الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حول الوطنية السورية… كي لا نبقى في الوهم

ريمون المعلولي *

الوطنية – كما أفهمها – هي تلك الرابطة الوجدانية بين أفراد الجماعة الإنسانية والموطن/ الموئل الذي يقيمون فيه، وتعدّ مشاعر الانتماء أحد أهمّ تعبيرات الوطنية. وكأي عاطفة إنسانية، تولد الوطنية عاطفة فردية، وسرعان ما تعمم وتغدو ذات بعد اجتماعي.

تولد عاطفة الوطنية لدى الإنسان، وتنمو في سياقات معقدة من الخبرات والعلاقات التي يعيشها ويقيمها مع غيره من أفراد الجماعة/ الجماعات التي ينتمي إليها، ومع المحيط/ الموئل – الوطن، حيث يستمد منه مقومات حياته. وتختلف شدة العاطفة الوطنية وطبيعتها، بحسب طبيعة الخبرات، حيث تترافق الخبرات الإيجابية مع مشاعر العزّة والفخر بالوطن، وبالانتماء إليه، على خلاف ما ينتج عن الخبرات السلبية.

وفي سياق سلسلة من العمليات الذهنية المعقدة التي يمارسها الأفراد بصورة مستمرة، حيال خبراتهم المعيشة، من تحليل وتركيب ومقارنة وتجريد، وعبر سياقات ومسارات متعددة ومعقدة وطويلة المدى، يتمكنون من استنباط خصائصهم الجوهرية ووعيهم لها، فتكون لهم هوية تميزهم عن غيرهم من الشعوب وتوحدهم.

والوطنية – باعتبارها عاطفة انتماء وولاء- وإن كانت ذات طبيعة نفسية، هي مفهوم دينامي ومركب يتضمن أبعادًا متعددة، منها: الوعي بموضوع العاطفة/ الوطن، والاعتقاد به، والاستعداد للعمل والممارسة الحية. إنها أبعاد متفاعلة فيما بينها، تؤثر وتتأثر ببعضها، وهي من جهة أخرى، عاطفة مكتسبة غير فطرية أو مورثة، تُولد وتنمو وتكبر لدى الأفراد، وقد تضعف وتموت.

تتجلى الوطنية، كما تم وصفها، من خلال القيم والمواقف والمشاعر التي يحملها الفرد/ الجماعة تجاه الوطن، وبالطبع، تتجلى في سلوكه الفعلي، ومدى اتساقه مع القيم والمواقف والمشاعر التي يكنّها لهذا الوطن.

هل تمتع السوريون بمشاعر الوطنية قبل ثورتهم في آذار 2011؟ وهل صحيح أن الشعب السوري كان واحدًا، كما ردد المتظاهرون في بدايات الثورة؟

وإذا كان للأحداث المأساوية التي عاشها السوريون، طوال السنوات التسع الأخيرة، دورٌ في تشتيت انتماءاتهم وتوزعها على تكوينات “ما دون الوطنية”؛ فما نصيب النظام السياسي المسيطر منذ نصف قرن في ذلك؟

وهل شكّلت التنويعات الاثنية والدينية والطوائفية.. إلخ التي يتميز بها السوريون أرضيةً موضوعيةً، قام النظام الحاكم باستثمارها لمصلحته، من خلال اتباعه لسياسة “فرّق تسُد”، وذلك من أجل إجهاض أي فرصة لنمو الروح الوطنية السورية الجامعة؟

في الأصل، لم تكن الهوية السورية، في منظور حزب البعث والسلطة الحاكمة، سوى ساقية صغيرة ترفد نهر “القومية العربية”، فكانت هوية السوري هي العربية، وقد غرسها في عقول الناشئة على مدى عقود كرستها سياسته التربوية والإعلامية، فكان الوطن هو العربي، وكانت الأمة هي العربية، وعمد إلى تبسيط التنويعات الاثنية للسوريين، من خلال اختزالها في النوع العربي الوحيد، ومن طرائف ذلك انتساب العديد من الأكراد والتركمان والآشوريين إلى حزب البعث، الأمر الذي يرتّب على هؤلاء القيام بمسؤوليات البعثي العربي، في وقت حُرموا فيه من ممارسة أبسط حقوقهم الثقافية، وفي مقدمها التعلّم بلغاتهم الأم.

من جهة أخرى، مارس نظام البعث الحاكم ابتزازًا مضمرًا بحق الوطنية السورية، حين كان يستعين بها كلّما دعته الحاجة لها، وخصوصًا في أوقات الأزمات التي تواجهه، كالحروب والاحتجاجات الشعبية، إذ كان يلجأ إلى استخدام “عدّة الوطنية”، كالأعلام والأغاني والأناشيد والرموز الوطنية، بغية شدّ العصب الوطني، وحينئذ تبدو الوطنية السورية في غاية تماسكها! وهي في حقيقة الأمر وطنية هشة وسطحية وممزقة. وما إن يستشعر النظام الأمان ثانية حتى يطوي علم الوطن ويركنه في صناديقه، مقابل إعادة رفع علم البعث وباقي شعاراته القومية.

ومما زاد في شرذمة الوطنية السورية، لجوء النظام إلى اتباع تكتيكات تهدف إلى تقسيم السوريين والإيقاع بين مكوناتهم: الاثنية والدينية والطوائفية والاجتماعية والمناطقية، أفرادًا وجماعات، منها مثلًا اعتماد نهج المحاصصة عند توزيع المكاسب “المناصب” على المكونات المختلفة، والتدخل في شؤونها، وضبط إيقاعاتها على إيقاعه: مشايخ العشائر ورجال الدين والطوائف والأقاليم، واستخدام أسلوب العصا والجزرة. فضلًا عن نشر قيم الولاء للفرد القائد، كمعادل للولاء لسورية، ودأبه على طمس تاريخ سورية وتزويره له، من خلال التجاهل المتعمد للرموز الوطنية، في مقابل إبراز الفرد القائد باعتباره صانع التاريخ والحاضر وضامن المستقبل. فالوطنية السورية، في ظل حكم البعث، لم تكن يومًا مؤسسة على الوعي والرضى والحرية والحب.

ربما عاش السوريون وطنيتهم عبر ومضات تاريخية قصيرة، كانت بدايتها في إعلان المؤتمر السوري العام، في 8 آذار 1920، عن قيام دولة في سوريا الطبيعية، وتعيين فيصل ملكًا دستوريًا عليها، وصوغ دستور 1920. ثم خلال النضال الوطني ضد الاحتلال الفرنسي وثورات التحرر الوطني إلى نيل الاستقلال الوطني، في نيسان 1946، صعودًا إلى التجربة الديمقراطية الفريدة التي مرت بها سورية خلال الأعوام (1954-1957)

لقد كانت ثورة آذار 2011 الفرصة الذهبية الأكثر ملائمة من أجل التقاط “الوطنية السورية”، من قبل الشباب الذين خرجوا ضد النظام وهتفوا بملء حناجرهم: “الشعب السوري واحد”.

وفي ظني أنه كان شعارًا معبّرًا عن رغبة جامحة لدى الثوار في تجسيد سوريتهم الموحِدة لهم، عبر توليدها أو غرس بذرتها من جديد، أكثر من كونه تعبيرًا عن حقيقة منجزة ومجسدة.

مع ذلك، على السوريين أن يعلموا أن استمرار نضالهم، وانتصارهم لثورتهم، بإسقاط النظام الحالي، وبناء نظام سياسي جديد ودولة سورية حديثة هو المعادل الحقيقي لانتصار وطنيتهم السورية المؤسسة على التعددية السياسية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والمواطنة المتساوية لكل أطياف السوريين.

* باحث وأستاذ جامعي سوري

المصدر: مركز حرمون

التعليقات مغلقة.