الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حوار مع ’’جيرار نوارييل‘‘: في تحولات مهنة المؤرخ

أحمد الشيخ *

تقديم الحوار: يُعد ’’جيرار نوارييل‘‘ من أبرز المؤرخين الفرنسيين المعاصرين وواحدًا من أهم المتخصصين في تاريخ الهجرة وتاريخ العمال في فرنسا، وله مواقف مشهورة في مكافحة العنصرية والعداء للأجانب. وقد ألّف مجموعة من الكتب أصبح بعضها من المراجع الأساسية، منها: “حول أزمة التاريخ”، و”التفكير مع والتفكير ضد ـ مسيرة مؤرخ”، و”البوتقة الفرنسية”، و”قول الحقيقة في وجه السلطة”، و”العنصرية ومسؤولية النخبة”، وغيرها.

المرّة الأولى التي تعرفت فيها على أفكاره ومواقفه كانت أثناء الأزمة الشهيرة، بعد صدور القانون الفرنسي الخاص بتمجيد الدور الإيجابي للوجود الفرنسي في المستعمرات في المناهج الدراسية (3 فبراير 2005)، وبعدها انطلق ’نوارييل‘ مع كوكبة من المؤرخين الفرنسيين في عمليات احتجاج واسعة ضدّ هذا القانون، بدأت بتوقيع عريضة شملت أكثر من ألف مفكّر من المؤرخين والمثقفين عامة ضد هذا القانون، الذي رأى فيه ’’جيرار نوارييل‘‘ أنه يفرض على الأساتذة والمعلمين تاريخاً كما تراه السلطات العامة، وهو أمر مخالف للحياد الأكاديمي وللحرية الفكرية، وأنّه يسعى إلى استخدام الماضي من أجل تبرير الحاضر.

وكانت المرة الثانية التي لفت فيها الأنظار عندما أصدر كتابه الشهير “الأبناء الملعونون للجمهورية”، والذي صدر في طبعة ثانية بعنوان: “قول الحقيقة في وجه السلطة ـ المثقفون موضع المساءلة”، وفيه يتناول أصول المثقفين الفرنسيين وعلاقاتهم بالسلطة منذ الثورة الفرنسية حتى اليوم. وقد تحدث فيه عن ثلاثة أنماط من المثقفين: أولاً المثقف الثوري الذي كان ينتمي في الأغلب إلى الإيديولوجيا الماركسية، وكان يكافح ضد التفاوت الطبقي واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان (نموذج سارتر)، أمّا النمط الثاني فيجسده مثقف السلطة الذي يدعو إلى إجراء إصلاحات معتدلة وعدم الانخراط في الخط الثوري المتطرف، ثم النمط الثالث وهو ما يسميه ’نوارييل‘ بالمثقف النوعي الذي يرى أنّ العلوم الاجتماعية قادرة على قيادة مسيرة البشر نحو العدالة والحقيقة، ويدعو إلى تحديد جديد لدور المثقف.

في هذا الحوار المباشر مع ’نوارييل‘ نلقي بعض الأضواء على مسيرته مؤرخاً، وتكوينه العلمي، وأهم القضايا التي تناولها عبر كتبه المتنوعة.

 

أحمد الشيخ: أنت مؤرخ متعدد الاختصاصات والاهتمامات. كيف نعرّفك بصورة جيدة للقارئ العربي؟

جيرار نوارييل: أنا مؤرخ ومدير مركز أبحاث في العلوم الاجتماعية، وميدان بحثي الرئيس هو مجال الهجرة والمهاجرين وتاريخ العمال في فرنسا. وبالتوازي مع أبحاثي التاريخية طورت أبحاثاً حول وضعية المعرفة التاريخية وطبيعتها، وذلك من خلال كتابي “حول أزمة التاريخ” الذي فجّر نقاشًا كبيراً في فرنسا وقت صدوره بين المشاركين في الحديث عن أزمة المعرفة التاريخية. وعلى صعيد العمل السياسي والمجتمعي أسست وأدرت عدة جمعيات، وحاولت توسيع ثقافة المعرفة التاريخية إلى دائرة أوسع من دائرة المتخصصين الضيقة، والعمل كذلك على تغيير طريقة تعليم التاريخ. وكنت رئيس أول لجنة مخصصة للسهر والمحافظة على عمليات استخدام التاريخ. وعندما أراد ساركوزي التركيز على الجانب الإيجابي للاستعمار تركت هذه اللجنة؛ لأنّ رؤيتي التي أكافح من أجلها كانت تختلف عن رؤية بعض أقراني في اللجنة فتركتها. وحدث الأمر ذاته مع “المدينة الوطنية للهجرة والمهاجرين”، وكنت في لجنتها العلمية، وعندما أسس ساركوزي وزراة الهجرة والهوية الوطنية تركتها أيضاً. وأسست جمعية أخرى ما زالت تعمل من أجل نشر المعرفة التاريخية.

 

أحمد الشيخ: أنت تجمع إذن بين نشاط العالم ونشاط المناضل؟

جيرار نوارييل: أنا لا أخلط بين المجالين، وأحاول دائماً أن أقيم مسافة بين دوري مؤرخًا أكاديميًّا يلتزم بضوابط المهنة وبين نشاطاتي كوني مواطناً ومناضلاً. في هذا الأفق كتبت كتاباً بعنوان “الأبناء الملعونون للجمهورية”، وأعدت إصداره من جديد بعنوان آخر هو “قول الحقيقة في وجه السلطة ـ المثقفون موضع تساؤل”، نظراً لتغير السياق الذي حررت فيه الطبعة الأولى التي خضعت فيها لغواية كتابة تاريخ جديد لـ “تاريخ المثقفين”، بينما كان المحور الأساسي للكتاب هو تحليل الأدلة والبراهين التي يقدمها الجامعيون الأكاديميون لتبرير تدخلاتهم السياسية، وأي نمط من المعرفة يستخدمونه عندما يتدخلون في الحوار المجتمعي العام، وكيف يقيمون جسوراً بين عالم العلم والمجال المدني، وهو ما ركزت عليه أكثر في هذه الطبعة الجديدة من الكتاب. ولأنّ الطبعة الأولى أثارت ردود أفعال جعلتني أراجع النص الأول الذي لم أركز فيه كثيراً على التحولات الحديثة في المشهد الثقافي الفرنسي، وقمت بتصحيح هذا الأمر مشيراً إلى الجدالات الراهنة المتعلقة بـ”قوانين الذاكرة” و”العنصرية”، وهو ما دفعني إلى تطوير القسم الخاص بـ”المثقف النقدي” الذي كنت عالجته بصورة عابرة في الطبعة الأولى، لكنّني لم أغير التوجه العام للكتاب في طبعتيه الأولى والثانية.

 

أحمد الشيخ: تحدثت في الكتاب عن ثلاثة أنماط من المثقفين.

جيرار نوارييل: نعم ميزت بين ثلاث فئات، وفي كل حالة أحاول أن أبين المتناقضات والمواقف التي يصعب الاستمرار فيها: النمط الأول هو المثقف الثوري، والنمط الثاني هو المثقف الحكومي، والنمط الثالث هو المثقف النوعي.

وأكثرهم انتشاراً بطبيعة الحال هو “مثقف الحكومة”، حيث يتم الترحيب به وإبرازه أكثر من غيره، يُقدم بوصفه المثقف الكبير والفيلسوف الجديد، وأقلهم حظاً وانتشاراً هو المثقف النوعي الذي لا يقول للناس ما ينبغي أن يفكروا فيه، وإنما يحاول أن يقدم لهم أدوات تسمح لهم بالتفكير على نحو أفضل في الأوضاع التي نحياها.

 

أحمد الشيخ: دعنا نعود إلى البدايات، ماذا عن تكوينك العلمي؟ وماذا عن علاقتك بمدرسة الحوليات؟ وهل تكتب التاريخ من داخلها أم من خارجها؟

جيرار نوارييل: تكونت بالفعل في هذا التيار، وكنت أفكر ضمن آفاق مدرسة الحوليات، بالمعنى الواسع للكلمة، وكنت أقرب إلى إرنست لابروس مني إلى فرنان بروديل، لأنّ بروديل لم يكن متخصصاً في التاريخ المعاصر.

ثم تدريجياً بدأت أهتم بمسألة الهجرة وتاريخها في فرنسا، ووجدت ثغرة كبيرة في مدرسة الحوليات تتعلق بمساءلة الدولة، لم تكن هناك أدوات للتفكير في هذه المسألة، وكان ينظر إليها على أنّها تنتمي إلى البنية الفوقية الناشئة عن البنية التحتية، بينما كنت أكتشف تدريجياً أنّ الدولة تشكل الهويات.

 

أحمد الشيخ: لديك كتابات كثيرة عن الهجرة والمهاجرين والعنصرية، وخضت معارك كبيرة في هذا الشأن. ما الذي لم يُقل بعد في هذا المعركة المستمرة؟

جيرار نوارييل: في الحقيقة نحن لم نقم بنقد ذاتي، فخطاباتنا المناهضة للعنصرية وللعداء للمهاجرين تدور حول نفسها. نحن نتحمل قدراً من المسؤولية في هذا الوضع الراهن لأنّنا، بصفتنا باحثين، لم نستطع تقديم أدوات جديدة تسمح لهؤلاء المناضلين بالعمل بصورة أكثر فعالية ضدّ كل أشكال عدم التسامح التي تسود اليوم المجتمع الفرنسي. فالنخبة الصغيرة النابعة من مجال الهجرة التي تقود حركة النضال الما بعد كولونيالي تعيد إنتاج الآليات التقليدية ذاتها التي كانت لدى الجيل الأول.

 

أحمد الشيخ: ثمة تعبير لجيل دولوز بشأن إنتاج ميشيل فوكو، يقول: إنّ إنتاجه أقرب إلى البحث التاريخي منه إلى عمل المؤرخ. هل يمكن أن نعيد تكرار القول ذاته بخصوص أعمالك وكتاباتك؟

جيرار نوارييل: لا أعتقد ذلك، أنا أعرّف نفسي بأنّني عالم اجتماع ومؤرخ. أنا أنتمي إلى تيار يجمع بين شكلين من القدرات المهنية، لا أقول علمين، وإنّما هما قدرتان مهنيتان، كما نقول بيوكيميائي على سبيل المثال، فلديّ كفاءات المجالين: (علم الاجتماع والتاريخ)، وأنا على مقربة ومسافة واحدة من العلمين.

 

أحمد الشيخ: نعود إلى التاريخ، في فرنسا ثمة هوس بالتاريخ في الصحف والمجلات والتلفزيون، ورغم ذلك نرى أنّ مكانة التاريخ في المجتمع ودوره في الحاضر غير واضحَي المعالم، كيف تفسر ذلك؟

جيرار نوارييل: تقع المشكلة في عدم وضوح استخدامنا لكلمة التاريخ، ولا أعرف إذا كان لديكم الالتباس ذاته الموجود في اللغة الفرنسية إزاء هذه الكلمة.

 

أحمد الشيخ: نعم لدينا المشكلة ذاتها، ونميز بين التاريخ والتأريخ، لكن يظل الالتباس قائماً.

جيرار نوارييل: في الفرنسية كما في لغات أوروبية أخرى يمكن أن نعني بكلمة تاريخ علم التاريخ، ويمكن أن نعني أيضا رواية عن الماضي، وربما في ذلك القول: ارو لي حكاية. ونحن ـ المؤرخين ـ نواجه باستمرار هذا الالتباس. وعندما أتحدث مع صحفيين لا أفهم هل يقصدون العلم التاريخي أم يقصدون شيئاً آخر، فأنا أرى أنّ التاريخ الذي يقدم في التليفزيون ليس تاريخاً وإنّما مشاهد من الذاكرة، إنّهم متعهدو الذاكرة الذين يتحدثون في التليفزيون، وهم أناس يصنعون روايات سردية بغرض سياسي، وليس روايات مبينة ومفسرة لوقائع الماضي، وإنّما مصنوعة للحكم على شيء ما.

كان مارك بلوخ في كتابه “دفاعاً عن التاريخ” يحارب هوس إصدار الأحكام، لهذا أجد نفسي على مقربة شديدة من أفكاره. فدور الباحث التاريخي ليس وضع حصيلة تقييمية لأحداث الماضي، بحيث يضع الأشرار في جانب والأخيار في جانب آخر، وإنّما ينحصر دوره فقط في تفسير أحداث الماضي كما حدثت، والعمل داخل الأرشيفات لاستخراج الحقائق منها. وأنا متفق معك أنّ ما نسمعه في وسائل الإعلام بإسهاب ليس تاريخاً، وما يقدمونه لنا لا يخرج عن كونه مشاهد من الذاكرة. وهنا تلعب الذاكرة وظيفة سياسية شديدة الخطورة في بلد كبير ومتنوع مثل فرنسا، ومتعهدو الذاكرة لديهم رؤية ترى أنّ الأمور في النهاية لم تتغير، وأنّ الأمور ذاتها تعاود نفسها، أمّا أنا فأرى أنّ معرفة الماضي تضيء الحاضر، وأنّ من الضروري العودة إلى التاريخ لفهم الحاضر وفهم تحولاته الكبرى. انظر إلى مشكلة الهجرة والمهاجرين، لايمكن أن تفهمها تماماً دون العودة إلى التاريخ. ففي الثمانينات من القرن الماضي بدأ الخطاب المكرس للمهاجرين يتصاعد ويأخذ شكلاً جديداً وحديثاً عن ظاهرة جديدة ومشكلة كبرى لفرنسا، بينما الهجرة في الحقيقة تشكل قضية كبرى في القرن العشرين، وليست مقتصرة على فرنسا فقط، وإنّما نجدها في أماكن أخرى من العالم ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن كان يتم تغييب هذه الحقيقة، وقد بدأ الحديث يتركز أكثر عن كراهية الأجانب من الجيل الثاني، ولم يكن هذا الحديث موجوداً من قبل. وهنا العودة إلى التاريخ تسمح لنا بفهم أوضح لتحولات واقعنا الراهن وموقعنا في هذا الحاضر، لذلك أنشأت مجلة اسمها “التكوين”.

 

أحمد الشيخ: هل اسمها مشتق من سفر التكوين؟

جيرار نوارييل: لا، ليس لها صلة بسفر التكوين، الكلمة أقرب إلى مفهوم “الجينالوجيا”، كما طرحه ميشيل فوكو، أي إعادة اقتفاء أثر الظاهرة موضوع البحث، هي تشير إلى تاريخية الظاهرة التي نبحثها، وتعود إلى سوسيولوجيا دوركايم أيضاً، وهي تشير إلى أنّ المكان الذي نحن فيه اليوم له تاريخ، والقانون له تاريخ، وبنية الفكر لها تاريخ، ونهدف ـ في المجلة ـ إلى إيضاح كل ما يكون حاضرنا، وكل ما يطبع التاريخ ويضيء التاريخ من أجل فهم أفضل للحاضر.

 

أحمد الشيخ: مارك بلوخ كان يرى أنّ طريقة معايشة الفرنسيين لماضيهم تختلف عن طريقة الألمان، وهو ما أثار استياء جاك لوجوف في تقديمه للطبعة الأخيرة من كتاب مارك بلوخ “دفاعاً عن التاريخ”. كيف تنظر أنت إلى هذه الإشكالية؛ إشكالية اختلاف الثقافات في رؤية ماضيها ومعايشته؟

جيرار نوارييل: بالطبع، المشكلة لا تقتصر على وجهة نظر مارك بلوخ، بل نجدها لدى دوركايم ولدى ماكس ڨيبر اللذين عاشا في ظل نزعة قومية متشددة أكثر حدة، حيث سادت طرق تفكير معينة، يبدو أنّنا تجاوزناها اليوم. وبالتالي ينبغي النظر إلى المعارضة بين الفرنسيين والألمان اليوم بصورة غير الصورة التي أشار إليها مارك بلوخ. ومع ذلك فأنا ما زلت مقتنعاً بأنّ هنالك أشكالاً من بناء الماضي على أسس قومية، ويتضح ذلك بصورة جلية فيما نراه من احتفالات وإحياء ذكرى هذا الحدث التاريخي أو ذاك. انظر على سيبل المثال إلى الاحتفال بعيد 8 مايو في فرنسا يوماً للنصر بينما الألمان يحتفلون بيوم 9 مايو، أو ذكرى الحرب العالمية الأولى.

وهو أمر يثير العجب، فكل ما يحدث في فرنسا، في هذا الشأن، يختلف عما يحدث في ألمانيا. نعم هناك اختلافات بالطبع، وهناك طرق مختلفة في استملاك الماضي تتنوع من بلد إلى بلد ومن ثقافة إلى ثقافة.

 

أحمد الشيخ: في مقدمة كتابك “حول أزمة التاريخ” تحدثت عن غائية مدنية للتاريخ، ماذا كنت تقصد بذلك؟

جيرار نوارييل: أنت تطرح عليّ مشكلة أخرى كبيرة. أعتقد أولاً أنّه ينبغي أن ندافع عن استقلال الحقل التاريخي وعن حرية البحث وحرية الفكر، لأنّه الشرط الأساسي الذي يسمح بإعداد معارف علمية دقيقة، لكن أعتقد أيضاً، وبشكل غير مباشر، أنّ هناك غائيّة مدنية للتاريخ، لأنّ معرفة التاريخ تسمح للمجتمع بأن يحسن من عمله. بالطبع نحن اليوم لا نعيش في المرحلة الوضعية، وليس لدينا آمال هذه المرحلة، لكن برغم ذلك أعتقد أنّه من الأفضل لنا معرفة حقيقة الأمور وتاريخها من ألا نعرفها، وهذه أول غائيةللتاريخ، والثانية تتمثل في أنّ نشرالمعارف التاريخية ـ بدءاً من المدارس ـ تعطي للمواطنين أدوات تساعدهم على التحرر، وأن يفكروا بأنفسهم وأن يعيشوا حياتهم بالصورة الأفضل. ولا يعني ذلك أن نحدد لهم الطريق، وإنّما فقط نعطيهم الأدوات التي تسمح لهم ـ ببساطة ـ أن يتحرروا من كل أشكال السلطة، في كل السياقات، في جميع أنحاء العالم. نحن نرى الوصاية والهيمنة اليوم في كل مكان، ونرى من يريدون فرض هيمنتهم على الأفراد، وبالتالي أعتقد أنّ المعارف التاريخية ـ ضمن معارف أخرى ـ هي أدوات يمكن أن تساعد الأفراد على التحرر.

ومع ذلك، هناك من لا يزال يتساءل حتى اليوم عن جدوى التاريخ، وفيم يفيد؟ ولماذا لا نتركه ونتوجه نحو المستقبل؟

كنت رئيساً للجنة الحفاظ على استخدام التاريخ، وكنت في البرلمان بخصوص لجنة حول قوانين إحياء الذكرى الخاصة بالأحداث التاريخية، وقال لي أحد النواب وقتها إنّ التاريخ ليس علماً، فهؤلاء الناس عندما لا تكون متفقاً معهم تصير غير علمي، وأنا أرفض من يقول إنّ ما نقوم به ليس علماً، وأشعر بحساسية شديدة ضدّ هذا الرأي، وخاصة عندما أتذكر الساعات والأيام والشهور بل والسنين التي يمضيها المؤرخ وسط ركام الأرشيفات ليستخرج الحقائق المدفونة والبعيدة عن أعين الناس، وبعد ذلك يأتي من يقول إنّ ما نقوم به ليس علماً، أو يتساءل عن جدوى التاريخ وفائدته. وأشعر بالغبن وأقول أحياناً ماذا يفيد كل هذا الجهد؟ لكن سرعان ما أضع نفسي في أفق المقاومة، كما فعل مارك بلوخ، وأستمر في الإيمان بأنّ التاريخ يلعب دوراً هاماً في الحفاظ على شعلة المقاومة التي ورثها من مارك بلوخ وبورديو وفوكو، وأحاول اليوم أن أسلّم الشعلة إلى الجيل القادم، وهذا يكفيني في تأكيد دور التاريخ وفائدته. بالطبع نحن لا نعيش في مجتمع الملوك والنبلاء ورجال الكنيسة الذين يقولون نحن هنا باسم القانون الإلهي ولسنا في حاجة لتبرير ما نفعل، وإنّما نعيش في مجتمع ديموقراطي، علينا أن نعلّل ما نقوم به، ينبغي علينا أن نوضح ماهي مهنتنا وكيف نقوم بها، إذ لا يمكن تحريك الناس وتعبئتهم إن لم نقدّم لهم كشف حساب عمانقوم به. نعم أعتقد بأهمية تعليل مهنتنا وممارستها.

 

أحمد الشيخ: تحدثت أيضاً عن “دمقرطة التاريخ”، هل توضح لنا ماذا تقصد بهذا التعبير؟

جيرار نوارييل: أولاً، على المستوى الإبستمولوجي هناك جدل كبير حول وضعية التاريخ ومكانته، هناك من يقول التاريخ علم، بالقدر ذاته مثل الفيزياء والكيمياء، وعليه أن يعد قوانين عامة مثل ماركس في المادية التاريخية، وهناك من يقول التاريخ ليس علماً، بل هو مجرد طريقة في السرد والحبكة مثل بول فاين، أمّا أنا في كتابي “حول أزمة التاريخ” فقد وضعت كل هذا جانباً؛ لأنّها مناقشات فلسفية، ونحن مؤرخون ولسنا فلاسفة. وإذا كنا في هذه المناقشة نبحث عن النجدة لدى الفلاسفة، والفلاسفة أنفسهم ليسواعلى وفاق فيما بينهم، فإنّنا نضيع وقتنا مقابل لاشيء. وأنا أقول إذا كنا في حاجة إلى فلاسفة لكي ندافع عن ممارساتنا ومهنتنا فلنتوجه نحو الفلاسفة الذين هم على مقربة منا، وهم الفلاسفة البراجماتيون، والبراجماتيون الجدد وهم كلهم فلاسفة ضد النزعة التأسيسية / الأصولية (كما تحدث عنها كانط)، أي الفلاسفة الذين كانوا يؤمنون بوجود معايير موضوعية عالمية للمعرفة تسمح بقول هذا علم، وهذا غير ذلك، أي الذين كانوا يتحدثون عن أساس المعرفة كما كان كانط يقول. إذن الفلاسفة البراجماتيون كانوا ينتقدون هذا الأساس “للمعرفة”، ويرون أنّ معايير المعرفة متنوعة وتجريبية وتأخذ أشكالاً معقدة للغاية. وأنا وجدت نفسي في هذا التيار، وأنّه من المهم إعداد المعرفة التاريخية داخل جماعة الباحثين أنفسهم وداخل حقل التاريخ ذاته، وألا يطلب المؤرخون من الفلاسفة أن يقولوا لهم ما هو التاريخ، بل يحدده المؤرخون بأنفسهم، وأنّ تصديق المعرفة التاريخية يتم من قبل باحثين آخرين داخل الجماعة التاريخية، فمن المهم للغاية التواصل بين أبناء المهنة ذاتها. فالكاتب، بوصفه عبقرياً، يكتب لنفسه ثم يتوجه إلى الجمهور بعد ذلك، أمّا نحن العلماء فنكتب لعلماء آخرين. وعندما أدعو إلى دمقرطة التاريخ، فليس ذلك لدواع مدنية أو سياسية فقط، إذ ليس من المعقول أن يظل حقل التاريخ في يد حفنة محدودة، وإنّما ينبغي توسيع الدائرة، وذلك لدواع إبستمولوجية، أنا أعتقد أنّ تجديد ميدان البحث يحدث بالتوازي مع تجديد العالم الاجتماعي.

 

أحمد الشيخ: فهمت من “دمقرطة التاريخ” نشره على نظام واسع بين الناس.

جيرار نوارييل: نعم هذا وجه آخر ينضاف إلى ما قلته تواً. فمنذ اللحظة التي يتم فيها التصديق على المعرفة العلمية من قبل باحثين آخرين، هناك ضرورة في التواصل، وهي متضمنة في الديمقراطية، وبتعبير آخر لا بد أن تكون عملية إنتاج المعرفة بلغة مفهومة حتى يمكن الحكم عليها، وإلاّ ستهرب في هذه الحالة من تصديق أقرانك في المهنة، وهذا ما أعيبه على بول فاين الذي يستخدم لغة فيلسوف في الوقت الذي يقدم فيه نفسه على أنّه مؤرخ، بالنسبة إليّ هذا الأمر معادٍ للديمقراطية، وهو يمثل حالةً نخبويةً أو نوعاً من الأرستقراطية عندما تتكلم لغة غير مفهومة داخل جماعتك المهنية.

 

أحمد الشيخ: أنت تتحدث عن التواصل داخل الجماعة التاريخية، وأنا أقصد من سؤالي التواصل مع الجمهور الواسع خارج الجماعة التاريخية.

جيرار نوارييل: بالطبع لدينا مطلب نقل المعرفة، وفقاً للقواعد الديموقراطية، إلى الجمهور غير المتخصص. هنا لا بد من القيام بترجمة أعمالنا إلى لغة هذا الجمهور. لهذا أنا أعمل الآن مع فنانين لتحويل المعرفة التاريخية إلى قضايا ولغة معينة حتى تصل إلى أكبر شريحةممكنة من الناس.

 

أحمد الشيخ: أريد أن أعود بك إلى علاقة الفلسفة بالتاريخ، أو علاقة الفلاسفة بالمؤرخين: أنت في كتابك “حول أزمة التاريخ” لم تتناول أزمة التاريخ، وإنّما خطاب المؤرخين حول الأزمة، وإذا تركنا جانباً رصد محطات حديث المؤرخين عن الأزمة، ماذا تقول أنت عن هذه الأزمة وكيف تنظر إليها؟

جيرار نوارييل: أشكرك على الانتباه إلى أنّني أتحدث في الكتاب عن خطاب الأزمة وليس الأزمة في حد ذاتها، لأنّ هناك كثيرين لم ينتبهوا لهذا الأمر.

بالنسبة إليّ ليس هناك تعريف موضوعي لهذا الأمر. لكن دعني أقول إنّ عولمة البحث التاريخي، واستقلال بعض الميادين العلمية يمكن أن يفسر لنا أزمة هوية في حقل التاريخ، فالمهنة لم يعد يمكن تعريفها كما كانت تعرف من قبل، ثمة تحولات كبيرة حدثت في الفترات الماضية.

 

أحمد الشيخ: أنت تنتقد المؤرخين الذين يلجؤون إلى الفلسفة، لكنّك لم تحدد شكل العلاقة التي ترى أنّها مناسبة بين التاريخ والفلسفة، وبصفتك مؤرخاً، كيف ترى هذه العلاقة؟

جيرار نوارييل: أنا علاقتي بالفلسفة هي علاقة هواة بالمعنى المزدوج للكلمة، وما يزعجني في الأمر أن نجد بعض المؤرخين يحسبونأنفسهم فلاسفة بمجرد أن اطلعوا على بعض الكتب الفلسفية، بالنسبة إليّ أنا أستخدم الفلسفة كما أستخدم حقولاً معرفية أخرى عندما تكون ملائمة للبحث التاريخي.

 

أحمد الشيخ: تطلب من المؤرخ أن يبتعد عن الفلسفة، وترى أنّ من يفعلون عكس ذلك يسعون إلى الشهرة أو الربح، لكن لو سلمنا معك بهذا الأمر لدى بعض المؤرخين، فإنّ القضية لم تحل بعد، هل بسبب هذا النفر تقصي الفلسفة من مجال البحث التاريخي. أنت تتحدث أحياناً بطريقة كما لو كنت تريد تطهير الحقل التاريخي من جراثيم الفلسفة.

جيرار نوارييل: أقول للمرة الألف، بدلاً من خطاب حول هيجل أو كانط أو ماركس أو ريكور ـ وأنا أتحدث هنا إلى المؤرخين وليس إلى الفلاسفة ـ من الأفضل أن تكرسوا وقتكم وقدراتكم النقدية في تحليل مسار مهنتنا وعملها. وفي هذا الإطار أسعى إلى تعزيز قدراتنا المهنية، ولا يعني هذا أبداً القول بانغلاقجماعتنا التاريخية علىنفسها، وما أقوله ليس ضد الفلسفة، وما أقوله أيضاً إنّ مسألة الحقيقة حول التاريخ تعالج داخل الجماعة التاريخية وليس خارجها.

 

أحمد الشيخ: لذلك أنت من أكثر المؤرخين تحمساً واهتماماً بتراث مارك بلوخ.

جيرار نوارييل: نعم، لأنّه المؤرخ الوحيد الذي وجدت تساؤلاته تهمني عملياً اليوم. وقد قمت بتطوير أفكاره لتلائم توجهي في الوقت الحاضر. وكان يتحدث عن جماعة المؤرخين ومهنة التاريخ وفريق العمل المتكامل في البحث التاريخي، لكن للأسف لم يعد للمؤرخين اليوم روابط التضامن فيما بينهم لعمل لغة مشتركة وتواصل فعال، كما هو الحال في كل الأنظمة الجامعية الأخرى.

 

أحمد الشيخ: سؤال أخير: كيف توصلت إلى مثل هذا الأسلوب الذي يطلق عليه “السهل الممتنع” في الكتابة التاريخية؟ وهل كان في ذهنك، دائماً، هدف التواصل مع الجمهور الواسع؟

جيرار نوارييل: ما تقوله عن أسلوبي هو نتيجة لما شرحته منذ قليل. في البدايات كنت أواجه صعوبات في جعل الفكرة ملموسة وواضحة، ولهذا كنت أبذل جهداً كبيراً في الكتابة بطريقة تجعل ما أكتبه في متناول الجميع. هذا أمر حاضر دائم في كل أعمالي، ولم أبحث أبداً عن التعابير المجردة أو ادعاء المظهر العلمي، وإنّما كان هدفي، طوال الوقت، هو تحويل المعرفة التاريخية إلى لغة في متناول الجميع.

* كاتب ومفكر ومترجم وأكاديمي من مصر

المصدر: مؤمنون بلا حدود

التعليقات مغلقة.