الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الطريق السوري الى الوحدة (2/4) – الدكتور جمال الأتاسي

ما قبل الناصرية ومصر عبد الناصر:

إن تطلع الشعب العربي في سورية بأشواقه الوحدوية باتجاه مصر هوى قديم . فدور مصر الكبير في النهوض بقوة الأمة وتوحيد قواها في مواجهة الحملات الكبرى من صليبية وتترية التي شنت ضد وجود الأمة، ومصر التي كانت موئل النهضة الأولى في العالم العربي، كانت هناك دائماً كتلة شعبية واجتماعية متماسكة ومحط أنظار الأمة ومرجعية ثقافية وموئلاً لمثقفيها . فليس منذ أن تحررت سورية من الانتداب الفرنسي وحصلت على استقلالها الكامل تطلعت إلى مصر فحسب، بل كان ذلك في تطلعات حركة القومية العربية وطلائعها الأولى ومنظماتها السرية والعلنية التي تدافعت من بلاد الشام، فقد تحركت هي أيضاً باتجاه مصر منذ أن تطلعت إلى الاستقلال والانسلاخ عن الامبراطورية العثمانية. ولقد أكد ساطع الحصري في كتابه “محاضرات عن نشوء القومية العربية” على وجود تلك الجماعات، من المثقفين العرب في العهد العثماني التي كانت تتجه بقلوبها وأفكارها إلى مصر منتظرة منها أن تتزعم الحركة العربية، ولقد كان ساطع الحصري نفسه من تلك الطلائع . ثم إن فصائل تلك الحركة ضمت في بعض منها قادة مصريين برز بينهم عزيز المصري، كما كانت تجد لها مراكز وجمعيات في مصر ذاتها، ولكن مصر كانت محتجزة وراء خطوط جيوش “الحماية البريطانية” فتحولت عنها التطلعات السورية الوحدوية إلى مراكز أخرى .

ومن غير أن نأتي على سيرة حركة القومية العربية وتشكلاتها النخبوية، المتدافعة من سورية، فهي في حركتها كانت تتطلع إلى عملية مزدوجة فيها الانفكاك عن الامبراطورية العثمانية بحركة استقلالية، واقامة دولة عربية شرقية موحدة تضم ولايات الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) والجزيرة العربية. ولكن الطريق إلى إنجاز مهمات تلك العملية الاستقلالية والوحدوية لم تكن محددة المعالم في النهج الاستراتيجي لتلك الحركة. فظروف الحرب العالمية الأولى التي صار المشرق العربي ساحة من ساحاتها الأساسية، وتشابك علاقات العديد من القيادات العربية مع التحالف الغربي وبخاصة بريطانيا، ذهبت بآمال الحركة العربية الوحدوية باتجاه الحجاز وقيادة والي مكة الشريف حسين وأولاده ، وانخرط الجميع في حركة “الثورة العربية الكبرى” التي حكمت مسيرتها التوجهات البريطانية ووعودها للدولة العربية حسب اتفاقات “حسين – ماكماهون”، كما تحكمت فيها نهاية التواطؤات الاستعمارية الغربية. فالقوى العربية المتحركة لإخراج القوى التركية من الحجاز والأراضي الشامية وجدت نفسها أمام تحد كبير عندما كشفت الثورة البلشفية التي قامت عام 17 عن أسرار الاتفاقات الفرنسية- البريطانية لتقاسم المنطقة واقامة كيان صهيوني وفقاً لخارطة سايكس بيكو ووعد بلفور. وعندما افتضحت نوايا الدول الاستعمارية، بينما جيش ” الثورة العربية” مشتبك في أكثر من موقع، استحث القادة القوميون الذين انضموا إلى الجيش الذي على رأسه الأمير فيصل بن الحسين، حثوا خطواته واندفعوا به نحو دمشق ليدخلوها قبل دخول الجيش البريطاني بقيادة “اللنبي”، معولين على أن تحرير دمشق واستخلاص عاصمة الأمويين من أيدي الأتراك، بقواهم العربية الذاتية، مؤكدين حقهم في إقامة دولة عربية مستقلة من هذه العاصمة.

دخلت الطلائع القوات العربية دمشق محررة في 30 ايلول (سبتمبر) وأعدتها لاستقبال موكب فيصل، الذي دخلها فارساً في 3 اكتوبر (تشرين أول) . إن الذين عاشوا تلك الحقبة ثم عاشوا من بعدها قيام الجمهورية العربية المتحدة ودخول عبد الناصر إلى دمشق، يشيرون إلى أوجه التشابه في حرارة الاستقبالات الشعبية والآمال الكبرى التي تفجرت في الحالين . والى دمشق توافدت وتجمعت فيها كل القيادات وفصائل النضال العربي والقومية العربية من بلاد الشام وأرجاء المشرق العربي . ومن اليوم الأول شكل فيصل حكومة برئاسة رضا الركابي لتمسك بزمام الأمور وتدير شؤون البلاد، سورية كلها وكل بلاد الشام . ولكن وفي الوقت الذي تمركزت فيه القوات والقيادات العربية في دمشق، كانت القوات البريطانية قد وضعت يدها على فلسطين وشرقي الأردن والعراق بينما نزلت الجيوش الفرنسية في لبنان وامتدت على طول الساحل السوري حتى إسكندريون وما وراء الإسكندرون .

إن الجهود التي بذلت وتضافرت لإقامة دولة عربية مستقلة وموحدة لعموم سورية، مستخلصة من براثن السيطرة العثمانية ومن القوى الاستعمارية الغربية الطاغية، كانت ملحمة من الملاحم السياسية والنضالية منذ إقامة الحكومة الفيصلية الأولى في 3 اكتوبر (تشرين الاول) عام 18 وحتى سقوطها الأخير بعد معركة ميسلون في 24 يوليو (تموز) ودخول القوات الفرنسية دمشق دخول الفاتحين ليذهب، القائد الفرنسي “غورو” ويدق بقبضة سيفه على قبر صلاح الدين الأيوبي ويقول ها نحن عدنا يا صلاح الدين.

إن تلك الدولة الفيصلية التي قامت من دمشق ولو أنها حاولت المستحيل في إطار موازين للقوى وظروف دولية لا تقوى على مغالبتها فضلاً عن قصوراتها الذاتية، فلقد وقفتُ عندها وعند تجربتها لما تقدمه من مؤشرات عما كان عليه الإدراك السوري، وإدراك النخب السياسية والثقافية والنضالية القومية في المشرق العربي، لقضية الأمة واستقلالها ووحدتها وتطلعاتها لإقامة دولة الأمة العربية المستقلة والتي بقيت تعطي مؤشرات مستقبلية.

ففيصل الأول عندما ذهب على رأس الوفد العربي إلى مؤتمر السلام في 6 يونيو (حزيران) وفي خطابه أمام “مجلس العشرة” أكد على المطالب العربية انطلاقاً من مبدأ عام في حق الشعوب، الناطقة بالعربية في آسيا من ديار بكر حتى سواحل الهندي بالاستقلال والوحدة . وذهب فيصل بعد ذلك بهمه إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه لإقامة “دولة عربية سورية” من دمشق، ولكن الصورة الأوضح لمعالم الوعي القومي الذي كان في سورية للوحدة ودولة الأمة، جاءت في الصيغة التي قام عليها “المؤتمر السوري العام” كمجلس تأسيسي منتخب، والذي ضم ممثلين لمختلف فصائل “الثورة” والحركات العربية، والذي تشكلت من خلاله تيارات وأحزاب سياسية متعددة، وفيما جاءت عليه قرارات ذلك المؤتمر في جلساته التي عقدت شهر حزيران (يونيو) عام 1919 في “النادي العربي” بدمشق والتي جاءت تعبيراً عن مطالب قوى الأمة وتطلعاتها وتعاملها مع الظروف الدولية المحيطة بها، ولقد سجل المؤتمر في قراراته إبلاغ احتجاجه واعتراضه على ما جاء في ميثاق عصبة الأمم حين وضع سورية في عداد الأمم المحتاجة للانتداب . وأكد المؤتمرون على استقلال سورية التام (سورية الطبيعية) وفي إطار وحدة عربية مستقلة دون أية حماية أو وصاية، بل مجرد استعانة فنية واقتصادية بالدول الغربية؛ وأن تقوم الدولة ويقوم الحكم على أساس البرلمانية واللامركزية مع الأخذ بعين الاعتبار حقوق الأقليات وتأمين المساواة بين المواطنين جميعاً، كما قرر أن يتوج ’’فيصل‘‘ ملكاً على البلاد السورية بأجمعها، وأن يقيم حكومة ملكية شورية مسؤولة أمام الأمة . وأعلن المؤتمر عن احتجاجه على كل معاهدة سرية بتجزئة سورية وكل وعد يرمي إلى كيان للصهيونية في فلسطين، كما أكد على احترام الوضع الخاص بلبنان . ولكنه أكد في الوقت ذاته على تحقيق المطالب ذاتها بالنسبة للعراق من غير أن تقوم فواصل أو حواجز اقتصادية بين البلدين، مع التأكيد على أن استقلال سورية يبقى حجر الزاوية لاستقلال البلاد العربية، وهذا ما سمي وقتها ببرنامج دمشق، البرنامج الذي جاءت لتطويه ثم لتطوي كل تلك التطلعات الوحدوية، الحملة الاستعمارية، لتُجزأ سورية الطبيعية وتُقسم حسب خارطة اتفاق سايكس- بيكو بل وأكثر. وليؤخذ منها بعد ذلك ويُقتطع ما يقتطع ثم ليمتد التقسيم والتجزئة إلى داخلها بتدابير سلطات الانتداب الفرنسي .

لقد أدت الحرب العالمية الأولى وتصفية تركة الامبراطورية العثمانية وتقاسمها بين الدولتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا، إلى تكريس نظام شرق أوسطي تجزيئي ومسيطر عليه . فبعد أن جرى عزل مصر منذ الاحتلال البريطاني عام 82، وبعد إسقاط احتمالات قيام دولة عربية موحدة ومستقلة في المشرق العربي، أخضعت المنطقة لقيود التجزئة المتحكم فيها استعمارياً، قطعاً لطريق التحرر والنهوض والوحدة للأمة العربية . والحرب العالمية الثانية وإن فتحت الطريق أمام عملية خلع الاستعمار القديم في العالم، فلقد حرصت القوى الامبريالية الغربية بقديمها وجديدها على تكريس النظام الشرق أوسطي، كنظام يقوم على التجزئة للتمكن من إخضاعه لنفوذها . ولقد أرادت تعزيزه وتكريسه بإقامة الكيان الصهيوني في قلبه . وهذا النظام الشرق أوسطي العتيق لم يجر اختراقه وتخطي قيوده، وبعد كل نضالات شعوب المنطقة على طريق الاستقلال الوطني، إلا بعد قيام الثورة الناصرية في مصر واقتلاع أسوار العزلة عن مصر، وبعد تأميم القنال وكسب حرب السويس وكسر أطواق الأحلاف والقواعد العسكرية الأجنبية من حلف بغداد إلى مبدأ ’’إيزنهاور‘‘، وبعد مد جسور الوحدة بين مصر وسورية من فوق حواجز التجزئة…

بعضهم يقيم مقارنة بين معركة التل الكبير التي أسقطت ثورة وطنية مصرية وفتحت الطريق للاحتلال البريطاني لمصر، وبين معركة ميسلون التي أسقطت أمل قيام وحدة أو دولة عربية موحدة في الشرق، بعد إسقاط كل مشروع “الثورة العربية الكبرى” كما سُميت، ولكن مصر بقيت هناك كتلة واحدة وشعباً واحداً ومجتمعاً واحداً، وإن عزلتّها عن مشرقها صحراء سيناء والقوات البريطانية المرابطة في قناة السويس، ولكن سورية أُخضعت بعد ميسلون لعملية تقطيع وتوزيع . وبعد أن انطوت على كيانها الشمالي هذا، تحت الانتداب أُخضعت لعملية تقسيم وفصل من داخلها وتقسيم مجتمعها وشعبها إلى تقسيمات جغرافية واثنية وطائفية تجعل منها كيانات متفرقة . ولكن طلائعها وتياراتها الوطنية، وفي كل معارك نضالها وثوراتها التي لم تتوقف ضد الاحتلال ، ما كانت تجد سبيلها إلى صياغة وحدتها الوطنية الداخلية إلا من خلال التمسك بهويتها القومية العربية وتطلعاتها الوحدوية.

عند سقوط الدولة الفيصلية العربية في دمشق بعد معركة ميسلون وطرد الملك فيصل من دمشق ووقوع سورية تحت الاحتلال الفرنسي، انفض الشمل الذي كان يجمع قيادات فصائل القومية العربية وحركة الثورة والوحدة، وتبعثرت في أرجاء الوطن العربي، ولجأ أكثرها إلى العراق ليتجمع من جديد حول الملك “فيصل” الذي عوضته السلطة البريطانية بعرش بغداد عن عرش دمشق . وما أن حصلت العراق على شيء من الاستقلال بعد نضالات شعبه وثوراته الوطنية، إلا وأخذ يرتفع صوت القومية العربية ونداءات الوحدة والاستقلال هذه المرة من بغداد . وهنا أخذت الحركة الوطنية السورية وهي تناضل من أجل الاستقلال، أخذت تتطلع بأفكارها الوحدوية بل ومدت تنظيماتها السياسية باتجاه بغداد طلباً لمساندتها في الحصول على استقلالها كما توجهت بآمالها القومية نحو زعامة الملك فيصل ثم وبخاصة، نحو زعامة ابنه الملك ’’غازي‘‘ الفتى الجسور والمقدام في تطلعاته الاستقلالية والوحدوية . وتلك حقبة صارت الطلائع الوطنية والقومية في سورية تصِف فيها دولة العراق بأنها بروسيا العرب ويتطلعون إلى أن تكون القاعدة والمنطلق لوحدة الأمة كما كانت بروسيا قاعدة ومنطلقاً للوحدة الألمانية.

مات ’’غازي‘‘ أو قتل غيلة، وكان مأتمه في دمشق أكبر من مأتمه في بغداد، وجاءت الحرب وقامت ثورة ’’رشيد عالي الكيلاني‘‘ ومعه الضباط القوميون الأحرار، تطرد الوصي على العرش الموالي، وتتصدى لمواجهة الزحف العسكري البريطاني على بغداد . وقامت سورية، وهي تحت الانتداب، لنصرة العراق . ولكن الثورة انكسرت، وعاد الحكم الموالي والخاضع للنفوذ البريطاني . وانقطع طريق بغداد إلى الاستقلال والوحدة، لتتقدم فيما بعد مشاريع من بغداد لاحتواء سورية، والتحرك الوحدوي والتقدمي في سورية، في إطار وحدة شكلية مهيمن عليها خارجياً وفيما طرح تحت عنوان وحدة الهلال الخصيب من جديد.

لقد أُغلقت البوابة الشرقية أمام التطلعات السورية، وخيمت على المنطقة ظروف الحرب العالمية الثانية وما خلقته ظروف تلك الحرب من انشداد سوري نحو الجنوب ونحو مصر تخصيصاً في تواصلها الثقافي وبعثاتها العلمية، وكذلك في حركة الاقتصاد والأسواق . وفي إطار حركة القوى والجيوش، والتعامل مع تطلعات القوى المنتصرة إلى إعادة ترتيب أوضاع العالم وأوضاع المنطقة، قامت جامعة للدول العربية كمنظمة إقليمية مقرها القاهرة . ودخلت سورية عهد استقلالها الوطني . ولكن المنطقة دخلت بالمقابل عهد إقامة الكيان الصهيوني والحروب العربية الإسرائيلية . وانتهت حقبة، ودخلنا حقبة جديدة في تطلعاتنا القومية الوحدوية . وقامت انقلابات وتصدعت أنظمة وعروش، ثم كانت الثورة، وتقدم مصر عبد الناصر بثورتها على طريق القومية العربية، مادّة البصر عبر سيناء إلى الأمة وقضايا الأمة، وارتسمت معالم الطريق السورية إلى الوحدة في تطلعات شعبنا السوري وحركة الشعوب، وهي طريق الثورة والطريق إلى مصر الثورة، وإلى مطلب وحدة مصر وسورية أولاً طريقاً للمواجهة وطريقاً إلى التقدم العربي ونهوض الأمة.

* بحث قُدّم في الندوة التي أقيمت في القاهرة 22 شباط/فبراير عام 1998 برئاسة السيدة هدى جمال عبد الناصر، بمناسبة مرور أربعين عاماً على وحدة القطرين مصر وسورية.

يتبع..

التعليقات مغلقة.