الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الميثاق الوطني – جمال عبد الناصر


                                   البــاب السـابـع

الإنتاج والمجتمع

لقد مضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الذى كان مصير الأمة العربية وشعوبها وأفرادها يتقرر في العواصم الأجنبية، وعلى موائد المؤتمرات الدولية، أو في قصور الرجعية المتحالفة مع الاستعمار.

إن الإنسان العربي قد استعاد حقه في صنع حياته بالثورة. إن الإنسان العربي سوف يقرر بنفسه مصير أمته على الحقول الخصبة، وفى المصانع الضخمة، ومن فوق السدود العالية، وبالطاقات الهائلة المتفجرة بالقوى المحركة.

إن معركة الإنتاج هي التحدي الحقيقي الذى سوف يثبت فيه الإنسان العربي مكانه الذى يستحقه تحت الشمس. إن الإنتاج هو المقياس الحقيقي للقوة الذاتية العربية تعويضاً للتخلف، واندفاعاً للتقدم، ومقدرة على مجابهة جميع الصعاب والمؤامرات والأعداء، وقهرهم جميعاً وتحقيق النصر فوق شراذمهم المندحرة. والهدف الذى وضعه الشعب المصري أمام نفسه ثورياً بمضاعفة الدخل القومي، مرة على الأقل كل عشر سنوات، لم يكن مجرد شعار؛ وإنما كان حاصلاً صحيحاً لحساب القوة المطلوبة لمواجهة التخلف، والسبق إلى التقدم مع مراعاة التزايد في عدد السكان.

إن مشكلة التزايد في عدد السكان هي أكثر العقبات التي تواجه جهود الشعب المصري في انطلاقه نحو رفع مستوى الإنتاج في بلاده بطريقة فعالة وقادرة، وإذا كانت محاولات تنظيم الأسرة بغرض مواجهة مشكلة تزايد السكان تستحق أصدق الجهود المعززة بالعلوم الحديثة؛ فإن ضرورة الاندفاع نحو زيادة الإنتاج بأقصى سرعة وكفاية ممكنة تحتم أن يحسب لهذا الأمر حسابه في عملية الإنتاج؛ بصرف النظر عن الآثار التي يمكن أن تترتب على تجربة تنظيم الأسرة. إن مضاعفة الدخل كل عشر سنوات تسمح بنسبة نمو اقتصادي تتقدم بكثير على زيادة عدد السكان، وتسمح بفرصة حقيقية لرفع مستوى المعيشة؛ برغم هذه المشكلة المعقدة. إن مقدرة الشعب المصري يجب أن توضع موضع الاختبار إيجابياً؛ بالتزامه هذا الهدف الذى ينبغي وضعه دائماً أمام النضال الوطني، بل إن المقياس الحقيقي للإرادة الوطنية يرتبط ارتباطاً مباشراً باختصار مدة مضاعفة الدخل القومي إلى أقل من عشر سنوات، بكل المسافة التي يطيق الجهد الوطني تحملها.

إن الوصول إلى ذلك الهدف ممكن بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي، ودونما تضحية بالأجيال الحية من المواطنين لمصلحة الأجيال التي لم تولد بعد. إن إمكانية تحقيق هذا الهدف لا تعتصر قواهم تحت ضغط المسئولية، وإنما كل الذى تتطلبه منهم هو العمل المنظم والأمين؛ في إطار الأهداف الإنتاجية للخطة، وبوحى من الفكر الاجتماعي الذى يرسم لها طريقها إلى صنع المجتمع الجديد، وما يمكن لهذا الفكر أن يطوره من قيم أخلاقية جديدة ومعان إنسانية متفتحة للحياة، نابضة بها.

إن ذلك يتطلب جهوداً جبارة في ميادين تطوير الزراعة والصناعة، وهياكل الإنتاج الأساسية اللازمة لهذا التطوير؛ وبالذات طاقات القوى المحركة ووسائل المواصلات.

إن التطبيق العربي للاشتراكية في مجال الزراعة لا يؤمن بتأميم الأرض وتحويلها إلى مجال الملكية العامة، وإنما هو يؤمن استناداً إلى الدراسة وإلى التجربة بالملكية الفردية للأرض في حدود لا تسمح بالإقطاع. إن هذه النتيجة ليست مجرد انسياق مع حنين الفلاحين العاطفي الطويل إلى ملكية الأرض؛ وإنما الواقع أن هذه النتيجة نبعت من الظروف الواقعية للمشكلة الزراعية في مصر، والتي أكدت قدرة الفلاح المصري على العمل الخلاق إذا ما توفرت له الظروف الملائمة.

إن كفاية الفلاح المصري على امتداد تاريخ طويل عميق بالخبرات المكتسبة من التجربة قد وصلت في قدرتها على استغلال الأرض إلى حد متقدم؛ خصوصاً إذا ما أتيحت له الفرصة للاستفادة من نتائج التقدم العلمي للزراعة، يضاف إلى ذلك أنه منذ عصور بعيدة في التاريخ توصلت الزراعة المصرية إلى حلول اشتراكية صحيحة لأعقد مشاكلها؛ وفي مقدمتها الري والصرف، وهما في مصر الآن ومنذ زمان طويل في إطار الخدمات العامة.

من هنا فإن الحلول الصحيحة لمشكلة الزراعة لا تكمن في تحويل الأرض إلى الملكية العامة وإنما هي تستلزم وجود الملكية الفردية للأرض، وتوسيع نطاق هذه الملكية بإتاحة الحق فيها لأكبر عدد من الأجراء؛ مع تدعيم هذه الملكية بالتعاون الزراعي على امتداد مراحل عملية الإنتاج في الزراعة من بدايتها إلى نهايتها.

إن التعاون الزراعي ليس هو مجرد الائتمان البسيط الذى لم يخرج التعاون الزراعي عن حدوده حتى عهد قريب، وإنما الآفاق التعاونية في الزراعة تمتد على جبهة واسعة؛ إنها تبدأ مع عملية تجميع الاستغلال الزراعي الذى أثبتت التجارب نجاحه الكبير، وتساير عملية التمويل التي تحمى الفلاح وتحرره من المرابين، ومن الوسطاء الذين يحصلون على الجزء الأكبر من ناتج عمله، وتصل به إلى الحد الذى يمكنه من استعمال أحدث الآلات والوسائل العملية لزيادة الإنتاج، ثم هي معه حتى التسويق الذى يمكن الفلاح من الحصول على الفائدة العادلة تعويضاً عن عمله وجهده وكده المتواصل. إن المواجهة الثورية لمشكلة الأرض في مصر كانت بزيادة عدد الملاك، لقد كان ذلك هو الهدف من قوانين الإصلاح الزراعي التي صدرت سنة 52 وسنة 61؛ كذلك فإن هذا الهدف – فضلاً عن أهداف زيادة الإنتاج – كان من القوى الدافعة وراء مشاريع الري الكبرى، والتي أصبح رمزها العتيد سد أسوان العالي؛ الذى خاض الشعب في مصر صنوف الحروب المسلحة والاقتصادية والنفسية لكى يبنيه.. إن هذا السد أصبح رمزاً لإرادة الشعب وتصميمه على صنع الحياة، كما أنه رمز لإرادته في إتاحة حق الملكية لجموع غفيرة من الفلاحين؛ لم تسنح لها هذه الفرصة عبر قرون طويلة ممتدة من الحكم الإقطاعي. إن نجاح هذه المواجهة الثورية لمشكلة الزراعة؛ هذه المواجهة القائمة على زيادة عدد الملاك لا يمكن تعزيزه إلا بالتعاون الزراعي، وإلا بالتوسع في مجالاته إلى الحد الذى يكفل للملكيات الصغيرة للأرض اقتصاداً قوياً نشيطاً.

إن هناك بعد ذلك كله ثلاثة آفاق ينبغي أن تنطلق إليها معركة الإنتاج الجبارة من أجل تطوير الريف:

أولها: الامتداد الأفقي في الزراعة عن طريق قهر الصحراء والبوار. إن عمليات استصلاح الأرض الجديدة لا يجب أن تتوقف ثانية واحدة، إن الخضرة يجب أن تتسع مساحتها مع كل يوم على وادى النيل، وينبغي الوصول إلى الحد الذى تصبح فيه كل قطرة من ماء النيل قادرة على التحول فوق ضفافه إلى حياة خلاقة لا تهدر هباء ولا تضيع. إن هناك اليوم كثيرين ينتظرون دورهم ليملكوا في أرض وطنهم، والمستقبل يحمل مع كل جيل جديد أفواجاً من المتطلعين بحق إلى ملكية الأرض.

والثاني: هو الامتداد الرأسي في الزراعة عن طريق رفع إنتاجية الأرض المزروعة. إن الكيمياء الحديثة قد لمست ثورياً طرق الزراعة وأساليبها؛ وذلك بواسطة الأسمدة والمبيدات الحشرية، واستنباط أنواع جديدة من البذور؛ كذلك فإن هناك احتمالات هائلة عن طريق العلم المنظم تمكن من تنمية الثروة الحيوانية؛ بما يمنح الاقتصاد الزراعي للفلاح تدعيماً محققاً؛ كذلك فإن هناك احتمالات كبيرة وراء إعادة دراسة اقتصاديات المحاصيل الزراعية للأرض المصرية، وتنويعها على أساس نتائج هذه الدراسة.

والثالث: إن تصنيع الريف اتصالاً بالزراعة يفتح فيه أبعاداً هائلة لفرص العمل، وينبغي أن نذكر دائماً أن الصناعة بالتقدم الآلي ليست في مركز يسمح لها بامتصاص كل فائض الأيدي العاملة على الأرض الزراعية، وذلك في الوقت الذى لم يعد فيه جدال في أن حق العمل في حد ذاته هو حق الحياة، من حيث هو التأكيد الواقعي لوجود الإنسان وقيمته؛ لذلك فإن مشكلة العمالة يجب أن تجد جزءاً من حلولها في الريف ذاته وتصنيع الريف، فضلاً عن قدرته على رفع قيمة الإنتاج الزراعي؛ يعزز العناصر العاملة في الحقول بقوى جديدة من العمال الفنيين العاملين في خدمة الإنتاج الزراعي في جميع مراحله.

إن تطوير عملية الإنتاج في الريف سوف يساعد في نفس الوقت على إيجاد القوى البشرية المنظمة التي تستطيع بدورها تغيير شكل الحياة فيه تغييراً ثورياً حاسماً. إن التعاون سوف يخلق المنظمات التعاونية القادرة على تحريك الجهود الإنسانية في الريف لمواجهة مشاكله؛ كذلك نقابات العمال الزراعيين سوف تكون قادرة على تجنيد جهود الملايين الذين ضيعتهم البطالة المقنعة، وأهدرت بالسلبية طاقاتهم. إن هذه القوى هي الخلايا التي تستطيع أن تنسج خيوط الحياة في الريف من جديد، وتصنع منها قماشاً حضارياً يقرب القرية إلى مستوى المدينة. إن وصول القرية إلى المستوى الحضري ليس ضرورة عدل فقط؛ ولكنه ضرورة أساسية من ضروريات التنمية.

إن المدينة مسئولة مسؤولية ضمير ومصير عن العمل الجاد في القرية؛ من غير تعال عليها، ومن غير خيلاء. إن وصول القرية إلى مستوى المدينة الحضاري وخصوصاً من الناحية الثقافية سوف يكون بداية الوعى التخطيطي لدى الأفراد؛ وهو الوعى الذى يقدر على مواجهة أصعب المشاكل التي تعترض التنمية وتهددها؛ وهى مشكلة تزايد عدد السكان. إن الإدراك العميق لضرورة التخطيط في حياة الفرد سوف يكون هو الحل الحاسم لمشكلة تزايد السكان، وهو الذى يغير من حالة الاستسلام القدري حيالها، ويضع مكانها الشعور بالمسئولية وإقامة الاقتصاد العائلي على أساس من الحساب.

إن الصناعة هي الدعامات القوية للكيان الوطني، وهى القادرة على الوفاء بأعظم الآمال في التطوير الاقتصادي والاجتماعي، والصناعة هي الطاقة الخلاقة التي تستطيع أن تتجاوب مع التخطيط الواعي المدروس، وتفي ببرامجه دونما عوائق غير منظورة تصعب السيطرة عليها، ومن ثم فهي القادرة في أسرع وقت على توسيع قاعدة الإنتاج توسيعاً ثورياً حاسماً. إن اتجاهنا إلى الصناعة يجب أن يكون واعياً، وأن يأخذ في اعتباره جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية في معركة التطوير الكبرى.

فمن الناحية الاقتصادية؛ ينبغي أن يكون اتجاهنا إلى آخر ما وصل إليه العلم. إن حصولنا على أدوات العمل الجديدة المتقدمة لا يكفل لنا مجرد نقطة بداية سليمة؛ وإنما هو يكفل أيضاً تعويضاً عن التخلف، ويعطى الصناعة المصرية – بالجديد الذى تأخذ به – مركز امتياز يعوض التقدم الصناعي الذى بدأ فيه غيرنا، في وقت لم تكن آلات الإنتاج قد وصلت فيه إلى ما هي عليه الآن من تفوق، وينبغي في هذا المجال أن يطرح الرأي القائل بأن استخدام الآلات الحديثة سوف لا يفتح المجال كاملاً للعمالة؛ باعتبار أن هذه الآلات الحديثة – خصوصاً بالتقدم الذى وصلت إليه – لا تحتاج إلى قوة عمل واسعة، إن ذلك الرأي قد يكون صحيحاً في المدى القريب، ولكن أثره يتلاشى تماماً في المدى الطويل؛ فإن الآلات الحديثة قادرة بسرعة على توسيع قاعدة الإنتاج، وهذا هو الذى يكفل بدوره غزو الآفاق الجديدة في التصنيع؛ وبالتالي يتيح فرصاً أوسع للعمالة.

إن مجالات العمل الصناعي في مصر ليست لها حدود. إن الصناعة المصرية تقدر أن تمد العمل المبدع الخلاق إلى أقاصي الأرض المصرية. إن مصادر الثروة الطبيعية والمعدنية لازالت تحتفظ بالكثير من أسرارها، ولقد طال إهمال مساحات شاسعة من الأرض، لم تزد الجهود التي وجهت إليها حتى الآن عن مجرد خدوش على سطحها. إن العمل العلمي الصناعي وحده هو القادر على أن يجعل الأرض المصرية تبوح بكل أسرارها، وتفيض بما في باطنها من ثروات طبيعية ومعدنية لخدمة التقدم. إن هذه المصادر تستطيع أن تكون عموداً فقرياً للصناعة الثقيلة القادرة بدورها على خلق أدوات الإنتاج الجديدة، وإن أهمية خاصة يجب أن توجه إلى الصناعات الثقيلة؛ فبها يمكن أن يوضع الأساس الحقيقي الذى تقوم عليه الصناعة الحديثة.

إن المواد الخام من الزراعة أو من المناجم لا بد لها من عمليات التصنيع المحلية التي تكسبها قيمة مضافة في الأسواق، وهى بذلك تعزز قدرة الإنتاج الصناعي؛ كما أنها تفتح أبواباً واسعة للعمالة؛ كذلك فإن الاهتمام الكبير يجب أن يصل إلى الصناعات الاستهلاكية. إن هذه الصناعات فضلاً عما تفتحه من أبواب كثيرة للعمل تسد جزءاً هاماً في مطالب الاستهلاك، وتوفر مصادر قيمة من النقد الأجنبي؛ ثم هي تتيح في الوقت الحاضر فرصة للتوسع في التصدير إلى أسواق قريبة منا، لم نصل فيها بعد إلى مركز المنافسة في الصناعات الثقيلة على المستوى العالمي، والصناعات الغذائية في ظل الصناعات الاستهلاكية تقدر أكثر من أي سبيل آخر على تدعيم اقتصاديات الريف؛ كذلك فإن فيها احتمالات كثيرة لأسواق في الدول المتقدمة التي يرتفع فيها الطلب الاستهلاكي بارتفاع مستوى المعيشة فيها، وبصورة شاملة فإن الصناعة يجب أن تضع في برامجها تصنيع كل ما تقدر على تصنيعه من المواد الخام؛ تصنيعاً جزئياً أو تصنيعاً كاملاً؛ فإن ذلك يحقق أكبر الأهداف من عملية التطوير، إنه يحقق زيادة الإنتاج ويحقق مواجهة مطالب الاستهلاك؛ كما أنه يفتح الفرص للأيدي القادرة على العمل، والتي تطلبه كحق إنساني مقدس، وفى نفس الوقت فهو مصدر للنقد الأجنبي الذى يواجه المطالب المتزايدة لمعركة التطوير.

ومن الناحية الاجتماعية؛ فإن الصناعة مسئولة عن إقامة التوازن الإنساني الذى لا بد منه بين مطالب الإنتاج واحتياجات الاستهلاك. إن الفلسفة التي قامت عليها سياسة التصنيع في مصر حققت هذا الهدف بالتوازن الذى أقامته بين الاتجاه إلى الصناعة الثقيلة، وبين الاتجاه إلى الصناعات الاستهلاكية. إن الصناعة الثقيلة هي دون شك القاعدة الثابتة للكيان الصناعي الشامخ، لكن بناء الصناعات الثقيلة مع الأولوية المحققة التي يجب أن تمنح له، لا يجب أن يوقف التقدم نحو الصناعات الاستهلاكية.

إن حرمان جماهير شعبنا طال مداه، وتجنيدها تجنيداً كاملاً لبناء الصناعة الثقيلة، وإغفال مطالبها الاستهلاكية؛ يتنافى مع حقها الثابت في تعويض حرمانها الطويل، ثم هو يعطل – من غير مبرر حقيقي – إمكانيات الوفاء بتطلعاتها المتسعة، ومن ناحية أخرى فإن الصناعة تطور شكل العمل في مصر تطويراً ثورياً بعيد الأثر، وإن النجاح العظيم الذى حققته الصناعة منذ بدأت برامجها المنظمة في مصر؛ كان السند العملي للحقوق الثورية التي حصلت عليها الطبقة العاملة ضمن قوانين يوليو سنة 1961.

إن هذه الحقوق الثورية جعلت الآلات ملكاً للعمل، ولم تجعل العمل ملكاً للآلات. لقد أصبح العامل هو سيد الآلة، ولم يعد أحد التروس في جهاز الإنتاج. إن هذه الحقوق الثورية كفلت حداً أدنى للأجور، واشتراكاً إيجابياً في الإدارة، يصاحبه اشتراك حقيقي في أرباح الإنتاج؛ وذلك في ظل ظروف للعمل تكفل الكرامة للإنسان العامل؛ وعلى هذا الأساس فقد أصبح يوم العمل هو سبع ساعات.

إن ذلك التغيير الثوري في الحقوق العمالية لابد أن يقابله تغيير ثوري في الواجبات العمالية، إن مسئولية العمل يجب أن تكون كاملة عن أدوات الإنتاج التي وضعها المجتمع كله تحت إرادته. لقد أصبحت مسئولية العمل بأدوات الإنتاج التي يتولى الحفاظ عليها وتشغيلها بكفاية وأمان، وبالاشتراك في الإدارة والأرباح مسئولية كاملة في عملية الإنتاج. إن ذلك الوضع الجديد لا يلغى دور التنظيمات العمالية، وإنما هو يزيد من أهمية دورها.. إنه يمد هذا الدور ويوسعه من مجرد كونها طرفاً مقابلاً لطرف الإدارة في عملية الإنتاج إلى الحد الذى يجعل منها قائدة طليعية في عملية التطوير.

إن النقابات العمالية تستطيع ممارسة مسئولياتها القيادية عن طريق الإسهام الجدى في رفع الكفاية الفكرية والفنية؛ ومن ثم رفع الكفاية الإنتاجية للعمال، كذلك هي تستطيع ممارسة مسئولياتها عن طريق صيانة حقوق العمال ومصالحهم، ورفع مستواهم المادي والثقافي، ويدخل في ذلك اهتمامها بمشروعات الإسكان التعاوني والاستهلاك التعاوني وتنظيم الاستفادة المجدية صحياً ونفسياً وفكرياً من أوقات الفراغ والإجازات؛ بما يساهم في تحقيق الرفاهية للجموع العاملة.

إن مكانة العمال في المجتمع الجديد لم يعد لها الآن من مقياس غير إنجاح عملية التطوير الصناعي، وغير طاقتهم على العمل من أجل هذا الهدف، وغير كفايتهم في الوصول إليه. إن التوسع في طاقات القوى المحركة، وفى إقامة هياكل الإنتاج الرئيسية؛ هو أساس الانطلاق نحو الأهداف الجديدة للإنتاج في الزراعة وفى الصناعة معاً.

إن وصول القوى المحركة إلى كل مكان في مصر هو شرارة الثورة القادرة على تحريك طاقات التغيير الجذري اقتصادياً واجتماعياً؛ من التخلف الذى كان إلى التقدم الذى يتطلع إليه النضال الوطني. إن الوطن كله ينبغي أن تغطيه بكفاية شبكات السكك الحديدية والطرق والمطارات؛ فإن سهولة المواصلات ويسرها، تستطيع أن تقوم بالمعجزات في تحقيق الوحدة الإنتاجية في الوطن؛ ومن ثم تؤدى إلى وحدة الرخاء على أرضه، دون عزلة تفرض على أجزاء منه. إن اهتماماً خاصاً يجب أن يوجه إلى الصناعات البحرية في بلد يقع في قلب العالم البحري، ويطل على أعظم بحاره أهمية من نواحي الاقتصاد والسياسة وهما البحران الأبيض والأحمر. إن احتياجات الإنتاج الصناعي في جميع النواحي تفتح إمكانيات كبيرة لرأس المال الوطني غير المستغل لكى يقوم بجانب القطاع العام بدور هام ومسئول في عملية الإنتاج كلها، بل إن استمرار دور القطاع الخاص بجانب القطاع العام يزيد من فعاليات الرقابة على الملكية الشعبية العامة، ويقوم بدور عامل منشط لها؛ بما يفتحه من مجالات المنافسة الحرة في إطار التخطيط الاقتصادي العام.

إن قوانين يوليو الثورية العظيمة سنة 61 لم تكن تستهدف القضاء على القطاع الخاص؛ وإنما كان لها هدفان أساسيان:

الهدف الأول: خلق نوع من التكافؤ الاقتصادي بين المواطنين، يحقق العدل المشروع، ويقضى على آثار احتكار الفرصة للقلة على حساب الكثرة، ويساهم في الوقت نفسه في عملية تذويب الفوارق بين الطبقات، بما يعزز احتمالات الصراع السلمى بينها، ويفتح الأبواب للحلول الديمقراطية للمشاكل الكبرى التي تواجه عملية التطوير.

والهدف الثاني: زيادة كفاءة القطاع العام الذى يملكه الشعب، وتعزيز قدرته على تحمل مسئولية التخطيط، وتمكينه من دوره القيادي في عملية التطوير الصناعي على الأساس الاشتراكي.

إن هذين الهدفين قد تحققا بنجاح رائع يؤكد قوة الدفع الثوري، كما يؤكد عمق الوحدة الوطنية. إن تحقق هذين الهدفين يزيل بقايا العقد التي صنعها الاستغلال الذى ألقى ظلالاً من الشك على دور القطاع الخاص؛ وبالتالي فإن الطريق أمام هذا القطاع الآن لا تقيده غير القوانين الاشتراكية المعمول بها وحدها الآن، أو ما قد تراه السلطات الشعبية المنتخبة مستقبلاً من خطوات لازمة لدفع عملية التطوير.

إن الحدود الاشتراكية التي تم رسمها بدقة في قوانين يوليو قد قضت على آثار الاستغلال، وتركت الباب مفتوحاً للاستثمار الفردي الذى يخدم المصلحة العامة للتطوير؛ كما يخدم مصلحة أصحابه في الربح المشروع بدون استغلال. إن الذين يتصورون أن قوانين يوليو قد قيدت المبادرة الفردية يقعون في خطأ كبير. إن المبادرة الفردية يجب أن تكون قائمة على العمل، وعلى المخاطرة، وما كان قائماً في الماضي كان يعتمد على الإنتاج قبل العمل، وعلى حماية الاحتكار التي تنفى كل احتمال للمخاطرة؛ وهى الحجة التي يستند إليها رأس المال الفردي في نصيبه من الربح، ومن ناحية أخرى فإن المبادرة الفردية بالطريقة التي كانت قائمة بها لم تكن تقدر على مسئوليات الأمان الوطنية.

إن الاستثمارات الجديدة التي توجه الآن للصناعة تساوى أكثر من مائة مرة ما كان يوجه منها في سنوات ما قبل الثورة. إن إعادة توزيع الثروة لا تعرقل طريق التنمية؛ وإنما هي تنشطها من حيث هي تزيد عدد القادرين على الاستثمار. إن رأس المال الفردي في دوره الجديد يجب أن يعرف أنه خاضع لتوجيه السلطة الشعبية؛ شأنه في ذلك شأن رأس المال العام، وإن هذه السلطة هي التي تشرع له، وهى التي توجهه على ضوء احتياجات الشعب، وإنها قادرة على مصادرة نشاطه إذا ما حاول أن يستغل أو ينحرف، إنها على استعداد لأن تحميه، ولكن حماية الشعب واجبها الأول.

إن رأس المال الأجنبي ودوره في الاستثمار المحلى أمر يمكن الاستطراد إليه في هذه المرحلة. إن رأس المال الأجنبي تحيط به في نظر الدول المتخلفة – خصوصاً تلك التي كانت مستعمرات فيما مضى – سحب من الشكوك والريب المظلمة. إن سيادة الشعب على أرضه واستعادته لمقدرات أموره تمكنه من أن يضع الحدود التي يستطيع في ظلالها أن يسمح لرأس المال الأجنبي بالعمل في بلاده. إن الأمر يتطلب وضع أولويات هي في الواقع من خلاصة التجربة الوطنية؛ كما أنها تأخذ في الاعتبار طبيعة رأس المال العالمي، الذي يفضل دائماً أن يجرى وراء الموارد الخام البكر؛ في مناطق لم تتهيأ للنهوض الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث يستطيع في ظروفها أن يحصل على أعلى نسبة من الفائدة؟

من هنا فإن التطوير الوطني في الدرجة الأولى يقبل كل المعونات الأجنبية غير المشروطة التي تساعده على تحقيق أهدافه وهو يقبلها بكل العرفان الصادق لمقدميها، مهما كانت ألوان أعلامهم، وفى الدرجة الثانية فإن التطوير الوطني يقبل كل القروض غير المشروطة التي يستطيع أن يفي بها دون عنت أو إرهاق، والخروج بالتجربة طريقة واضحة في حدودها؛ فإن مشكلتها تنتهى تماماً بعد سدادها وبعد سداد الفوائد المستحقة عليها، والتطوير الوطني في الدرجة الثالثة مستعد للقبول باشتراك رأس المال الأجنبي في أوجه نشاطه الوطني كمستثمر؛ على أن يكون ذلك في العمليات الضرورية خصوصاً تلك التي تقتضى خبرات جديدة يصعب توفرها في المجال الوطني.

إن قبول استثمارات أجنبية معناه القبول باشتراك أجنبي في إدارتها، ومعناه القبول بتحويل جزء من أرباحها سنوياً وإلى غير حد إلى المستثمرين؛ وذلك أمر يجب ألا يُترك على إطلاقه. إن الأولوية الأولى للمعونات غير المشروطة، والمكانة الثانية للقروض غير المشروطة، ثم يأتي دور القبول بالاستثمار الأجنبي في الأحوال التي لا مفر فيها من قبوله؛ في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديث.

إن شعبنا في نظرته الثورية الواعية يعتبر أن المساعدات الأجنبية واجب على الدول السابقة في التقدم؛ نحو تلك التي مازالت تناضل للوصول، بل إن شعبنا في إدراكه لعبرة التاريخ يرى أن الدول ذات الماضي الاستعماري ملزمة أكثر وأكثر من غيرها بأن تقدم للدول المتطلعة إلى النمو بعض ما نزحته من ثروتها الوطنية؛ أيام كانت هذه الثروة نهباً مباحاً للطامعين.

إن تقديم المساعدات واجب اختياري على الدول المتقدمة، وهو أقرب ما يكون إلى الضريبة الواجبة السداد على الدول ذات الماضي الاستعماري؛ تعوض به الذين استغلتهم عن طول استغلالها لهم. إن الانتاج كله للمجتمع، في خدمته ولتحقيق سعادته، ولتأمين الرفاهية وتوفيرها لكل فردٍ فيه. والمجتمع ليس وصفاً شائعاً .

إن المجتمع هو كل إنسان فرد يعيش على تربة الوطن وترتبط آماله مع آمال غيره من
المواطنين من أجل غدٍ عزيزٍ لهم جميعاً وللأجيال القادمة من أبناءهم وأحفادهم .

وغاية الانتاج الحقيقية هي توفير أكبر قدر ممكن من الخدمات لتكون أعلام الرفاهية التي ترفرف على المجتمع كله . وبقدر اتساع قاعدة الانتاج، وبقدر الاستثمارات الجديدة من المدخرات الوطنية التي يمكن أن تضاف إليها بالعمل الوطني مع كل يوم، تتفتح آفاق جديدة بين المواطنين .

إن تكافؤ الفرص، وهي التعبير عن الحرية الاجتماعية يمكن تحديده في حقوقٍ أساسية لكل مواطن ينبغي تكريس الجهد لتحقيقها:

أولها: حق كل مواطن في الرعاية الصحية بحيث لا تصبح هذه الرعاية، علاجاً ودواء، مجرد سلعة تباع وتشترى، وإنما تصبح حقاً مكفولاً غير مشروطٍ بثمنٍ مادي ولا بد أن تكون هذه الرعاية في متناول كل مواطن في كل ركن من الوطن؛ في ظروف ميسرة وقادرة على الخدمة، ولابد من التوسع في التأمين الصحي حتى يظل بحمايته كل جموع المواطنين .

ثانياً: حق كل مواطن في العلم بقدر ما يتحمل استعداده ومواهبه. إن العلم طريق تعزيز الحرية الإنسانية وتكريمها؛ كذلك فإن العلم هو الطاقة القادرة على تجديد شباب العمل الوطني، وإضافة أفكار جديدة إليه كل يوم، وعناصر قائدة جديدة في ميادينه المختلفة.

ثالثها: حق كل مواطن في عمل يتناسب مع كفايته واستعداده، ومع العلم الذى تحصل عليه. إن العمل فضلاً عن أهميته الاقتصادية في حياة الإنسان تأكيد للوجود الإنساني ذاته، ومن المحتم في هذا المجال أن يكون هناك حد أدنى للأجور يكفله القانون؛ كما أن هناك بحكم العدل حداً أعلى للدخول تتكفل به الضرائب.

رابعها: إن التأمينات ضد الشيخوخة وضد المرض لابد من توسيع نطاقها؛ بحيث تصبح مظلة واقية للذين أدوا دورهم في النضال، وجاء الوقت الذى يجب أن يضمنوا فيه حقهم فى الراحة المكفولة بالضمان.

إن الطفولة هي صانعة كل المستقبل، ومن واجب الأجيال العاملة أن توفر لها كل ما يمكن لها من تحمل مسئولية القيادة بنجاح.

إن المرأة لا بد أن تتساوى بالرجل، ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة.

إن الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، ولابد أن تتوافر لها كل أسباب الحماية التي تمكنها من أن تكون حافظة للتقاليد الوطنية مجددة لنسيجه، متحركة بالمجتمع كله ومعه إلى غايات النضال الوطني. إن مجتمع الرفاهية قادر على أن يصوغ قيماً أخلاقية جديدة لا تؤثر عليها القوى الضاغطة المتخلفة من العلل التي عانى منها مجتمعنا زماناً طويلاً؛ كذلك فإن هذه القيم لابد لها أن تعكس نفسها في ثقافة وطنية حرة؛ تفجر ينابيع الإحساس بالجمال فى حياة الإنسان الفرد الحر.

إن حرية العقيدة الدينية يجب أن تكون لها قداستها في حياتنا الجديدة الحرة. إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان قادرة على هداية الإنسان، وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان، وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الحق والخير والمحبة. إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته، وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته، إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم في بعض الظروف من محاولات الرجعية، أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية، لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية، ولكن الرجعية التي أرادت احتكار خيرات الأرض لمصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكى توقف تيار التقدم.

إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحرية وفى الحياة، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان، إن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء يخط فيها أعماله باختياره الحر، ولا يرضى الدين بطبقية تورث عقاب الجهل والفقر والجهل والمرض لغالبية الناس، وتحتكر ثواب الخير لقلة منهم.
إن الله – جلت حكمته – وضع الفرصة المتكافئة أمام البشر أساساً للعمل في الدنيا وللحساب في الآخرة، وينبغي لنا أن نذكر دائماً أن حرية الإنسان الفرد هي أكبر حوافزه على النضال، إن العبيد يقدرون على حمل الأحجار، وأما الأحرار فهم وحدهم القادرون على التحليق إلى آفاق النجوم.
إن الإقناع الحر هو القاعدة الصلبة للإيمان، والإيمان بغير الحرية هو التعصب، والتعصب هو الحاجز الذى يصد كل فكر جديد ويترك أصحابه بمنأى عن التطور المتلاحق الذى تدفعه جهود البشر في كل مكان.

إن الحرية وحدها هي القادرة على تحريك الإنسان إلى ملاحقة التقدم وعلى دفعه، والإنسان الحر هو أساس المجتمع الحر وهو بنّاؤه المقتدر.
إن حرية كل فرد في صنع مستقبله وفى تحديد مكانه في المجتمع، وفى التعبير عن رأيه، وفى إسهامه الإيجابي في قيادة التطور وتوجيهه بكل فكرة وتجربته وأمله، حقوق أساسية للإنسان، ولابد أن تصونها له القوانين؛ ولابد أن يستقر في إدراكنا أن القانون في المجتمع الحر خادم للحرية وليس سيفاً مسلطاً عليها؛ كذلك لا بد أن يستقر في إدراكنا أنه لا حرية للفرد بغير تحريره أولاً من براثن الاستغلال، إن ذلك هو الأساس الذى يجعل الحرية الاجتماعية مدخلاً إلى الحرية السياسية بل هي مدخلها الوحيد.

إن القضاء على الاستغلال والتمكين للحق الطبيعي في الفرصة المتكافئة وتذويب الفوارق بين الطبقات وإنهاء سيطرة الطبقة الواحدة، ومن ثم إزالة التصادم الطبقي الذى يهدد الحرية الفردية للإنسان المواطن، بل يهدد الحرية الكاملة للوطن كله بأن يفتح من الثغرات في صفوف الشعب ما يتيح الفرصة للأخطار الخارجية المتربصة بالوطن، تريد أن تجره إلى ميادين الحرب الباردة، وتجعل أرضه مسرحاً لها، وتجعل من شعبه وقوداً للنار. إن إزالة التصادم الطبقي الناشئ عن المصالح التي لا يمكن أن تتلاقى على الإطلاق بين الذين فرضوا الاستغلال، وبين الذين اعتصرهم الاستغلال في المجتمع القديم لا يمكن أن يحقق تذويب الفوارق مرة واحدة، ولا يمكن أن يفتح الباب للحرية الاجتماعية والديمقراطية السليمة بين يوم وليلة، ولكن إزالة هذا التصادم بإزالة الطبقة التي فرضت الاستغلال يوفر إمكانية السعي إلى تذويب الفوارق بين الطبقات سلمياً، ويفتح أوسع الأبواب للتبادل الديمقراطي الذى يقترب بالمجتمع كله من عصر الحرية الحقيقية؛ لقد كان ذلك هو أحد الأهداف الاجتماعية العظيمة التي سعت إليها قوانين يوليو، ووجهت من أجله ضربتها الهائلة إلى مراكز الاستغلال والاحتكار، إن هذا العمل الثوري العظيم جعل إمكانية الديمقراطية السليمة أمراً قابلاً للتحقيق لأول مرة في مصر.

إن الكلمة الحرة ضوءٌ كشاف أمام الديمقراطية السليمة، وبنفس المقدار فإن القضاء الحر ضمان نهائي وحاسم لحدودها.
إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية، وسيادة القانون هي الضمان الأخير لها، وحرية الكلمة هي التعبير عن حرية الفكر في أي صورة من صوره؛ كذلك فإن حرية الصحافة وهى أبرز مظاهر حرية الكلمة، يجب أن تتوافر لها كل الضمانات.

إن الديمقراطية السليمة بمفهومها العميق تزيل التناقض بين الشعب وبين الحكومة حين تحولها إلى أداة شعبية، ولكن الصحافة الحرة يجب أن تكون رقيباً أميناً على أداء الإرادة الشعبية شأنها في ذلك شأن المجالس النيابية، كذلك فإن سيادة القانون تتطلب منا الآن تطويراً واعياً لمواده ونصوصه؛ بحيث تعبر عن القيم الجديدة في مجتمعنا.
إن كثيراً من المواد التي مازالت تحكم علاقاتنا الاجتماعية قد جرت صياغتها في جوٍ اجتماعي مختلف، وإن أول ما يعزز سلطان القانون هو أن يستمد حدوده من أوضاع المجتمع المتطورة. إن القانون أيضاً، وهو في حد ذاته صورة من صور الحرية، لا بد أن يسايرها في اندفاعها إلى التقدم، ولا يجب أن تكون مواده قيوداً تصد القيم الجديدة في حياتنا.

إن الطريق إلى الحرية قد أصبح مفتوحاً من غير حواجز ولا عوائق.
إن هذا المجتمع الجديد الذى يبنيه الشعب العربي في مصر على دعائم الكفاية والعدل، يحتاج إلى درعٍ واقٍ في عالم لم تصل مبادئه الأخلاقية إلى مستوى تقدمه العقلي.

إن دور القوات المسلحة في الجمهورية العربية المتحدة هو أن تحمى عملية بناء المجتمع من الأخطار الخارجية، كما أنه يتعين عليها أن تكون مستعدة لسحق كل محاولة استعمارية رجعية تريد أن تمنع الشعب من الوصول إلى آماله الكبرى من أجل ذلك فإن الشعب يمنح قواته المسلحة ما يجعلها دائماً في وضع الاستعداد وفى مكان القوة، وفى الموضع الذى تتمكن منه دائماً أن تخدم أمانيه بالولاء المطلق، وبالإخلاص المتفاني.

إن القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة يجب أن تملك تفوقاً حاسماً في البر والبحر والجو، قادراً على الحركة.. قادراً على الحركة السريعة في إطار المنطقة العربية التي تقع مسؤولية سلامتها في الدرجة الأولى على القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة، كذلك فإن هذه القوات لابد لها في تسليحها أن تساير التقدم العلمي الحديث، وأن تملك من الأسلحة الرادعة ما يكبح جماح القوى الطامعة، ويقدر على هزيمتها إذا ما تحركت بالعدوان، وليس من شك في أن التقدم الذاتي هو في جوهره أعظم أنواع الدفاع عن النفس ضد الأخطار المتربصة، لكن علينا أن ندرك أننا نعيش في منطقة مفتوحة للأطماع الباغية، وأن من أول أهداف أعدائنا أن يحولوا دون بلوغنا مرحلة القوة الذاتية المحققة للتقدم حتى نظل دائماً تحت رحمة التهديد.

إن الجمهورية العربية بالذات طليعة النضال العربي التقدمي، وقاعدته وقلعته المحاربة، هي الهدف الطبيعي لجميع أعداء الأمة العربية وأعداء تقدمها، إن قوى الاستعمار العالمي تسعى إلى هدف ثابت هو وضع الأرض العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج تحت سيطرتها العسكرية حتى تتمكن من مواصلة استغلالها ونهب ثرواتها، ولقد وصل التآمر الاستعماري إلى حد انتزاع قطعة من الأرض العربية في فلسطين قلب الوطن العربي، واغتصابها دونما سند من حق أو قانون لصالح إقامة فاشستية عسكرية لا تعيش إلا بالتهديد العسكري الذى يستمد أخطاره الحقيقية من كون إسرائيل أداة للاستعمار، والجمهورية العربية المتحدة بالتاريخ وبالواقع، هي الدولة العربية الوحيدة في الظروف الحالية التي تستطيع تحمل مسؤولية بناء جيش وطني يكون بمثابة القوة الرادعة للخطط العدوانية الاستعمارية الصهيونية.

إن مواصلة الزحف الشعبي نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي يجعل إقامة الجيش الوطني درعاً حقيقياً للنضال، وليس مجرد قشرة سطحية تغطى خطوط الحدود، إن فعالية الجيوش الوطنية تكمن في القوة الوطنية الاقتصادية والاجتماعية، فإن التقدم هو المستودع العظيم الذى يمد أداة القتال باحتياجاتها المادية والبشرية التي تتمكن من رد التحدي وإحراز النصر وتعزيزه، ويجب أن يكون نصب أعيننا دائماً ألا تطغى احتياجات الدفاع على احتياجات التنمية، إن الدفاع إذا لم تعززه التنمية لا يقدر على الصمود الطويل للمعركة الممتدة، لكن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي القلب الذى يغذى اليد الضاربة للأمة بأسباب القوة والثبات، ويمكنها من توجيه الضربات القاضية إلى العدو مهما طالت المعركة.

إن مجتمعنا يؤمن أن الحرية للوطن وللمواطن تتوافر قبل كل شيء بالسلام القائم على العدل، ولكن مجتمعنا مطالب إلى الوقت الذى تستقر فيه مبادئه العظيمة وتسود على العالم الذى يعيش فيه أن يكون مستعداً باستمرار من أجل حرية الوطن والمواطن أن يدعم السلام بالقوة.

يتبع؛ الباب الثامن (مع التطبيق الاشتراكي ومشاكله)…

التعليقات مغلقة.