الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الطريق السوري إلى الوحدة * (1/4) – الدكتور جمال الأتاسي

في 22 فبراير (شباط) لعام 1958 تحقق أول انتصار وحدوي حقيقي لحركة القومية العربية، بعد نضال طال نصف قرن من الزمن، وقامت وحدة القطرين مصر وسورية، في إطار “جمهورية عربية متحدة”. قامت دولة للأمة، لكل الأمة العربية وقضايا الأمة، ولتكون قاعدة انطلاق والجسر الذي تعبر عليه شعوب الأمة نحو الوحدة العربية الشاملة.

هذه الوحدة، وهذه الدولة القومية الموحدة للأمة العربية لم تُعمر إلا ثلاث سنوات وسبعة أشهر، فقد انفصم عقد تلك الوحدة، بل جرى اغتيالها في 28 سبتمبر (ايلول) عام 61 بالتآمر والغدر وبتواطؤ من كل القوى المعادية للأمة، لوجود هذه الأمة أو لنهوضها وتقدمها، من داخلها وخارجها.

لقد قامت بعد ذلك محاولات كثيرة ونضالات شعبية كبيرة لاستعادة تلك الوحدة، كما طرحت بدائل لها وأشكال بديلة، وقامت اتحادات وتجمعات إقليمية وكلها أخفقت حتى اليوم في أن تضع الأمة على طريق وحدة حقيقية من جديد، وكأنها كانت فرصة تاريخية للأمة بقيام ثورة القومية العربية كثورة ناصرية وبقيام مصر عبد الناصر، وقد أضاعتهــا.

ونحن هنا في سورية، وآخرون كثيرون في وطننا العربي، كنا ومازلنا وبعد مرور أربعين عاماً على تلك البداية الظافرة، نسميها وكما سماها عبد الناصر من قبلنا، بالتجربة الرائدة . وهي كما قال عبد الناصر في آخر عيد أقيم لذكرى تلك الوحدة في حياته عام 67 ” .. تبقى أمام النضال العربي ذخيرة ثمينة تعلِّم وتكشف حتى عن طريق أخطائها .. “.

إنها الرائدة ليس من حيث الشكل الذي أقامت عليه نظام الحكم والبنيان السياسي لدولة الوحدة، فهي قد أثبتت أن وحدة الأمة حقيقة وأن إقامة دولة للوحدة ممكنة إذا ما دفعت إليها الإرادة الحرة للشعوب، وتجاوب معها تصميم القادة وأصحاب القرار، وأن الوحدة خلاقة أيضاً وأنها الطريق لبناء المنعة والقوة والتقدم، وأنها الرد على كل التحديات التي تواجهها الأمة، وأنها السبيل لاستكمال مقومات الاستقلال والتقدم والنهوض والأمن للأمة كلها .

وهي رائدة من حيث أنها دلت إلى طريق، طريق الاستقلال الوطني وإطلاق المبادرة الحرة للشعوب، والطريق التي تذهب من سورية إلى مصر لتعود بمصر إلى سورية وتقوى . ثم إن تلك الوحدة فرضت نفسها ثورية، أي فورية تحرق المراحل وتختصر الإعداد لها . ويقول البعض، ومن بين الذين شاركوا فيها أيضاً بأنها كانت مغامرة غير محسوبة النتائج، ولكننا لو قرأنا بتدقيق طبيعة حركة القوى والأحداث المتداخلة في تلك الحقبة، والأخطار المهددة لرأينا أن المغامرة كانت ستكون أخطر وأفدح لو أنها لم تقم . وهذا ما التقطته بالعمق الاستراتيجي والتاريخي القيادة الناصرية عندما اتخذت القرار وأقدمت(1) . والحق أنها خطوة ثورية ثورت المنطقة وثورت شعوب الأمة . أما لماذا تعثرت تلك التجربة، وتلك الوحدة الثورة، وتوقف مدها عند أسوار بغداد وبعد أن كانت الدافع المباشر لثورة 14 تموز في بغداد، ولثورات شعبية أخرى قامت في الوطن العربي، ثم لماذا انحسرت ولم تقوى على حماية نفسها من الثورة المضادة وضربات التآمر والغدر، فتلك مسائل تطرح في المراجعة وللتعلم من التجربة، ولكن وفي هذه المناسبة والذكرى فإن موضوعي يبقى حول “الطريق السوري نحو الوحدة”، وعن الطريق التي مشت فيها سورية إلى تلك الوحدة، وما كان لها وما بقي من رصيد في الوعي وفي حركة القوى وتطلعات الشعوب.

فالنزوع للوحدة العربية لدى الشعب السوري، وكل طلائعه القومية الثقافية وقواه السياسية وأحزابه الوطنية، نزوع أصلي وأصيل ما انقطع منذ قرن من الزمن . والتطلع إلى مصر والتواصل وحدوياً مع مصر، والتقدم بقوة وبوحدة القوة والقيادة في مواجهة الغزو الأجنبي ومشاريع الهيمنة له جذوره البعيدة وتجاربه التاريخية، ولكن الطريق إلى مصر لم تكن دائماً سالكة بل أقيمت أمامها حواجز كثيرة، إلى أن قامت الثورة، الثورة الناصرية في مصر، وما تهيأت له بالثورة مصر وتهيأ له شعب مصر وما أزالت من حواجز وفككت من قيود لتدفق حركة الشعوب باتجاه مصر، ومن سورية بخاصة، مصممة على الوحدة، متخطية الحواجز والمسافات ومختصرة الزمن واحكام الإعداد والتدرج في الزمن، وأعلنت الوحدة.

كان الحدثُ كبيراً، هز أرجاء الدنيا، دنيا العروبة أولاً ثم العالم أجمع منذ أن وقف عبد الناصر في الأول من فبراير (شباط) عام 58 ليعلن: ” .. اليوم أيها الأخوة المواطنون، وبعد أن كانت القومية العربية هتافات وشعارات، أصبحت حقيقة وحقيقة واقعة . إن الشعب العربي في سورية والشعب العربي في مصر أعلنا مشيئتهما بقيام دولة لوحدتهما: الجمهورية العربية المتحدة .. ” .

وفي الخامس من فبراير (شباط) وسورية كلها في مهرجان، اجتمع المجلس النيابي السوري ليقرر الموافقة بالإجماع على اتفاق الوحدة وليرشح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية المتحدة؛ وفي 21 فبراير ذهبنا من دمشق جموعاً جموعاً إلى صناديق الاقتراع لنقول نعم للوحدة في جمهورية عربية متحدة وعبد الناصر رئيساً ولم أجد يومها في التعبير عن الحدث، إلا عنواناً عريضاً لمقالتي في الصفحة الأولى من جريدة “البعث”: كل الذين يريدون البقاء في مسار التاريخ يُحيّون قيام الجمهورية العربية المتحدة(2) . ولقد جاءت تلك الوحدة نقلة نوعية عظيمة في مسار تاريخ الأمة، وجاءت في مسار تاريخ التحرر الإنساني، ولقد حسبنا يومها أننا قد أمسكنا بمبادرتنا التاريخية في النهوض وأن أهداف الأمة العربية كلها صارت قريبة المنال، وما استطعنا هنا في سورية أن نقدر مسبقاً كل تلك المصاعب التي وقفت على الطريق ولا مقدار الكيد والعدوان الذي يدبره أعداء الأمة . وإن كان عبد الناصر قد نبه منذ البداية وحذر ومنذ أن وقف أمام مجلس الأمة في فبراير (شباط) مبشراً بمهرجان الشروق، شروق فجر وحدة الأمة العربية وقيام دولة موحدة للأمة.

وعبد الناصر في تلك الخطبة التاريخية التي بين فيها مقومات تلك الدولة أكد أن المدخل والطريق إلى تلك الوحدة، طريق مصر وطريق سورية، وكل طريق آخر إلى الوحدة إنما يبدأ من الاستقلال الوطني ومن الإرادة الوطنية المتحررة للشعوب وإجماعها ، وقال عبد الناصر: ” .. ما أن حصلت سورية على استقلالها الوطني إلا وتطلعت إلى مصر، وما أن حصلت مصر على استقلالها الكامل إلا وتطلعت إلى سورية … ” .

إلا أن ذلك التطلع كانت له جذوره التاريخية البعيدة من قبل ذلك الاستقلال بكثير، بل وكانت له تجارب أيضاً، ولكن ظروف الاستقلال الوطني لكل من القطرين، مع تحرير الارادة الوطنية للشعبين والتلاقي على الأهداف الكبرى للأمة، والمعارك التي خاضاها معاً في مواجهة القوى المعادية للأمة ومشاريعها في الهيمنة والاستعمار، من خوض معركة كسر احتكار السلاح معاً ثم والمضي على طريق سياسة الحياد الايجابي في السياسة الدولية والمضي في مواثيق الدفاع المشترك بينهما على طريق مواجهة التطويق والحصار والأحلاف العسكرية المعادية، ما عزز تلك الارادة في شق الطريق نحو الوحدة .

عندما جاء رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي ليرفع العلم، علم الاستقلال الوطني، بعد جلاء آخر جندي فرنسي عن أرض الوطن في 17 نيسان عام 46، قال: لن يُرفع فوق هذا العلم بعد هذا اليوم إلا علم الوحدة العربية، ولكن طريق الوحدة يومها لم تكن سالكة باتجاه مصر وما كانت مصر قد أنجزت مهمات استقلالها الوطني وإجلاء الجيش البريطاني عن قاعدة السويس، ولا كانت الثورة قامت في مصر ولا أقامت نظامها الجمهوري ولا نص دستورها على الانتماء العربي الخالص وعلى أنها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، ولا خاضت كل تلك المعارك الوطنية الظافرة تحت راية القومية العربية، لتشد لا سورية وحدها وطريق سورية الى الوحدة نحوها، بل وشدت كل تطلعات شعوب الأمة الى الاستقلال والوحدة . ولكن سورية كانت السباقة، وصارت طريق مصر وسورية أولاً في ادراك الشعب السوري، هي طريق الأمة الى الوحدة والتقدم .

إن شكري القوتلي نفسه، كرئيس للجمهورية السورية، هو الذي ذهب الى القاهرة في 31 يناير (كانون الثاني) عام 58 ومعه رئيس الوزراء وعدد من الوزراء ورئيس أركان الجيش، ليُذكر بما قاله يوم الاستقلال وليسلم الراية لـ عبد الناصر ولترفع راية وحدة القطرين . ولكن الارادة الجماعية للشعب السوري، وبكل قياداته المدنية والعسكرية وكل تياراته الوطنية، كانت قد سبقت الحكام الى القاهرة ودفعت بالحكام نحوها، ثم كان لا بد أن تأخذ الأمور مجراها السياسي والدستوري، وقامت الجمهورية العربية المتحدة.

وقضية الوحدة العربية، وكما تشكلت في وعينا القومي العام، وفي ادراك الطلائع والنخب الثقافية والسياسية لشعبنا العربي السوري، إنما هي في النهاية الوحدة التي تجمع أجزاء الوطن العربي كله ومن المحيط الى الخليج، وطناً موحداً وأمة واحدة وكياناً سياسياً واقتصادياً وثقافياً موحداً ومستقلاً عن كل سيادة أو هيمنة أجنبية.

ولقد أخذ توجه الحركة القومية العربية في سورية على طريق هذا الهدف الطموح مسارات مختلفة، عبر المخاضات التاريخية التي انخرطت فيها شعوب أمتنا وحركات التحرر الوطني في منطقتنا العربية، في حقب زمنية متلاحقة من هذا القرن العشرين . ولكن المسار الذي تقدم بسورية نحو وحدة عام 58 وتجربة تلك الوحدة، تبقى في وعينا القومي في سورية، أو في وعي من بقي على التطلع لوحدة الأمة، كطريق لابديل عنه للخلاص، لا ماضياً تعتز به بل يبقى أيضاً دليلنا الى المستقبل.

لكن وقبل الخوض في الحديث عن المسار السوري الى الوحدة في الحقب الماضية، سنقف عند التأكيد على بعض الملامح والسمات العامة لذلك المسار.

1- إن التطلع الى الوحدة الشاملة للأمة العربية والى تحرير أقطار الوطن العربي واستقلالها واقامة كيان موحد أو دولة واحدة لشعوبها، كان المبدأ والمنطلق لحركة القومية العربية ولروادها الأوائل ولمنظماتها السرية ولأحزابها منذ أواخر القرن الماضي . وهذا التطلع، وبعد كل المتغيرات التي وقعت في منطقتنا والعالم، ما زال قائماً كطريق للنهوض بالأمة من جديد.

2- وفي المشروع القومي العربي كان واضحاً دائماً أن طريق الوحدة العربية طويلة متعددة المراحل والأطوار، وكذلك التجارب والأشكال . وأنها لا تتوقف على إرادة أو استعداد قطر عربي بعينه، أو حكومة أو حزب، ولكنها وقد وجدت محركاً على طريقها ومنطلقاً من بلاد الشام، أو من جزء من بلاد الشام الذي صارت إليه “سورية”، فلقد كان التوجه الوحدوي في سورية، يذهب في تطلعاته إلى مركز عربي ومرتكز قوي وثابت يركن إليه، والى قيادة أو رمز يشد الأنظار اليه ويجمع .

3- إن سورية في توجهها القومي العربي وفي اختيار طريقها الى الوحدة، كانت مستعدة للتخلي عن كيانها السياسي الذي رسمت حدوده من قبل المخططات والمصالح الاستعمارية ومن ثم الأنظمة القطرية والانفصالية، لصالح التكامل مع/ والاندماج في كيان عربي أوسع وأكبر . وهذا لم يكن طريق قواها القومية الى الوحدة والى بناء القوة والمنعة فحسب، بل وكان طريقها في الوقت ذاته لتحقيق الاندماج القومي لمجتمعها نفسه وتحقيق الوحدة الوطنية لشعبها في مستوى أكثر تلاحماً، بعد كل ما زرعته ظروف القهر من تناثر في بنيته الاجتماعية ومن رواسب العصبيات والروابط قبل القومية.

4- وطريق الوحدة سابقاً وحاضراً، ماضياً ومستقبلاً، هو طريق المواجهة مع أعداء الأمة والطامعين في أرضها ونفطها ومياهها ومواقعها الاستراتيجية وكل الذين يعملون على طريق تجزئتها وسد الطريق أمام تقدمها ونهوضها كأمة . وهو الذي شد في الماضي وما زال يشد أواصر الوحدة في المواجهة من سورية الى مصر ومن مصر إلى سورية.

5- ثم إن طريق الوحدة، وكما هو طريق المواجهة، فهو طريق الأمة ولا طريق غيره الى التقدم والنهوض . وهذا ما تدفع إليه الارادة الحرة والمصممة للشعوب، ولقد كان طريق سورية إلى الوحدة من البداية هو طريق الاستقلال الوطني وتحرير الإرادة الوطنية لشعوب الأمة، لتكون الوحدة خيارها وتعبيراً عن إرادتها الجماعية والحرة، ولتأتي في خط التقدم وعلى طريق التحرر والتحرير من كل تابعية، وفي المواجهة مع كل مشاريع الهيمنة الأجنبية والاستعمار.

وبكل هذه المؤشرات مجتمعة صارت طريق سورية باتجاه مصر الثورة، مصر عبد الناصر، هي وليس غيرها الطريق السالكة للوحدة . فمن قبل وحدة عام 58 ومن بعدها، اغريت سورية بمشاريع للوحدة، أو راودتها طرق أخرى – الى الوحدة، كمشاريع وحدة الهلال الخصيب وسورية الكبرى، لتسحبها على طريق أردن الملك عبدالله أو عراق نوري السعيد، فضلاً عن كل ما دُبر من مؤامرات أو صيغ من تحالفات دفعاً على طريق تلك المشاريع المشبوهة التي كانت تستهدف احتواء سورية في أطر المخططات والأحلاف الاستعمارية، وما صدتها وردتها إلا اليقظة الوطنية للحركة الشعبية في سورية . كما وأن الحركة الشعبية الوطنية في سورية وكل القوى والأحزاب القومية الوحدوية، لم تجد في قيام جامعة الدول العربية عام 45 وانضمام الحكومة السورية إليها تعبيراً عن ارادتها وطموحاتها، أو عن الطريق الى وحدة لأمة كما تتطلع إليها الشعوب . فعدا أنها جاءت بمباركة من الحكومة البريطانية ولتبقى ضمن دوائر نفوذها، فقد قامت كجامعة دول وحكومات منفصلة عن بعضها، وقامت كمنظمة اقليمية لدول مختلفة وليس كجامعة قومية وكيان موحد للأمة، وبقيت على تكريس قطرية الأنظمة في أطر التجزئة. وظلت سورية تطالب بمضاهاتها بجامعة للشعوب تخلع أطر التجزئة وتقتلع الحدود الفاصلة، وتنزع عن الأنظمة قطريتهـا لتأخذ أسباب الوحدة القومية الصحيحة.

وفي الطريق السوري الى الوحدة، وحدة الأمة العربية، ولاستكمال مقومات وجودها كأمة ونهوضها في مواجهة التحديات، كانت الوحدة دائماً هدف تفرضه ضرورات الحياة وضرورات البقاء والتحرر والتقدم للأمة، في تاريخ حركة القومية العربية والدفع على طريق الوحدة ومشاريع التوحيد والوحدة يمكن أن نميز بين حقبتين تاريخيتين، حقبة الناصرية والنهوض الناصري والثورة الناصرية كثورة للقومية العربية، وحقبة ما قبل الناصرية، ثم وقوفاً عند هذه الحقبة ما بعد الناصرية التي نعيشها تراجعاً وانكفاءً عن كل طريق إلى الوحدة.

فالحقبة الأولى في مسيرة نضال الأمة من أجل الاستقلال والوحدة، هي تلك التي تعود بنا إلى بدايات حركة القومية العربية المنطلقة من المشرق العربي وسورية، والتي سارت إلى “الثورة العربية الكبرى” ثورة الشريف حسين عام 16، متطلعة إلى إقامة دولة عربية موحدة للأمة والتي بانكسارها أمام المشروع الاستعماري تكرس نظام شرق أوسطي للتجزئة والهيمنة الاستعمارية، والذي حمل في طياته وعد بلفور وإقامة الكيان الصهيوني، استكمالاً لمقومات ذلك النظام الشرق أوسطي للسيطرة بقيام “إسرائيل “، وسلباً للوجود العربي واستنزافاً لطاقات النضال العربي وسداً لطريق الوحدة . ثم تأتي الحقبة الناصرية للنهوض العربي منذ أن انتقل عبد الناصر بثورة 23 يوليو من طورها الوطني الأول لتصبح ثورة للقومية العربية كلها ووحدة الأمة، والتي حققت اختراقات كبيرة لذلك النظام الشرق أوسطي السالف الذكر في معارك متلاحقة، وانتصارات لثورات الشعوب، وصارت قضية الوحدة العربية والتقدم على طريقها شعارات للنضال اليومي لحركة شعوب الأمة وبالثورة صارت مصر قاعدة حصينة للقومية العربية ودولة لكل الأمة العربية وقضاياها. إنها الحقبة التي بلغت عنفوانها القومي حين حققت وحدة مصر وسورية في جمهورية عربية متحدة، ولتبقى مصر بعد الانفصال جمهورية عربية متحدة، تقود معارك الأمة وتدفع على طريق وحدتها.

ثم هناك الما بعد، ما بعد الناصرية، والتي يمكن أن نؤرخ بداية التراجع فيها، بعد غياب عبد الناصر، بصعود السادات بثورته المضادة منذ 15 مايو (أيار) عام 71، حين خلع عن مصر اسم ” الجمهورية العربية المتحدة” وصفة الدولة القومية لكل الأمة العربية . ليعيدها مصر المصرية ثم ليضعها في إسار كمب دافيد . ثم ما توالى في هذه الحقبة الأخيرة من تراجعات ليعود ويتكرس نظام التجزئة والكيانات القطرية الانفصالية ولتدخل الأمة والمنطقة العربية في دوامة مشاريع الهيمنة التي تُرتب لإعادة إنتاج نظام شرق أوسطي جديد مُعولـم اقتصادياً لصالح الاستقطاب الأمريكي والرأسمالية الدولية الجديدة، ومُتحكم فيه صهيونياً وبالامتداد الصهيوني، لكي لا تقوم قائمة بعده للأمة ولوحدة الأمة. فكيف كانت وكيف تغيرت الطريق السورية إلى الوحدة في هذه الحقب الثلاث؟.
* بحث قُدّم في الندوة التي أقيمت في القاهرة 22 شباط/فبراير عام 1998 برئاسة السيدة هدى جمال عبد الناصر، بمناسبة مرور أربعين عاماً على وحدة القطرين مصر وسورية.
يتبع..

التعليقات مغلقة.