الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الأطماع الإيرانية: درس يمني للسوريين

أحمد مظهر سعدو

لم تتأخر ما يسمى “الثورة الإسلامية” في إيران، بعد انتصارها في عام 1979، في صوغ وتنفيذ استراتيجيتها المبنيّة على فكرة “تصدير الثورة” إلى الخارج، المنطقة العربية خاصة. ولم يُنكر آية الله الخميني الذي قاد تلك الثورة وجود   هذه الاستراتيجية حين أعلن في شباط/ فبراير 1980 “إننا سنصدر ثورتنا إلى كل العالم، حتى يعلم الجميع لماذا قمنا بالثورة” وأضاف “إننا نصدر ثورتنا للعالم كله، فثورتنا إسلامية.. وسنواصل الكفاح ضد المستكبرين”. وبعد أشهرٍ من نجاح الثورة الإيرانية، بدأت إيران بتطوير علاقاتها مع دول عربية عديدة، من بينها سورية ولبنان والجزائر والمنظمات الفلسطينية وليبيا واليمن، ممهدة لتنفيذ هذه الاستراتيجية.

وفي ظلّ شعارات كبرى مضللة (محاربة إسرائيل، وتحرير القدس)، سعت إلى تعميق علاقاتها مع هذه الدول، لخدمة أهداف سياسية قومية مضمرة، ألبستها لبوسًا دينيًا. صحيح أن هذه الاستراتيجية خدمت إيران كثيرًا، لكنها تسببت لها بأضرار كبيرة أيضًا. فقد وفّرت لها علاقات عميقة ومركّبة ومُعقدة مع تنظيمات، وأبعدتها بالمقابل عن دول، وكانت الحرب العراقية – الإيرانية (1980- 1988) التي ذهب ضحيتها أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، من أولى نتائج تلك السياسات، تلاها التدخل الإيراني في لبنان ومحاولتها تأسيس دويلة داخل الدولة عبر حركة أمل بداية ثم حزب الله، ونجحت، بعد مخاض طويل، في صنع كيان مسلح مُتمرّد على الشرعية اللبنانية، ويأتمر بأوامرها.

أما في اليمن، فقد وجدت إيران في الحوثيين حليفًا مناسبًا، دعمتهم بالمال والسلاح، ودرّبت مقاتليهم، وعبأتهم مذهبيًا، ليعودوا فيما بعد قوةً مسلحة تثير القلاقل والاضطرابات، وتتحرش بالجوار، ولتنتقل، من ثم، إلى قتال الجيش اليمني الذي استهلكت طاقته وأنهكته بأربعة حروب متتالية، وصولًا إلى السيطرة على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014، بعد أن تحالفت مع الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، وبعد أن أسهمت في إجهاض ثورة الشباب اليمني.

تجليات السياسة الإيرانية في اليمن

منذ قيام الثورات العربية، انصبّت جهود إيران وسياساتها في المنطقة على إجهاض هذه الثورات، ومنها الثورة اليمنية، وعملت بشكل حثيث على ضمان تدفق السلاح إلى الحوثيين، سواء عبر تهريبه إلى صعدة، أو عبر الدعم المالي لشرائه من الأسواق اليمنية. ووفق تقريرٍ صدر عام 2009 عن مركز (سترانفور) الأميركي للاستشارات الأمنية، فإن إيران أنشأت قاعدة في أريتيريا لمدّ الحوثيين بالسلاح من ميناء (عصب) إلى مينائي (ميدي) و(اللحية)، ليتم نقلها عبر مهربين إلى محافظة صعدة، حيث معقلهم هناك.

في الفترة ما بين أواخر 2011 وأوائل 2012 كثّفت إيران اتصالها السياسي بالحوثيين، وزادت من شحنات الأسلحة إليهم، كجزء مما وصفه مسؤولون عسكريون واستخباريون أميركيون بأنه جهد إيراني متنامٍ لتوسيع نطاق نفوذ طهران في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، عبر تسليح حلفائها من كيانات ومنظمات وميليشيات.

اليمن كمرتكز استراتيجي 

رغم اصطباغ التدخل الإيراني في اليمن بمظهر طائفي، إلا أن إيران سعت من خلال تدخلها هناك إلى تحقيق عدة أهداف، منها توسيع نفوذها الإقليمي، واستباق أي خسائر يُمكن أن تلحق بها نتيجة ثورات الربيع العربي، وربما ليقينها بأن حليفها الرئيس في دمشق سيسقط عاجلًا أم آجلًا. فأرادت استباق الأمر بالبحث عن مناطق نفوذ جديدة في الوطن العربي، تُعوّض به الخسائر الكبيرة المحتملة التي ستلحق بها جرَاء التغيير المتوقع في سورية.

وقد أدركت إيران أن إمكانية تحقيق نفوذ لها في اليمن لا يمكن في ظل وحدة مجتمعية ودولة مهيمنة ومستقرة. لهذا، عملت، في سبيل تقوية حلفائها، على تفجير الوضع العسكري، وإيجاد حالة من الفوضى العارمة التي يمكن معها إعادة صياغة موازين القوى. ومن أجل هذا أيضًا قامت، عبر مخطط بدأ الاشتغال عليه منذ اندلاع ثورة اليمن، بتمويل عشرين وسيلة إعلامية، ورقية وإلكترونية، وبالسعي إلى استخراج تصاريح لسبع صحف مختلفة، وإطلاق عشرة مواقع إلكترونية لأشخاص ومجموعات تعمل في إطار المخطط ذاته، إضافةً إلى تمويل ثلاث قنوات فضائية موجهة للجمهور اليمني، تُشرف على الأولى قناة (المنار) اللبنانية، وعلى الثانية قناة (العالم) الإيرانية، وعلى الثالثة قناة عراقية، مع دورات تدريبية للكوادر الإعلامية تنظم في بيروت من قبل منظمات لبنانية تتبع جهات محسوبة على إيران. ويؤكد مسؤولون يمنيون أن المستهدف من هذا النشاط ليس اليمن فقط، وإنما دول الخليج العربي عموماً، والمملكة العربية السعودية خصوصًا.

إضافة إلى ذلك، اتصلت بـ (الحراك الجنوبي) الذي تدربت بعض عناصره في طهران، في مسعى لتخريب الوضع في عدن أيضًا. وطلبت من قيادات الحراك، فضلًا عن دعم الحركة الحوثية في الشمال، العمل على تجنيد وتدريب 6500 من المقاتلين الشباب. علمًا بأنها، ومنذ اندلاع ثورة الشباب اليمني، قامت باستقطاب 1200 من المقاتلين من صنعاء وعدن وتعز وصعدة، وأرسلتهم إلى سوريا ولبنان لتلقي تدريبات عسكرية على يد مقاتلي (حزب الله)، ومن ثم نقلتهم إلى مدينة (قم) الإيرانية لمواصلة تعبئتهم هناك، وليتمّ تحويلهم إلى خلايا تخريبية، تتحكم فيها إيران للقيام بالأعمال التي يمكن أن توكل إليها.

إيران وشعارات “الممانعة” و”مقاومة إسرائيل”:

بحجّة مقاومة إسرائيل وبذريعة محاربتها، عمل الإيرانيون على الوصول إلى العديد من الدول العربية، كما عمل حافظ الأسد، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، على إقامة تحالف مع إيران يخدمها ويخدم نظامه في الوقت نفسه، ساعدته على ذلك الأوضاع التي كانت سائدة على صعيد المنطقة آنذاك، ونجح من خلال هذا التحالف، خاصةً إبّان الحرب العراقية – الإيرانية، على ابتزاز بلدان الخليج العربي وإيران في الوقت ذاته، لكن إيران كانت تتطلع منذ ذلك الوقت إلى بسط هيمنتها على سوريا.

لم يكن الإيرانيون صادقين يومًا في شعاراتهم المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن مفاجئًا للكثيرين أيضًا أن يُعلن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، في آب/ أغسطس 2006، أن بلاده “لا تشكل خطرًا على إسرائيل”، وأن يُصرح نائبه وصهره، اسفنديار رحيم مشائي، في تموز/ يوليو 2008، بأن إيران “صديقة للشعب الإسرائيلي”، كما لا ينسى أي متابع فضيحة (إيران غيت) وعلاقة السلاح الإسرائيلي بها.

والأهم من “ممانعة إسرائيل” بالنسبة للإيرانيين، على الأرض وليس بالشعارات، محاربتهم الشعب السوري وإصرارهم على الإجهاز على ثورته إنقاذًا للنظام، سواء عبر إرسال قوات الحرس الثوري وميليشيات طائفية تابعة بأعداد فاقت الثمانين ألفاً، أو عبر تدريب الحوثيين وإرسالهم إلى سورية، حيث أصبح من المؤكد أن مئات منهم يقاتلون إلى جانب شبيحة النظام السوري، بعد أن يلتحقوا بمعسكرات تتبع حزب الله في لبنان، قبل أن يتم نقلهم إلى الجبهة السورية، بينما يؤكد بعض المطلعين أن علاقة النظام السوري مع الحوثيين قديمة وتمتد إلى ما قبل اندلاع  الثورة ، وأن مشاركتهم في سوريا الآن تأتي في إطارها الرمزي، لتأكيد تماسك المنظومة المتحالفة مع نظام الأسد “الممانع”.

إلى ذلك، يَعتبر الحوثيون أن سقوط النظام السوري سقوط لمشروعهم في اليمن، لأنه سيقطع عليهم قناة اتصالهم بلبنان وإيران، وهم – في سوريا – يخوضون معاركه التي يعتبرونها معاركهم.

تداعيات السياسة الإيرانية في اليمن على النظام الإقليمي العربي

تركت السياسة الإيرانية في منطقتنا العربية تداعيات ونتائج جمة طاولت معظم المحيط العربي. ويبدو أن الملك عبد الله، ملك الأردن، لم يكن مجانبًا الصواب، حين نبه من خطر ما أسماه، في حينه، بالهلال الشيعي. لكن يبدو الآن أن هناك هلالين وليس هلالًا واحدًا، أحدهما من الجنوب ويصل إلى السودان، والآخر من الشمال ويصل إلى سوريا ولبنان.

ولقد رأينا كيف تحول العراق إلى ساحة أمامية لطهران التي أوصلت الموالين لها إلى الحكم، وأنشأت ودعمت الميليشيات الشيعية المسلحة، كعصائب أهل الحق وجيش المهدي وفيلق بدر، وأكثر من أربعة عشر فصيلًا مسلحًا، أوغل جميعها في الحرب الأهلية، وبث الفرقة بين السنة والشيعة، حتى تحول العراق إلى (كانتونات) مسلحة ممتنعة على العيش المشترك، ولتصل حصيلة القتلى، حتى الآن، إلى ما يزيد عن المليون ونصف المليون، منهم الأطفال والنساء وكبار السن.

كذلك حضرت إيران في سوريا بقوة في المشهد منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة، وأكدت وقوفها مع النظام بحجة الحفاظ على محور “الممانعة والمقاومة” للمشروع الصهيوني في المنطقة، وأخذ قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في إيران، بالتنقل بين سوريا والعراق كما يشاء، يدير الحرب هنا ويديرها هناك.

في اليمن، ما كان للحوثيين المدعومين من إيران أن يستولوا على صنعاء وأغلب مناطق اليمن لولا انقلاب الرئيس السابق علي عبد الله صالح على المبادرة الخليجية وتحالفه معهم، كما لم تسلم الكويت من سياسات إيران، ولا البحرين بالطبع. ولا الأحواز العربية التي احتلتها إيران بتواطؤ بريطاني في 25 نيسان/ أبريل 1922، وتم طمس هويتها.

لم تكن تأثيرات السياسة الإيرانية بأدنى من ذلك على الساحة المصرية، حيث قدّم الإيرانيون النصائح لمصر أيام الرئيس السابق، محمد مرسي، لتطبيق النموذج الإيراني في ولاية الفقيه، ولفتح باب السياحة الدينية لبعض المقامات في مصر، بغية تسجيل اختراق ثقافي أيديولوجي، وصولًا إلى استقطابها وإلحاقها سياسيًا واقتصاديًا بالمركز المتمثل بالولي الفقيه.

ومن الجدير بالملاحظة ذلك الأثر الكبير الذي تركته عملية توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، وما تبعه من إفراج عن أرصدة وأموال إيرانية مُجمدة، على إطلاق يد السياسة الإيرانية في المنطقة، وانعكاسات ذلك وتداعياته على المنطقة العربية عموماً، وفي سياق هذه التداعيات، يمكن تحديد ما يلي:

1 – حالة تضخم النفوذ الإيراني في اليمن: فقد سعت إيران منذ انطلاق ثورة الشعب اليمني في 11 نيسان/ أبريل 2011 إلى استغلال مسألة عدم الاستقرار السياسي في صنعاء لتوسيع نفوذها، بعد أن توضح هذا النفوذ في بغداد ودمشق ولبنان.

2 – أثر ذلك على أمن الخليج: مع نمو النفوذ الإيراني، نرى الأهمية الاستراتيجية لليمن بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي حيث يمثل عمقًا استراتيجيًا للجزيرة والخليج.

3 – تأثّر أمن الخليج العربي: خاصة وأن لليمن أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي حيث يمثل عمقًا استراتيجيًا وأمنياً لها.

4 – تصاعد حالة الإرهاب القاعدي: وقد توضح ذلك من خلال ردود الفعل على نمو حركة الحوثيين في اليمن، حيث تصاعد هذا الإرهاب بشكل غير مسبوق.

الدولة اليمنية ومستقبلها السياسي:

يمكن تصوّر عدة سيناريوهات تتعلق بمستقبل اليمن، أهمها اثنان:

1 – سيناريو يحوم حول التقسيم: وهو السيناريو الذي يمكن أن يلجأ إليه الحوثيون وإيران في حال فشل تحالفهم مع علي عبد الله صالح في السيطرة على اليمن والتحكم في مستقبله، ولا يبدو أن لهذا السيناريو حظوظًا في ظل استمرار عاصفة الحزم وتنامي قوة المقاومة اليمنية، لكنه السيناريو الذي قد يتقدم بقوة في ظل عدم القدرة على التوصل إلى حلول ترضي الجميع، وفي ظل عبث الإيرانيين بورقة المفاوضات في الكويت وصولًا إلى الدولة الفاشلة.

2 – سيناريو يقترب من الصوملة: وهو سيناريو يعتمد على إنتاج حالة من عدم الاستقرار، أو حالة من الفوضى العارمة التي يمكن أن تقود إلى حرب أهلية مغلّفة بصراع طائفي لن ينتهي قريبًا.

مفاوضات الكويت والطريق المسدود:

بعد عملية (عاصفة الحزم) التي انطلقت في 25 آذار/ مارس 2015، وما أدت إليه بعد تحولها إلى (استعادة الأمل)، وصدور القرار 2216 عن مجلس الأمن بشأن اليمن، ومن ثم المفاوضات التي انطلقت في الكويت في 21 نيسان/ أبريل 2016، واستمرت لأشهر دون الوصول إلى أي اتفاق، ولأن أهداف عاصفة الحزم كانت ومنذ البداية العودة إلى المسار السياسي بين الأطراف اليمنية، وعودة الشرعية إلى السلطة، وللرد على التدخل الإيراني في الشأن العربي الذي يحاول محاصرة المنطقة عبر اليمن كأحد المداخل؛ دأبت الدول العربية المُشاركة في التحالف العربي على تأكيد أهمية الخوض في المفاوضات وصولًا إلى حلّ سياسي، بعد أن تم تدمير معظم الأسلحة الثقيلة والصواريخ البالستية.

إلا أن التدخلات الإيرانية، ومعها حزب الله اللبناني، في المفاوضات، حالت دون الوصول إلى اتفاق سياسي حتى الآن، خاصةً مع إصرار الحوثيون، وبدعم إيراني، على الحصول على ما يشبه الثلث المعطل، في محاولة لاستنساخ تجربة حزب الله في لبنان، وأشارت تصريحات المبعوث الأممي، إسماعيل ولد الشيخ، إلى وجود فجوة كبيرة في المباحثات التي ركزت على انسحاب الميليشيات والمجموعات المسلحة، وتسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة للدولة، والاتفاق على إجراءات أمنية مؤقتة، وإعادة مؤسسات الدولة، واستئناف حوار سياسي جامع، وإنشاء لجنة خاصة للمعتقلين والسجناء. وهذه البنود الخمسة لم يقبل بها الحوثيون المدعومون إيرانيًا، مطالبين – في مواجهتها – بضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية لإدارة المرحلة الانتقالية.

يشير الواقع السياسي اليمني إلى أن السلطة الشرعية لن تقبل، بأي حال من الأحوال، أن يمتلك أي طرف سياسي يمني ورقة ضغط وابتزاز تشبه (الثلث المعطل)، كما لن تقبل أي حلول سياسية لا تنزع السلاح الثقيل، ولن يُكرر اليمنيون، ولا جيرانهم المؤثرون في المعادلة السياسية، تجربة اتفاق الطائف اللبناني الذي استثنى أطرافًا محددة من نزع السلاح الثقيل لظروف خاصة.

ما يمكن تأكيده أن التجربة اليمنية في تغيير السلطات، التي بنيت على إزاحة غير ناجزة لعلي عبد الله صالح، الرئيس الذي خُلع جزئيًا، ولم يتم تقليم أظافره الأمنية والعسكرية، هي تجربة تستحق الدراسة والاستفادة منها، خاصة بالنسبة للسوريين الذين عليهم عدم القبول بإزاحة غير ناجزة لبشار الأسد، ذلك أن مثل هذا الأمر سيؤول إلى حالة أشد سوءًا من الحالة اليمنية التي نراها الآن.

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

التعليقات مغلقة.