الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لحظة تخطي الاستشراق

نور الدين ثنيو *

الاستشراق غربي، ظهر ونشأ في الأوساط العلمية الغربية الأوروبية والأمريكية، طوال القرنين التاسع عشر والعشرين. وهو اليوم آيل إلى التواري والزوال، بعد ما طرأت تحولات في النشاط البشري والحراك الإنساني على مستوى المؤسسات التعليمية والعلمية، والأكاديمية الجامعية في العالم كله، وصار نصيب العرب والمسلمين من الرصيد المعرفي حول العرب والإسلام، وفير بقدر ما يلغي احتكار الباحث الغربي لمادة العرب والإسلام والمسلمين، بل الأمر ليس على الاستشراق في نسخته العربية، أو ما يعرف بالاستعراب، بل حتى الاستشراق الصيني والياباني والهندي والإيراني والعثماني.

فلم يعد المستشرقون مستشرقين بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، عندما كان الغرب يدرس ويبحث ويكتشف، وحتى يبدع ويخلق الشرق، على رأي الفنان الفرنسي ’’إيتيان/ نصر الدين دينيه‘‘ (1861- 1929) في كتابه «الشرق كما يراه الغرب» (1920)، بل الأمر كله آل إلى العرب والمسلمين، بداية من نهاية الحرب العالمية الثانية، الذين صار بإمكانهم تعلم اللغات الأجنبية (الغربية الحية) والكتابة والتفكير بها، ومن ثم جمعوا في لحظة واحدة الثقافة العربية والإسلامية والغربية، فضلا عن إمكانية استثمار لقائهم مع خبراء وعلماء غربيين في مخابر ومراكز علمية، وجامعات أكاديمية لإنجاز الأعمال الكبرى، التي تساعد على ردم الهوة السحيقة، التي فصلت بين الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية، وعهد الاستعمار الحديث. فمباحث الإسلام والشرق والعرب، كلها صارت تراثا حديثا، يندرج في بحثه ومعالجته والتفكير فيه الغربيون، إضافة للعرب والمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، التي لم تعد غربا لهذا السبب بالذات، أي لوجود عرب ومسلمين مقيمين في أوروبا وأمريكا.

ولتبيان حقيقة أفول علم الاستشراق الكلاسيكي، كما حدده ’’محمد أركون‘‘، نذكر أن المنجز الأدبي والتاريخي والديني، حول العرب والإسلام، وليس الشرق كما كان يطلق عليه من قبل، تتم كتابته وترجمته إلى اللغات الأجنبية، التي لم تعد أجنبية في الوقت الرَّاهن، بأقلام وأفكار عرب ومسلمين، على ما فعل الباحث الجزائري ’’مالك شبل‘‘، الذي ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية عام 2009، منشورات “فايار” . والترجمة الجديدة لها سوابق من داخل التراث العربي والإسلامي، وليس فقط ما قام به المختصون الغربيون في تراث الشرق، فقد سبقه إلى ذلك الشيخ ’’حمزة بوبكر‘‘ (1912- 1995) إمام ومدير مسجد ومعهد باريس (1957- 1982) والد ’’دليل بوبكر‘‘، الذي قدّم ترجمة رائعة للقرآن الكريم، منشورات “فايار”، وقبله السيد ’’أحمد التيجاني‘‘ (1875- 1982)، والد الوزير الجزائري السابق ’’الهاشمي التيجاني‘‘، الذي ترجم معاني القرآن الكريم في سياق زمني معاصر مع زميله الفرنسي ’’أوكتاف بيسل‘‘، منشورات “ميزوناف/ لاروز” . وقد ننهي الاستشهاد بما أنجزه العرب والمسلمون من ترجمات إلى اللغات الأجنبية، لكن أبداً لا نغمط الإشارة إلى المفكر الجزائري ’’محمد تازروت‘‘ (1893- 1973) الذي ترجم كتاب المؤرخ الألماني ’’أوزوالد سبيلنجر‘‘ «أفول الغرب» إلى اللغة الفرنسية، وتعرَّف عليه الفرنسيون لأول مرة بلغتهم.

عندما نتحدث عن أن الاستشراق كمسألة غربية، نعني من جملة ما نعني، أنه رافق نشأة المؤسسات العلمية ودُوّرها العَالِمة من معاهد وكليات ومرافق أكاديمية ودوائر تخصص، أي عِلْم واكب تأسيس مناهج وطرق تَلَقّي العلوم الاجتماعية والإنسانية وضبط مصطلحاتها، خاصة منها بلورة قاموسها اللَّاهوتي. والاستشراق بهذا المعنى، هو استمرار أمين لتاريخ العلم الغربي الحديث والمعاصر، أقبل العرب عليه بالنقد والنقض، وإعادة النظر من وجهة نظرهم، وليس كما ضَبَطته نظمه وأنساقه العلمية في الغرب. ومن هنا طبيعته الإشكالية حيث يتنازعه تصوران في ما هو مادة واحدة، على شاكلة تاريخ الاستعمار: أرض واحدة لذاكرتين وتاريخين. وكون الاستشراق غربيا، يحيل الأمر برمته إلى تاريخ الاستعمار الحديث والمعاصر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بمعنى ليس بالضرورة أن الاستشراق في ماهيته نزعة إلى الاحتلال والهيمنة، ورديف أصيل في العملية الاستعمارية الكبرى، التي حلّت بالعالم بداية من القرن التاسع عشر، بسبب التطور المتَوَرم للرأسمالية المتوحشة، التي انتقدتها النظرية الماركسية، وهي جزء من تطور الغرب ذاته . فقد نجم عن الحالة الاستعمارية وتطوراتها تطور مواز للعالم، حيث ظهر المركز الغربي والمحيط الهامشي لبقية العالم، أكَّد وضعية مفارقة لما تطمح إليه الإنسانية، أي عالم يزداد غنىً، في ما عالم آخر لا يني يتأخر، بسبب تقدم المركز، أي التراجع والنكوص، الذي يحسب على تزايد الرفاهية الأنانية للحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة.

إن التوكيد على أن الاستشراق مسألة غربية يعني أيضاً، أن نقده وتصحيحه وتعديل مساره، قد تم من داخل المؤسسات العلمية الغربية، سواء الأوروبية أو الأمريكية، خاصة في إطار التعاون العلمي، وصيغ البحث المشترك بين العرب والغرب . وقد نجم عن هذا النوع من البحث، أن اهتدى بعضهم إلى هداية الإسلام واعتناقه، كمطاف أخير، توَّج به حياتَه التي صارت تختلف عن النمط الغربي المادي . ففي قلب المناهج العلمية والمعرفية الأوروبية، ظهرت مقاربات روحية ونفسية وفنية تلح على ضرورة تجاوز الذهنية الاحتكارية، وطريقة استحواذها على حياة الآخرين بإضفاء أسماء عنصرية، ارغامية محاصرة له تضعه دائما في قوالب لا فكاك منها إلا بالثورة والحرب والتمرد، على ما شاهدناه طوال النصف الأول من القرن العشرين . وقد أسس هذا النمط من نقد الاستشراق من الداخل للحظة روحية ودينية ومعنوية وفنية جديدة تماما، على ما فعل ’’إتيان دينيه‘‘ نفسه الذي كان فنّانا تشكيليا، وواصله ’’فانسان مونتاي‘‘ (1913-2002) Vincent Monteil، الذي كان عسكريا، إلى السيدة ’’أفان دوفيتري ميروفيتش‘‘ (1900-1999) التي فُتنت برومانسية الشرق وروحانية علمائه، و’’ميشال كودكيفيش‘‘ (1929-2009) الذي كان مدير منشورات “لوساي”، وليس أخيرا ’’روجيه غارودي‘‘، الذي كان ماركسياً . فقد أفرزت دوائر العلم الغربي اعتبارات جديدة طعّم بها مناهجه ومقارباته وطرق البحث ووصل إلى النتائج، وكانت مادة التراث العربي والإسلامي واحدة من أهم الأرصدة التي ساعدت على تقدم علم الإنسان والمجتمع. فضلا عن الاهتمام بالشرق وما ينطوي عليه من تراث حقيقي لا يمكن أن يطمث أو يعدم، هو أيضا الذي دفع العديد من مناضلي الغرب إلى تبني قضايا الإنسان العربي والمسلم، لأن مبررات وجوده وحقه في الوجود مؤكدة في تراثه وقابليته المدنية والحضارية. فهو لم ينقرض لكي يهال عليه تراب التاريخ والنسيان والزوال إلى الأبد.

فقد توصّل المستشرقون إلى طرح مسألة الشرق ضمن إشكاليات العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتنازعتهم قضاياها في أفق جديد، خاصة القرن العشرين، الذي صار يعبر عن الأزمنة الحديثة والمعاصرة . فداخل القرن العشرين أكثر من زمن وأكثر من علم، وأكثر من دين وأكثر من جنس ونوع.

* كاتب وأكاديمي جزائري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.