الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل يفعلها الروس؟!

ميشيل كيلو *

هذا الحديث يدور حول احتمالٍ لا يتعدى حظّه من التحقّق خمسة بالمئة، وهو انتقال السياسة الروسية إلى الطور الذي قاربتهُ ورقة وضعتّْها عام 2015 حول مواقفها الخارجية، صعّدت فيها نبرتها ضدّ العالم المتقدم، أي واشنطن، وهددت بأن الردّ على أيّ استفزاز عسكري سيكون نوويًا، وأعلنت رفض تغيير النظم السياسية بالعنف، أي بالوسائل غير الدستورية أو الشرعية، ودعم الإصلاح الذي يؤيده المطالبون بالتغيير السلمي، لأنه سيتم في إطار الأمر القائم.
هذا التصور يطرح أسئلة متنوعة علينا، وعلى صانعي السياسات الروسية، منها:

هل كان غزو سورية بجيش موسكو الأسلوبَ الأفضل لتهدئة الصراع الدائر في سورية، وإقناع الثائرين بالتخلي عن مطالبهم؟
هل كانت روسيا تجهل حقًا أن الطرف الذي بدأ العنف في سورية، وخرج على الشرعية الدستورية والقانونية، لم يكن الشعب الثائر، بل بشار الأسد، الذي أعلن في أول خطاب ألقاه، بعد الحراك بأسابيع قليلة، رغبته في خوض الحرب ضد المتظاهرين المطالبين بما حصل الروس عليه في أوائل التسعينيات: الحرية، وكان من المنتظر، بعد ذلك، أن ينظروا بتعاطف إلى حراك ملايين السوريات والسوريين السلمي تمامًا والمدني، الذين مارسوا حقهم الدستوري في المطالبة بحقوق وعدهم حزب البعث بها طوال سبعين عامًا، من دون أن يحققها. واتهمهم الأسد بالإرهاب، كأن الإرهابيين طالبوا يومًا بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، أو اعتقدوا أن الشعب السوري واحد، وليس مذاهب وطوائف متناحرة، مصير بعضها الذبح!
هل كانت موسكو تحسب حسابًا لانحرافِ مهمتها عن هدفها، بسبب تدخل إيران وتنظيماتها الإرهابية بينها وبين الأسد ونظامه، ودورها في تصعيد عدائه ضد السوريين، وتحويله إلى مجازر ومذابح بالمئات، ونظرة موسكو الخاطئة للحدث السوري، الذي رأت فيه تدخلًا أجنبيًا مزعومًا، وعدّت التدخل الإيراني شرعيًا، بحجة أن من طلبه هو رئيس شرعي، وتجاهلت أنه فقد شرعيته بالثورة الشاملة عليه، وبالمذابح التي نظّمها ضد الشعب الذي أخرجته من علاقاتها التاريخية مع سورية، إذ قصرتها على السلطة، وأعلنت أنها ستخسر سورية إن سقط الأسد أو أُسقط، وأن إنقاذ سورية يشترط إنقاذ الأسد، مهما كان الثمن، فضلًا عن الوهم الذي ركبها، وجعلها تؤمن بأن تدخلها سيردع التدخلات الأخرى وسيؤدى إلى انحسارها، الأمر الذي كشفت التطورات أنه كان وهمًا مضللًا، بما ترتّب عليه من نتائج سلبية بالنسبة إلى دور الكرملين، ولأهليتها على تسوية النزاعات وتهدئة الصراعات.

واليوم، وقد توقف الصراع المسلح في سورية، أو كاد، من دون أن تحقق موسكو هدفها الاستراتيجي بالانفراد بالموقع وأطرافه، أو تكون جهة مقررة، أو لها الأولوية بالنسبة إلى الحل السياسي وخيارات أطرافه، وإلى تطبيق القرارات الدولية التي تستهدف، في ما تستهدفه، ضبط سلوك وخطوات الدول المعنية بوقف الصراع، من خلال الحل السياسي الدولي، وحادت موسكو عنها في مخالفة فاضحة للشرعية التي غزت سورية بحجتها، وها هي تجد نفسها خارجة عليها، كرمى لرجلٍ كانت تعلم – كأي طرف دولي قادر- حجم افتقاره إلى الشرعية، وحجم الهوة بين أولوية الشرعية الدولية وقراراتها، وبين الشرعية التي كانت له ذات يوم، قبل أن يفتك بشعبه ويقرر إبادة أكبر عدد من بناته وأبنائه، حتى غير الثائرين منهم عليه! فهل تدرك موسكو، في ظل هذه التعقيدات، أن شروعها الموعود بالإصلاح، بعد انتهاء محاولات إسقاط النظام بالقوة، صار مستحيلًا، ليس فقط لأنها لم تُبد أي قدر من التفهم لما طالب به الشعب السوري، ولم تُفصح عمّا عنته بدعم الإصلاح بعد الثورة، التي لم تنتهِ بالطريقة التي تصورتها، أي بانتصار حاسم يحرزه النظام ينتفي معه وجودها، وتنفرد هي فيه بالوضع كقوة خارجية وحيدة، وبالمآل الذي يجب أن ينتهي إليه.

لم يحدث ما تصورته خطة موسكو، فلا جيشها انتصر في ثلاثة إلى ستة أشهر، ولا هي انفردت بالوضع السوري، أو ضمنت ولاء الشخص الذي أنقذته، بطلب من إيران، التي أنقذها الكرملين من الهزيمة هي أيضًا، وها هي تنتزع منها ربيبها، وتقلص نفوذها عليه، وتشده إلى خارج أي مسعى إصلاحي قد تحاوله موسكو، أو تفكر في تطبيقه.

هل ستُعيد موسكو النظر في خطتها، بسبب التنافس الذي يعرّضها له حليفٌ كان بحاجة إليها، وغدا اليوم غريمَها الرئيس، والخطر الذي يتحداها بنجاح ملحوظ، لا يستبعد إطلاقًا أن يرغمها على الانخراط في صراع ضده، حول مرحلة ما بعد السلاح الانتقالية، التي لا بدّ أن تحسمها لصالحها، ولكن ليس ضد الثورة، بل ضد حليفها الإيراني وربيبها الأسدي؟

هل تدرك موسكو أبعاد هذا الفشل، وتبادر إلى تطوير موقف مختلف حيال المعارضة، وإبداء تفهّم جدي لمطالب الشعب التي تتمحور حول الحرية والديمقراطية، وكذلك حيال إيران التي تصارعها اليوم بجميع الطرق والأساليب الخفية والظاهرة ويمكن للمعارضة مساعدتها في صراعها ضدها. وتُغيّر موقفها من الأسد، الذي يسهم في تقييد نفوذها وحركتها، وما يتصل منهما بالإصلاح، خشية خروجها من مأزقها الذي ستعمقه من بعد وقف الحرب، في محاولة لإعادة النظر في الوضع القائم اليوم برمته؟
هل للمعارضة من دور في رد روسيا إلى صوابها، وتشجيعها على مراجعة موقفها من المسألة السورية، لإنقاذ نفسها من الورطة التي تجد نفسها فيها؟!

* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.