت تحت أي ستار وفى مواجهة أي ادعاء لا يجب أن تتخذ وسيلة لتجميد الحاضر كله وضرب المستقبل به.

يتبع؛ الباب العاشر، والأخير (السياسة الخارجية) …

التعليقات مغلقة.