الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“مستر نون”          رواية الحرب اللبنانيّة التي لا تريد أن تنتهي

هوشنك اوسي *

غالباً ضحايا الحروب، وكي يستردّوا توازنهم، يخضعون للعلاج النفسي. الحرب الأهليّة، إذا ضربت بلداً، المشتركون فيها، والذين يقفون على الحياد، كلّهم ضحايا. وعليه، الجميع بحاجة إلى إعادة تأهيل نفسي.

كثيرةٌ هي الروايات التي تناولت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، صدرت أثناءها أو بعد انتهائها. إنما، قليلةٌ هي الروايات التي تناولت الإرث والتراكم النفسي لتلك الحرب، وحجم التشوّهات الداخليّة التي خلّفتها. ومِن ذلك، رواية “مستر نون”، الصادرة عن دار الآداب اللبنانية، في 255 صفحة من القطع المتوسّط، للروائيّة اللبنانيّة المقيمة في باريس، نجوى بركات. هذه القطعة الأدبيّة الروائيّة العميقة والمسبوكة بحرفيّة عالية، لا تسترد وتستحضر بركات فيها ذاكرة الحرب ومراراتها بطريقة وثائقيّة تقليديّة، وبتلك النمطيّة الموجودة في لغة الأخبار والتقارير والأرقام، بل بشكل فنّي، غير مباشر، شديد الحساسيّة والإنسانيّة. وكأنَّ بركات تودّ الإشارة إلى أن تلك الحرب التي يُفترض أنها انتهت عام 1990، ما زالت موجودة ومشتعلة، بصيغ أخرى. وإن الحرب تبقى، ولا ترحل، ما بقي ضحاياها أحياء. ويمكن أن يفاجئنا أحد الضحايا مشيراً إلى نفسه، وسط رواية أدبيّة قائلاً: “ها أنا ذا، أراكم، وأتحدّث إليكم، وأعرّفكم بنفسي، ضمن هذا النصّ أو ذاك”. فضلاً عن تأكيد بركات أن أمراء تلك الحرب، ما زالوا يتصدّرون المشهد السياسي، يتبوأون مقاعدهم في الكوابيس التي تتناوب الجثوم على صدر لبنان، وتسمّي نفسها الحكومات ومعارضاتها.

لم تختر بركات “السيّد نون”، أو “مستر N”، ولم تقل: “مسيو نون”، ذلك أن اللغة الفرنسيّة لها الغلبة في لبنان، قياساً بالإنكليزيّة. ناهيكم بأن الكاتبة نفسها مقيمة في باريس وتكتب بالفرنسيّة أيضاً. إلاَّ أنها أبقت على كلمة “مستر”، ولفظت الحرف N كما يلفظ في الأبجديّة العربيّة؛ نون. هذا الدمج بين العربيّة والإنكليزيّة، واختيار حرف نطقه ليّن، غير مخرّش، في شكله العربي منفرداً، يميلُ إلى الأنوثة أكثر من ميله إلى الذكورة (في الشعر الصوفي الكردي؛ غالباً ما شُبِّهَ النهدُ بحرف النون؛ القوس المقلوب إلى الأعلى، وفوقه النقطة: الحلمة)، هذا الاختيار، فضلاً عن جماليّة اللفظ كأنّنا نرسم دائرة بالصوت، حين نلفظ؛ نون، والحمولة الذكوريّة – الأنثويّة التي ينطوي عليها العنوان، فإنه مفتوح على تأويلات ودلالات عدّة. وكم كان غريباً وفظّاً، لو أن الكاتبة اختارت عناوين من طينة “مستر ضاد أو ظاء، طاء، قاف، خاء، عين، أو “مستر شين”…! لكن “مستر نون” مرن وليّن حتّى على الترجمة إلى اللغات الأخرى أيضاً. وعليه، اختيار بركات عنوان روايتها كان بميزان اللفظ والمعنى والدلالات وقابلية الترجمة أيضاً. من دون أن نسهو عن أن اسم نجوى، أوّله نون.

الحكاية:

“مستر نون”، كاتبٌ هجر شقته. قرر الإقامة في فندق، لأن برجاً سكنيّاً قيد الإنشاء، سدّ عليه مجال الرؤية والنظر إلى السماء، من شرفة شقّته في عمارة قديمة. يتولّى شقيقه الكبير دفع نفقات الإقامة في الفندق. هذا الكاتب، عاد إلى الكتابة، بعد قطيعة دامت 15 عاماً. الموظفة في الفندق (مس زهرة) ومديرها أندريه، يتعاونان معه، ويؤمنان له الراحة الكاملة. يأخذ أدويته بانتظام. يأتيه طعامه إلى غرفته. يطلب من “مس زهرة” أن تأتيه بالأقلام والأوراق… إلخ. الكل مسرور لأنه عاد إلى الكتابة. يتعرّف “مستر نون” على نزيلين – جارين في الفندق؛ سيدةٌ تدعوه دائماً إلى تناول الغداء أو العشاء معها، فيعتذر. ورجلٌ، دائم الشجار مع زوجته التي تقاسمه غرفتهُ. يتحاشى “مستر نون” التواصل معهما.

من خلال حديث الكاتب عن نفسه والمحيطين به في الفندق، وحديثه عن أسرته؛ والده الطبيب، أمّه (ثريا)، شقيقه الكبير (سائد) الطمّاع المهووس بالشهرة، واستحضاره طفولته… تتكشّف حياة البطل وعوالمه. أثناء خروجه من الفندق وتجواله في أحياء بيروت، يكتشف أشياء جديدة. يذكر مشاهداته وتفاصيلها. يُجري مقاربات بين القديم والجديد، ومدى الانحدار والفوضى الذي تشهده المدينة. يعثر على شخص، يشبه بطل روايته الأخيرة، الذي كان من أمراء الحرب الأهليّة اللبنانيّة، قتله المؤلّف في تلك الرواية. بينما هو الآن، حيٌّ يرزق، فتح محلاً لخدمات الانترنت. كما يتعرّف إلى خادمة نيباليّة، دخلت سلك الدعارة.

ذاكرة “مستر نون” متخمة بالأحداث الذاتيّة المأساوية. جريمة قتل جماعيّة، تورّط فيها والده وممرضته، بأن حقنت الأخيرة أطفال روضة، بجرعة منوّم زائدة، نوّمتهم إلى الأبد. فعلت الممرضة ذلك، كي تنقذهم من القتل وسط الحرب الأهليّة، حين تعرّض مكان عمل الطبيب والممرضة لهجوم مسلّح، تزعمه لقمان. الجريمة الثانية، هي انتحار والده أمام عينيه. الجريمة الثالثة، قتلُ الخادمة النيباليّة من قبل قوّادها. والجريمة الرابعة، انتحار مريم السوريّة شنقاً. والجريمة الأخيرة، التي سنذكرها في ختام هذه الأسطر.

لو اختارت بركات شخصيّة كاتبة، روائيّة، تعطي دروساً ومحاضرات حول طرائق الكتابة الإبداعيّة والاحتراف الأدبي الروائي، كما هو حال “مستر نون”، لقال القارئ فوراً: إن بركات تسرد نفسها. وإن “مستر نون” سيرة ذاتية مواربة أو مخاتلة. لكنها اختارت رجلاً، ليس تهرّباً أو تنصّلاً من رأي أو انطباع كهذا، هو حصيلة إسقاط الرواية على حياة كاتبها أو كاتبتها. بل، لأن هذا الاختيار يضعها في تحدٍّ أصعب؛ هو كيفيّة تقمّص شخصيّة ذكوريّة مركّبة ومعقّدة، ومشوّهة، لها عوالمها الخاصّة بها. بمعنى آخر، شيء يشبه تحدّي الذات الأنثويّة. الحقُّ أن بركات أحرزت نجاحاً كبيراً ومميّزاً ولافتاً في هذا الصدد، عبر رصد وسرد كينونة “مستر نون” ومعاناته.

الحرب في سوريا:

من المواضع التي عاجلتها رواية “مستر نون” الحرب التي تعيشها سوريا والسوريون، على أن اللبنانيين مرّوا بها سابقاً، ويعيشونها الآن أيضاً، على أكثر من مستوى. يعني أن الحرب الأهليّة اللبنانيّة تجدد شبابها في الحرب الأهليّة السوريّة، مع بعض الفروق والاختلافات. وإن السوريين منذ 2012 وحتّى الآن، هم لبنانيو سنوات 1976-2020. ويمكن القول، بثقة، إن رواية “مستر نون” خطوة أدبية أخرى، مضافة إلى خطوات سابقة من التضامن الإنساني والأخلاقي والسياسي مع الضحايا في سوريا، من قبل قطاعات مهمّة من النخب اللبنانيّة. وبالتالي، الحرب الأهليّة في سوريا، أصبحت حرب اللبنانيين أيضاً. منهم من تضامن مع الثورة على نظام الأسد. وهناك قطاعات واسعة من الساسة والأحزاب والنخب اللبنانيّة وقفت مع نظام الأسد. وضلوع “حزب الله” في هذه الحرب، وإراقة دماء الشباب اللبناني الشيعي على الأرض السوريّة، دفاعاً عن مصالح إيران ليس في لبنان وحسب، بل في سوريا أيضاً، مثال صغير على ذلك. إضافة إلى كل ما سلف، مئات آلاف اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان، وارتفاع العنصريّة ضدّهم. كل هذه المستويات من التأثّر والتفاعل اللبناني مع الأزمة السوريّة، سلباً وإيجاباً، جعل من الحرب السوريّة، حرباً لبنانيّة أيضاً. أبعد من ذلك، إحدى شخصيّات الرواية؛ امرأة سوريّة، وأستاذة في جامعة حلب؛ مريم، الناجية من الحرب، لكنها فقدت زوجها وابنيها المراهقين وطفلتها ذات السبع سنوات، في انفجار منزلها، نتيجة قصف النظام السوري الأحياء المدنيّة بالبراميل المتفجّرة (ص119). هذه الضحيّة “الناجية” تقرر الانتحار واللحاق بأسرتها.

لبنان أيضاً وأيضاً:

تتناول بركات أحوال لبنان المزرية، وأوحال سياسييه الفاسدين، من دون الانجرار إلى الخطاب السياسي المناهض المباشر. تحدّثت عن الفوضى والعشوائيات، والزبالة، والدعارة. سواء على ألسنة أبطالها، أو على لسان الراوية. وتشير بأصابع الاتهام نحو الدولة إلى أنها تغطّي على الدعارة والإتيان بالخادمات والزجّ بهنّ في سوق الدعارة: “يأتين خادمات، ثم يهربن ويتحوّلن إلى شراميط (…) عناصر الدرك يعرفون أنهن بلا أوراق. لكنهم لا يقبضون عليهن. لماذا؟ لأنهم يفرضون عليهن خوّة” (ص183-184). وعليه، نحن إزاء دولة يقودها الفساد والطائفيّة وأمراء الحرب. وفي إشارة ساخرة وناقدة للإعلام اللبناني، تجعل بركات من القوّاد “مستر جو” الذي يجنّد الخادمات الآسيويّات في الدعارة، قارئاً لصحيفة “الديار” الموالية لنظام الأسد ولحزب الله! (ص147). ليس هذا وحسب، بل تجعل من مجرم الحرب السابق، لقمان، يتذمّر من الأوضاع في لبنان بالقول: “كيف لكَ أن تبقى سويّاً في بلدٍ كهذا، لا يخضع لأي عرف أو قانون؟” (ص235)

المفاجآت:

علاوة على التشويق النابض في السرد السلس، فإن رواية “مستر نون” حافلة بالمفاجآت. تصل إلى مرحلة الذروة في الصفحات الأخيرة من الرواية. ليكتشف القارئ؛ أن الفندق ما هو إلاّ مستشفى أو مركز طبّي لمعالجة الأمراض النفسيّة. وأن مدير “الفندق”؛ أندريه، هو الطبيب، و”مس زهرة” ممرضة. و”مستر نون” نزيل ذلك المركز.

المفاجأة الصدمة في هذا العمل، هي الخاتمة التي يفترض فيها أن “مستر نون” يتغلّب على جبنه وتردده، ويقتل لقمان، ويطعنه بالأقلام في البطن. لنكتشف في النهاية أن “مستر نون” كان “السيدة نون”، كاتبة معروفة، أمضت 15 سنة في المركز الطبي، من دون أن يزورها أحد. قضت منتحرة طعناً بأقلام الرصاص من ماركة “فابر كاستيل”.

طيف كافكا:

شعور الطفل بالحرمان واليتم، مع وجود والديه، وبأن أمّه (ثريا) تفضّل شقيقه الكبير (سائد) عليه، بخلاف الطبيعة البشريّة التي تجعل الأمّ تدلل الصغير وتعتني به أكثر من ابنها الكبير. هذا الطفل الذي يشعر بالحنان والعطف يأتيه من المربّية أكثر من أمّه، يكبر وسط أجواء الحرب الأهليّة. يرى والده الذي يخفف عنه معاناته أحياناً، ينتحرُ أمام عينيه. هكذا طفل، من الطبيعي أنه سيعاني من الوسواس القهري مضافاً إلى الاكتئاب، والفصام. لكن السبب الأوّل والرئيس في مأساته تلك، كانت الأمّ.

دوناً عن الكثير من الأسماء، اختارت بركات اسم لقمان الذي ينطوي على دلالة المعرفة والحكمة، باعتباره اسم أحد حكماء العرب، وورد ذكره في القرآن (سورة لقمان: 34 آية) ليكون اسم أحد أمراء الحرب الأهليّة. هذا الأمير، بشكل مباشر أو بغيرهِ، تسبب في انتحار والد “مستر نون”. ومحاولة الأخير أن يصفّي حسابه معه، بأن جعله بطل إحدى رواياته، ويقتله، لكنه، ظهر لـ”مستر نون”، وصار يلاحقه ويضربه، ويلجأ إلى غرفته في الفندق أيضاً، ويهدده. بالتالي، اختيار اسم لقمان أيضاً له دلالته، وأقربها إلى الذهن، ما هو وارد في القول الشائع: “من ظنناه موسى، ظهر لنا أنه فرعون”. أو مَن ظنناه لقمان الحكيم، ظهر أنه مجرم حرب! وفي هذه الثيمة، نقد صريح جهور لدور النخب الثقافيّة، حين تنزلق نحو التورّط في الحروب الأهليّة، بطريقة مباشرة أو بغيرها. محاولات لقمان المتكررة لقتل الكاتب “مستر نون”، فيها أيضاً إشارة إلى محاولات الكتّاب قتل بعضهم البعض، أثناء تخندقهم وتأدلجهم في فترات الحروب الأهليّة. أو الإيحاء إلى أن ثمّة من يضع قناع الحكمة والثقافة والسلام، لكنه من الداخل شيطان من شياطين الجهل والشر والحرب.

من يقرأ “مستر نون” يخال أن هذه الرواية هي المعادل المعاكس لتجربة كافكا وعلاقته السيّئة مع والده، ما دفعه إلى كتابة “رسالة إلى الوالد” عام 1919. وإذا اعتبرنا صدور “مستر نون” في 2019 عن “دار الآداب” اللبنانيّة، عقب مرور مئة عام على صدور “رسالة إلى الوالد” محض مصادفة، بيد أن هناك نقاط تقاطع بين تجربة “مستر نون” وحياته وتجربة كافكا، منها:

1 ـ والدة “مستر نون” قويّة، مستبدّة وتقمع شخصيّته. بينما والده حنون. أما كافكا، وفالده كان مستبدّاً، ظالماً وقامعاً، وأمّهُ حنون.

2 ـ مهنة الكتابة تجمع “مستر نون” وكافكا. ويجمعهما أيضاً أنهما لم يتزوجا.

3 ـ كلاهما ارتادا المستشفيات. “مستر نون” للعلاج النفسي، وكافكا للعلاج من السلّ.

4 ـ أخوات كافكا البنات الثلاث، قتلن في الهولكوست، أثناء الحرب الثانيّة. والد “مستر نون” انتحر، لأنه تسبب بشكل مباشر أو غير مباشر، في ارتكاب مجزرة بحق أطفال، أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة.

5 ـ والدا “مستر نون” مشغولان عنه. وتعتني به المربيّة والخادمة التي تسكن معهم البيت. كذلك كافكا وأخوته، كان والداهم مشغولين بأعمالهما، ويعتني بهم المربيّاتُ والخدم.

أي عمل روائي، مهما بلغ من العظمة والدقّة في التأليف والمتعة في القراءة، شأن رواية “مستر نون” لا مناص من وجود بعض الهفوات التقنية الطفيفة، التي ينبغي عدم تجاهلها. وإن لم يكن ذكر تلك الهفوات غير صحيحة، كاتب هذه الأسطر هو المستفيد. وإن كان الأمر خلاف ذلك، فكاتب العمل أو كاتبته، هما المستفيدان. في كلتا الحالتين، القارئ يستفيد من الإشارة إلى الهفوات العابرة التي لا يقلل ذكرها من جودة “مستر نون” وأهميته.

ولأن “مستر نون” رواية نفسيّة بامتياز. فإنها تورّط نفسها بنفسها في قراءتين. الأولى، بداعي الكشف والمتعة. والثانية، نقديّة، تحليليّة، نفسيّة، مفتوحة على الكثير من التأويلات. ما هو مفروغ منه، بالنسبة إلي، أن هذا العمل الإبداعي، رواية جوائز، على صعيد الفكرة والبناء واللغة والجودة الفنيّة العالية. وإذا اشتغل عليها سينارست ومخرج بذهن وخيال متقدين، يمكن أن تتحوّل الرواية إلى فيلم سينمائي، ربّما يكون علامة سينمائيّة فارقة في العقدين الأخيرين. ذلك أن الحديث عن ضحايا الحرب ومخلّفاتها، هو أصعب بكثير من الحديث عن الحرب نفسها. بمعنى من المعاني؛ الحديث عن الحرب بشكل غير مباشر، أكثرُ عُسراً ووعورةً ومشقّة من الحديث عنها بشكل مباشر. وهذا ما نجحت فيه نجوى بركات، عبر “مستر نون”، أيّما نجاح.

* كاتب وصحافي كردي سوري

المصدر: درج

التعليقات مغلقة.