الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

رسالة إلى الموت

للكاتب التركي الساخر: عزيز نيسين

لا تأتِ مصحوباً بالصخب، فأنا لا أريد أن يسمع أحد بمجيئك لزيارتي. يكفي أن نعرف نحن الاثنين، أنا و أنت، بذلك. ليست هناك حاجة لأن تستنفر الآخرين بحدث قدومك. تعال بشكل يليق بي، بسلوك ينسجم مع كياني وتاريخي. تعال بهدوءٍ وصمتٍ، تعال بما ينسجم مع نمط حياتي التي دامت أعواماً طويلة دونما ضجيج !

فأنت حين تأتي من أجلي أنا، أنت آتٍ لتأخذني لا لتقضَّ مضاجع الآخرين.

لقد تحمَّلتُ كل ما عانيت ضاحكاً ولم يعلم به سواي. أحزاني خبَّأتها لنفسي. أمَّا أفراحي فكنتُ أتقاسمها والآخرين. كم أتمنًّى أن تكون نهايتي أيضاً على تلك الصورة! أنا أعرف أنَّك قويٌّ. رأسي الذي لم ينحنِ لأحدٍ قد ينحني لك أنتَ، عشت حياتي مرفوع الرأس، ناصع الجبين. فعانقني واقفاً. مرفوع الرأس حين تأتي لتأخذني. وإذا كنت قد أخفقتُ في إنجاز جميع المشاريع التي خطَّطتُ لها خلال الفترة التي أمهلتني فيها فإنَّ الذنب في ذلك لا يقع على أحد سواي، أنا المذنب الوحيد… هذه العقوبة تكفيني، إنها أثقل العقوبات لدى الذين يحسون بمرارتها.

حياتي كلها أمضيتها وأنا في صراعٍ معك ندَّاً لندٍّ. كثيرة هي المرَّات التي تلقَّيتُ فيها الهزيمة.

روحي، وهي أقدسُ ما عندي، أريد أن أعطيها برجولةٍ، بوقارٍ، واقفاً، مرفوع الرأس، بصورةٍ تليق بي، إنَّني لا أريد أن أستسلم…… أريد أن أقدِّم روحي لك كما لو كنت أقدِّم لك هديَّة تذكارية.

ومقابل هذا إذا أخذتني بعد أن تتسلَّم قلمي الذي كان سيفاً على الدَّوام بيديك الاثنتين بكلِّ إجلالٍ لتضعه فوق رأسكَ بإكبارٍ، فكن مفعماً بالاحترام أمام الروح النقية الشفافة التي دأبت كل حياتها على زيادة نقائها وشفافيتها، مثلما أن ممتلئ احتراماً لك. لم يسمعني أحدٌ وأنا أتأفَّف فلا تجعلني أتأفَّف منك.

تعال في واحدة من لحظاتي العادية الآن حين يكون القلم بيدي والآلة الكاتبة أمامي. والأوراق بجانبي. لا أريد أن تأتيني وأنا بطلٌ، لا، ولا وأنا غائبٌ عن الوعي. تعال ليلاً، وإذا شئت تعال نهاراً. تعال في الصيف. أو في الشتاء، إنَّ بابي وقلبي مفتوحان لك! يكفي ألَّا تجعلني أستصغر نفسي، يكفي ألَّا تضطرَّني إلى طلب الماء من أحدٍ، ألَّا تضطرَّني إلى طلب المساعدة… ألم نتصارع معاً برجولةٍ؟ ألستُ جديراً بأن أطالبك بكل هذا؟ إذا كنتَ مصرَّاً على جعلي أتأفَّف، فعلى الأقلِّ أرجوك أن تجعلني أفعلُ ذلك بيني وبينك فلا يسمعُ تأفُّفي أحدٌ غيرُنا.

كلانا مناضلٌ ثبت في وجه غريمه، كلانا كافح الآخر كلَّ هذه السنين دونَ توقُّفِ .

ولعلِّي أشير هنا إلى أنَّ نضالي كان أعظمَ وأكبرَ من نضالكَ أنتَ، ذلك لأنَّك كنت واثقاً من البداية من أنَّ النصر في النهاية سيكونُ، مهما حصل، إلى جانبك. في حين كنتُ أنا أعلم علمَ اليقين بأنَّ الهزيمة في نهاية المطافِ ستكونُ من نصيبي.

أريد أن أكون جديراً بالموت مثلما كنت جديراً بالحياة، لقد عملتُ وناضلت كي أكون جديراً بالحياة فكنتُ جديراً بها. بقي الآن أن أكون جديراً بالموت.

اعترف لي بهذا الحقِّ! إنِّني بذلت كلَّ ما استطعتُ من جهدٍ لأضيفَ ألواناً أخرى من الجمال إلى هذا العالم المفعم بآياتٍ لا حصر لها من الجمال، هل يحقُّ لنا أن نلغي وجود جزيرة جميلةٍ لا حدَّ لها لأنها أصغر من أن نراها واضحةً في الأطالس؟ إنَّ مساهمتي موجودة، وإن كانت صغيرةً ومتواضعةً لا تظهرُ على صفحاتِ الأطالس .

تسألني: ماذا فعلتَ؟

فإليك جوابي:

سيميائيو العصور الوسطى عجزوا عن قَلْبِ الحجر إلى ذهبٍ. أمَّا أنا فسيميائي نجح في قَلْبِ دموعه إلى ضحكاتِ قدَّمها للعالم.

أيُّها الموتُ: تعال باحترام، فأنا في انتظارك!

 

بقلم ’’محمد نصرت نيسين‘‘ المعروف بـ (عزيز نيسين)
– 1983

التعليقات مغلقة.