الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

رسالة الرئيس جمال عبد الناصر عن القدس والمسجد الأقصى

إلى الفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وإلى ضباط وجنود الجيش المصري، بعد إقدام الصهاينة على حرق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969*

 

“مع كل مشاعر الغضب الجارف والحزن العميق والآلام الروحية والمادية التي تعصف في قلوب امتنا بأسرها من المحيط إلى الخليج، فإنني لم أجد من أتوجه إليك هذه اللحظة بخواطري عبر القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة، ومن ورائها القوات المسلحة لشعوب أمتنا العربية، وكل قوى المقاومة الشريفة التي فجرتها التجربة القاسية التي أراد الله بها عز وجل أن يمتحن صبرنا، وأن يختبر صلابتنا.

لقد انتظرت وفكرت كثيرا في الجريمة المروعة التي ارتكبت في حق قدس الأقداس من ديننا وتاريخنا وحضارتنا، وفي النهاية فإنني لم أجد غير تأكيد جديد للمعاني التي كانت واضحة أمامنا جميعاً منذ اليوم الأول لتجربتنا القاسية، وذلك أنه لا بديل ولا أمل ولا طريق إلا القوة العربية بكل ما تستطيع حشده، وبكل ما تملك توجيهه، وبكل ما تستطيع الضغط به حتى يتم نصر الله حقاً وعزيزاً.

لقد فتحنا للسلم كل باب، ولكن عدو الله وعدونا أغلق دون السلم كل الأبواب، ولم نترك وسيلة إلا وجربناها، ولكن عدو الله وعدونا عرقل الوسائل وسد مسالكها، وأظهر للدنيا كلها ما كان خافياً من أمر طبيعته ونواياه.

وحين وقعت هذه الجريمة ضد المسجد الأقصى في القدس، فإننا لم نتسرع وانتظرنا، لا نتصور أن يكون التدبير قصداً مقصوداً، ولكن الدلائل القاطعة أمام عيوننا الآن، لا تترك لأحد أن يتصور شيئاً آخر غير الحقيقة وحدها مهما كانت بشعة ومروعة.

ولسنا نجد أن هناك فائدة في اللوم والاستنكار، وليس يُجدي أن نقول بأن إسرائيل بعدما حدث للمسجد الأقصى قد أثبتت عجزها عن حماية الأماكن المقدسة، كما أنه لا نفع من الالتجاء إلى أي جهة طلباً للتحقيق أو طلباً للعدل .

إن هناك نتيجة واحدة يجب أن نستخلصها لأنفسنا، ويتحتم أن نفرض احترامها مهما كلفنا ذلك، ألا وهي أن العدو لا ينبغي له ولا يحق له أن يبقى حيث هو الآن.

إن العدو لن يتأثر باللوم أو الاستنكار، ولن يتزحزح قيد أنملة عن المواقع التي هو فيها لمجرد قولنا بأنه اعجز من مسؤولياتها، ولن يتوقف دقيقة لكي يستمع إلى صوت أي جهة تطلب التحقيق والعدل.

إننا أمام عدوٍ لم يكتف بتحدي الإنسان، ولكنه تجاوز ذلك غروراً وجنوناً، ومد تحديه إلى مقدسات، أرادها الله بيوتاً له وبارك من حولها.

إنني أريد أن يتدبر رجالنا من ضباط وجنود القوات المسلحة مشاعر اليومين الأخيرين، وأن يتمثلوا معانيها، وأن يصلوا وجدانهم وضمائرهم بوجدان أمتهم وضميرها، وأن يعرفوا إلى أعماق الأعماق أنهم يحملون مسؤولية وأمانة، لم يحملها جند منذ نزلت رسالات السماء هدياً للأرض ورحمة.

إنهم في معركتهم القادمة ليسوا جند أمتهم فقط، ولكنهم جند الله حماة أديانه وحماة بيوته وحماة كتبه المقدسة.

إن معركتهم القادمة لن تكون معركة التحرير فحسب، ولكنه أصبح ضروريا أن تكون معركة التطهير أيضا.

إن أنظارنا تتطلع الآن إلى المسجد الأقصى في القدس وهو يعاني من قوة الشر والظلام ما يعاني.

ومهما كان ما نشعر به في هذه اللحظات، فإن دعاءنا إلى الله عز وجل، مؤمناً وخاشعاً، هو أن يمنحنا الصبر والمعرفة والشجاعة والمقدرة لكي نزيل الشر والظلام.

ولسوف تعود جيوشنا إلى رحاب المسجد الأقصى، ولسوف تعود القدس كما كانت قبل عصر الاستعمار الذي بسط سيطرته عليها منذ قرون حتى أسلمها لهؤلاء الصهاينة اللاعبين بالنار.

سوف نعود إلى القدس، وسوف تعود القدس إلينا، ولسوف نحارب من أجل ذلك، ولن نلقي السلاح حتى ينصر الله جنده، ويعلي حقه ويعز بيته، ويعود السلام الحقيقي إلى مدينة السلام”.

 

* جمال عبد الناصر 23  آب/أغسطس 1969

 

التعليقات مغلقة.