الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

يَمُرُّ عُجباً


إبراهيم الجبين *

المدنية اختبارٌ دائمٌ للقيم، ومراسٌ مع الحدث والآخَر. جنوحٌ كبير نحو سلّم علاقات مختلف لا يمكن أن ينشأ بترك النفس على هواها.

أبرزُ ما في الشخصية المدينية قدرتها على التناول الليّن للأمور، بينما تنحو الشخصية اللامدينية نحو الخشونة والحدّة في التعاملات. المدينة تعلّم أبناءها حكمة التفاعلات، بينما الريف والبادية يلقّنان من ينشأ فيهما نسخة فطرية بريئة من ردود الفعل عن تضاريس كل منهما.

اقرأ لقيس بن الملوّح كيفَ هام بليلى، ولعل مَن مثلَه ماتوا عشقا وولها قبله وبعده، أليس هو القائل ”إليكَ عَنِّيَ إنِّي هائِمٌ وَصِبٌ، أمَا تَرَى الْجِسْمَ قد أودَى به الْعَطَبُ؟ لِلّه قلبِيَ ماذا قد أُتِيحَ له؟ حرّ الصّبابة والأوجاع والوصب، ضاقتْ عليَّ بلادُ الله ما رحبتْ، يا للرّجال فهل في الأرض مُضطَربُ؟“.

خرابٌ وضياعٌ وحَرٌّ وعطبٌ. بينما قلب ابنُ مدينة، مثل فخري البارودي، موشّحه الشعريّ الغنائيّ إلى نوع من السخرية من حالة غرامه وتولّعه بمحبوبته. يقول الموشّح الذي نظمه البارودي ولحّنه الشيخ عمر البطش وغنّاه صباح فخري ”يَمرُّ عُجباً ويمضي، ولا يؤدي السلامْ. أليسَ هذا عجيباً؟ أليسَ هذا حرامْ؟ العشقُ ياناسُ يقضي، بشُربِ كاسِ الحِمامْ، إذا الحبيبُ تجنّى، على أسير الغرامْ“.

لم تعد العلاقة هكذا علاقة دمار شامل في حالة الحب، بل باتت كاريكاتيرا صوريا ولفظيا يثير الضحك أكثر من تحريكه للآلام.

ويحضر رمز تونس ابن خلدون بقوله «نجد أن التمدنَ غايةُ البدويّ يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وفوائده، عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى ما بالمدينة، وهذا شأن القبائل المتبدية كلهم، بينما الحضري لا يتشوق إلى أحوال البادية“. وقد قرأتُ مؤخرا في مدونة رسميّة تتبع لوزارة البيئة الإسرائيلية، لها ما يقابلها في الثقافات الشرقية الأخرى بالطبع، أن ”التمدن المستدام هو اتجاهٌ اجتماعي واقتصادي وبيئي متكامل“. ويفوت هذه المعادلة أن التمدّن لا يقوم على النازع العنصري أو الطائفي فهو قادمٌ من خارج المدنيّة. ومن بواطن الثأر والانتقام والعصبية، وهذه كلّها من شغل المجتمعات ما قبل المدينية. أما ذلك التمدّن “المستدام” فلا يمكنه أن ”يتكامل“ من دون المساواة بين السكان.

المدنيّة ليست لعبة. ولا يمكن لأيٍّ كان فبركتها وادّعاؤها. هي اختبارٌ دائمٌ للقيم، ومراسٌ مع الحدث والآخَر. جنوحٌ كبير نحو سلّم علاقات مختلف لا يمكن أن ينشأ بترك النفس على هواها. فالنفسُ قاموسها قاموس استرخاء وأريحية، بينما التمدّن عملٌ وكدٌّ ومواجهة ونجاح لا مفرّ منه. إلى أين المفرّ في المدينة؟ العمران يحجزك. والتقدّم التقني يربطك بالآخر. والأفق هندسةٌ من الأفكار والحيل. في حين أن الأفق خارج المدينة مفتوح على مشرق الشمس ومغربها، يوهم الإنسان بإمكانية الفكاك، ولا فَكَاكَ في هذا العصر. ”أليسَ هذا عجيبا؟ أليس هذا حرامْ؟“.

* كاتب سوري

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.