الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

استدعاء فرانز فانون

نور الدين ثنيو *

الحرب الظالمة التي تتعرض لها غزة حالة تقتضي استحضار المثقف والمناضل فرانز فانون (1925-1961)، لأنه الخبير بالأوضاع الصعبة التي يصنعها المستعمِرُ الغاشم، ولأنه المطَّلع على آلام المعانين المستضعفين المغدورين في حقوقهم ومقومات حياتهم العادية. فما يجري في قطاع غزة من دمار وخراب مدلهم، من نوع الأمراض الخطيرة، التي تحبس الأنفاس وتدفع إلى الخروج من المآزق والبحث عن الانفراج.

تَنَقَّل فانون بين عدّة حالات نفسية وروحية وعقلية، وتَمَثَّل وضعية المستعمِر والمستعمَر في آن معا، كما كافح في صفوف المقاومة الفرنسية ضد النظام النازي، بعد نداء الجنرال ديغول في يونيو/ حزيران 1940، ثم ما لبث أن تحوّل إلى مناضل جزائري ضد الاستعمار الفرنسي، عندما التحق بالجزائر عام 1953 لمزاولة مهنة المعالج والمحلل النفسي في مصحة جوا نفيل بمدينة البليدة.

الحرب التي شنتها السلطة العِبْرية على الفلسطينيين هي حرب رئيس الوزراء ويمينه المتطرف جدّا، كشخص شاذ واستثنائي، يعاني من عقدة تاريخية وسياسية، لم يعرف كيف ينجو منها، إلا بالحرب ومزيد من الحرب. في فكر وتحليل فرانز فانون، أن المطب الذي آل اليه ومعه نتنياهو هو مرض عضال، لازم الكيان الصهيوني، لأنه منذ نشأته لم يحاول أن يعالج نفسه، أو يعرضها على القانون الدولي للشعوب السوية والسياسة الدولية الحكيمة، على ما هي الدول والأمم التي حققت استقلالها، أو تبنت وتمثلت وتواصلت مع التاريخ المعاصر في كل تجلِّياته ومحَدِّداته.

ذهنية الضم والاستيلاء والاستحواذ والاستغلال والاستيطان كلها حالات مَرَضية، تترسب في جوف وجعبة النظام الاستعماري، لتحمله على مزيد من العنف والإرهاب كأفضل سبيل للفرار من الحساب والعقاب وتحمّل المسؤولية. الاستعمار، كما يرى فانون، يكتم الأنفاس، ويجثم على صدور الشعوب المستضعفة، ولا يترك لها من سبيل، إلا البحث عن التنفيس والانفراج ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى الثورة والعنف والسلاح، على ما حدث في الجزائر زمن الحكم الفرنسي. فقد خبر فرانز فانون الثورة الجزائرية من بداياتها وإرهاصاتها الأولى وتجاوب مع الوضعية الاستعمارية في تعبيراتها المزدوجة من ناحية المستعمِر، كما من ناحية المستعمَر.

فتحليل ومحاولة معالجة ظاهرة الاستعمار لا تقتصر فقط على الكشف عن حالة المستضعفين، وضحايا العنف الاستعماري بقدر ما أن التحليل والمعالجة يجب أن ينصب على «النظام» الاستعماري الذي يعبر عن نفسه بالعنف والطيش والرعونة وحتى الإرهاب اليومي. استدعاء فرانز فانون للحالة الإسرائيلية هو للكشف عن الوضعية الاستعمارية التي وصلت إليها إسرائيل في المنطقة العربية. فالمقاومة الفلسطينية لا تزال تتطلع إلى تحقيق استقلالها السياسي والقانوني الوطني منه والدولي.. لكن النظام العِبْري لا يروم أبدا أن يَمْتَثل إلى شروط الدولة السوية والعادية، بل يظهر ذلك صراحة وبوضوح بيّن في عدم تجاوبه مع قرارات الأمم المتحدة الصادرة عن الجمعية العامة، أو عن مجلس الأمن، كان آخرها قرار مجلس الأمن الصادر يوم 25 مارس/ آذار الماضي، الذي يطالب بوقف الحرب على غزة.. لكن السلطة العِبْرية أعربت عن رفضها واعتبرت كل ذلك تواطؤا من المجموعة الدولية ضدها ومحاولة لتدميرها وتعبيرا صارخا عن معاداة العالم كله للسامية. فالخوف المرَضي من قرارات سياسية ومن تشريعات قانونية، سواء كان ذلك في الداخل أو في الخارج، يكشف من جملة ما يكشف عن مرض وعصاب جماعي ألمّ بالنفسية والعقلية الإسرائيلية، تحتاج إلى طبيب ومحلل نفسي ومعالج عصبي، يدرك الداء في سياقه التاريخي، خاصة لمّا يتعلق باستعمار تَخَلّف عن عصره وبقى هو وحده يعاند ويقاوم الحياة، بدل ما يعيشها كما تعيشها وتحياها الأمم والشعوب والدول كافة، في ظل علاقات دولية تحتكم إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

إن تاريخ إسرائيل هو دائما خروج عن التاريخ، ووجود الإسرائيليين كان دائما في الشتات، وأن هويتهم تكمن في أقلِّيتهم، وما يظهر في حرب إسرائيل على غزة هو تواصل جنوني مع وضع في غير محلِّه يصنعه الجنون، وليس العقل على ما كان يرى فانون «الجنون هو أحد التصرفات التي يتوفر عليها البشر من أجل فقدان حرياتهم».

هكذا، فالحالة المرضية التي وصلت إليها إسرائيل حالة جنون مطلق لا يمكن الشفاء منه، إلا بانخراط الأسوياء، الذين لا يزالون يمتلكون نصيبا من العقل من أجل اقتياد القيادة الإسرائيلية كلها إلى المصحات العقلية والنفسية والعُصَابية، لأن معرفة داء الاستعْمار هو بالكشف ليس عن المريض لأنه مريض، بل بالكشف عن الممرض الذي تعرض للآثار السلبية التدميرية، واستقرت في لا وعيه وهو لا يدري ذلك إلا مَنْ توفر على نصيب من الوعي النضالي والثقافة الراشدة.

فعندما تتزمت القيادة الصهيونية في تصلّفِها وعنْجَهيتها، فهي تؤخر إمكانية التسوية والشفاء والانفراج، لأنها لم تعد تدرك أن المقاومة الفلسطينية هي حركة تصفية استعمار، التي تكون دائما، كما كتب فانون «ظاهرة شاقة وعنيفة». فعنف المقاومة دائما شرعي ومبرر ومعقول في كل دلالاته ومعانيه، وفي الوقت والسياق ذاته لا يمكن أن يعتبر عنف الاستعمار عنفا مقبولا، لأنه ينتج الإرهاب والظلم والأمراض بشكل يومي يحتاج إلى مقاومة جماعية قوية من أجل التخلص منه، كما تخلصت منه الجزائر عبر ثورة مسلحة عنيفة، الْتَمَست وتوَسَّلت طريق تصفية الاستعمار الشاق والمؤلم للطرفين معاً، صاحب الفعل وصاحب رد الفعل.

إن استدعاء فرانز فانون للكشف عن المرض الخطير، الذي ألمّ بالسلطة العِبْرية هو استدعاء لخبير في شؤون الاستعمار وأعراضه النفسية والعقلية ومظاهره العيانية والجانبية ومضاعفاته الآنية والمستقبلية، كما فعل في الحالة الجزائرية. وقد لا تتطلب التجربة إسقاطا مباشرا بين ما حدث بالأمس في المستعمرة الجزائرية، وما يرتكبه الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين، لأن الكيان الصهيوني يعاني غربة واستلابا له ولليهود في المنطقة العربية، كما أنه يعاني من خيبة رهيبة في تمثيل الوكالة الأمريكية والغربية كاستمرار الوضع الاستعماري في سياق لاحق عليه ومنافٍ له تماما. ومن هنا، المأزق والفخ الدَّاهم الذي انزلق إليه نتنياهو وعصابته المعادية للفلسطينيين واليهود على السّواء، ما دام الأمر قد وصل إلى حافة الانتحار. مجمل القول إن العُقدة التي تقتضي التنفيس عنها وانفراجها هي أن ضحية الأمس، صار أكثر من جلاد يكشف يوميا عن مخزون رهيب ومفزع من الرغبة الشديدة في القتل والتدمير وترويع البشر وتشريدهم خوفا من الحرية، بعد ما بيّنت المقاومة الفلسطينية أن الصهيونية والحرية ضدّان لا يجتمعان أبدا، ولا يقوم الواحد منهما حيال الآخر.. وتلك هي لحظة الانتحار التي ولجها نتنياهو وهو يصِرُّ في تحدٍ للعالم كله، على خوض الحرب في غزة من أجل تحقيق انتصار خائب، سوف يكشف عن ظلم فادح يحتاج بدوره إلى عنف أشد وأقوى.

وفي التحليل النهائي والمطاف الأخير، أن الوصفة الطبية والسياسية التي يمكن أن يقدمها فرانز فانون للحالة الإسرائيلية، أن ما ألمَّ بها يعود في جزء كبير منه إلى أنها جاءت إلى دنيا الدول ليس عبر حركة مقاومة وطنية، وإنما ادَّعت ذلك زيفا وبهتانا لتبرر شرعية ميلادها، وفق ما تفرضه هيئة الأمم المتحدة. فقد كان ادِّعاء المقاومة الوطنية أسطورة أخرى من الأساطير التي توكأت عليها إسرائيل عند التأسيس.

* كاتب جزائري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.