الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

انتهاك الجغرافيا السياسية وتشتيت مشروع تحرير الأقصى

لطفي العبيدي *

أمريكا لا يُرجى منها شيء في أي حل سياسي أو مفاوضات تكون هي طرفا فيها، فمثل هذا التفرد الأمريكي بالشرق الأوسط لا يُمكن أن يُنتظر منه وضع نهاية للصراع العربي الإسرائيلي. إسرائيل قوت من قبضتها على الفلسطينيين، بدعم من واشنطن، فبعد أعمالها القذرة في الخليج، وكل ما سببته من قتل وتدمير وانتهاك لحقوق الإنسان في ظل حصار الشعب العراقي، ثم أثناء الغزو، ليس في ميزان حسابات الولايات المتحدة تحقيق السلام في الشرق الأوسط على الإطلاق، وهي في تناغم مع بعض الدول العربية. وهؤلاء في غنى عن الهم العربي، الفلسطيني منه وغير الفلسطيني، ما دام السكوت عن استبدادهم وعدم مطالبتهم بالديمقراطية أمرا سائرا يخدم حماية عروشهم، وتلك رغبة واشنطن الدائمة في ترتيب مسرح الشرق الأوسط وفق رغباتها.

يشاهد العالم إسرائيل المُثقلة بهم جرائم الماضي والحاضر، تندفع بقوة نحو عنف متواصل، ترى أنه كفيل بالقضاء على الطموح الفلسطيني في الاستقلال وتحقيق السلام، وعلى الرغم من المتغيرات المتسارعة في النظام الدولي مع تنافس القوى الكبرى، وبداية تغير المشهد السياسي العالمي نحو تعدد الأقطاب، والضغط الذي يسعى لإخراج الأمم المتحدة من كونها مجرد هيئة تابعة لواشنطن، لمدة عقود متتالية، ما من مبادرة عملية للسلام الدائم من شأنها تمكين الفلسطينيين من دولة مستقلة، فقط نرى الهم الأمريكي الأكبر احتواء الحضور الروسي، ومجابهة تنافس غير معهود مع القوى الدولية الصاعدة. أما العرب فلا وجود لهم خارج منطق الاستسلام والمغالطة والتبرير، وإفلاس منظومة الحكم السياسي في أغلب دول المنطقة، انتهى بهم إلى إخفاق ذريع في بناء المشروع الوطني الديمقراطي ورديفه المشروع القومي العربي، بما يعنيه من استراتيجيات مشتركة.

المقاومة ردة فعل ضد الاحتلال واغتصاب الأراضي والاستيطان، وهي نتيجة حتمية لكل ذلك، ونتساءل هل يدرك بايدن أن الشعب الأمريكي ناضل من أجل استقلال بلاده، ولم يرض بالاستعمار الاستيطاني، إلى الآن يتم تجاهل الحقائق و

تنظر أمريكا لإسرائيل على أنها «متفانية» في خدمة «القيم الأخلاقية العليا» و«طهارة السلاح» أو «القوة العادلة» في مقابل التطرف الفلسطيني الذي يجري تصويره في سياق الإرهاب والبربرية. هل ما زال بإمكان الإعلام بجميع أشكاله في الداخل الأمريكي أن يحرص كما اعتاد على جعل صورة فلسطين صورة مختزلة إلى حد كبير، وبلا ملامح، في المقابل يتم اظهار إسرائيل كبلد محاصر بالأعداء من كل الجوانب، وضحية تثير التعاطف يعاديها العرب لأنهم معادون للسامية؟ من العيب بعد هذه الحرب الهمجية وتكشف الأقنعة، أن يواصلوا تطبيع لغة الكراهية والعدائية عند صناعة الآخر في الداخل والخارج، فذلك يشكل مخاطر جمة بسبب الجمع بين الغوغائية والقومية الاقتصادية لدى الحكام الغربيين مثلما كان الحال مع دونالد ترامب. ما يقارب أربعة عقود استخدمت الولايات المتحدة الفيتو بشكل مستمر لعرقلة تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، وغيبت حقوق الإنسان وعطلت بذلك مسارات مختلفة للشرعية الدولية، كان يمكن أن تنهي النزاعات لولا رغبة واشنطن في استمرار إدارة الأزمة بانحياز تام للمحتل الإسرائيلي، والبحث عن مصالحها في الشرق الأوسط، التي دونها كرامة الآخرين وحقهم في وطن مستقل. وهذا الاستخفاف بجهود الأمم المتحدة وبهياكلها التنفيذية يتناغم مع مشروع أمريكا الجيوسياسي ضمن النظام العالمي الجديد، ولكن مع ذلك، الحق الفلسطيني يرفض أصحابه أن يُسلب منهم، وهذا حق جرى التنصيص عليه في مواثيق الأمم المتحدة، ضمن الإقرار بحق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها، والنضال من أجل تحرير أرضها ووطنها، ومن ازدواجية المعايير والعمى السياسي وصف حركات المقاومة بالإرهابية، وهي التي تدافع عن كرامة شعبها ومقدسات أمتها.

إسرائيل حقا أضعف مما يعتقد، وأوهن من بيت العنكبوت فعلا، وهي بما هي عليه الآن إنما خدمتها حالة العرب وضعفهم وانقسامهم وتشتتهم وتشرذمهم ، لذلك نرى القزم الإسرائيلي يعلو صوته اليوم ويتضاعف صراخه، خاصة زمن التبشير بالتطبيع، ومحاولات تصفية القضية نهائيا عبر صفقة القرن، التي رعتها الولايات المتحدة الأمريكية. الغريب أن ما حدث ويحدث من حروب متتالية ارتكبت فيها إسرائيل جرائم حرب وإبادة ضد المدنيين الفلسطينيين، لم يثر الرأي العام في العواصم المتحضرة والمتنورة المؤثرة في السياسة الدولية، والتي تتبنى الرواية الإسرائيلية، واعتادت أن تتحكم في الداخل من خلال أجندة إعلامية موجهة. بالتأكيد رأوا في هذا الكيان منذ نشأته متراسا ضد الاختراق السوفييتي، وحِصْنا للنظام الإقليمي، وكان هدفهم المُلِح هو أن يسبقوا الاتحاد السوفييتي وأعوانه في ملء الفراغ في العالم الثالث بعد رحيل الاستعمار. في كل هذه المراحل، لم تتمكن الحكومات العربية مع الأسف من مواجهة ضعف بنيتها المؤسسية، ومغالبة الحصار الإقليمي والدولي، بعدما اندفعت نحو النزاعات العربية البينية. نُظم تبتعد أكثر فأكثر عن شعوبها، ولا وشائج تقربها من وجدان الجمهور العربي الذي يعتبر فلسطين قضية مركزية يهتز لها الكيان، ومن المستحيل أن يتخلى عنها مهما حاولت بعض الأنظمة مغالطة الرأي العام، والتبشير بالتطبيع والأسرلة. إسرائيل في تقدير جمال عمرو، «لا تعد نفسها احتلالا بل إحلالا»، وذلك يعني السيطرة على الأرض والسكان والمقدرات. لهذا تقتلع الوجود الفلسطيني من كل أنحاء فلسطين، وتبقيهم في المهجر، وتحافظ على نسبة ضئيلة داخل القدس وفلسطين. إسرائيل تريد ’دولة يهودية قومية بوجود أقلية عربية لا وزن لها. وهي تركز على القدس بالذات بمشاريع تهويدية، لأن الفلسطينيين فيها يشكلون 40% من عدد السكان بشطريها الشرقي والغربي، لذلك يحارب الاحتلال هذا العدد والكثافة السكانية والبعد الديمغرافي، عبر مزيد من تهويد الجزء الشرقي للمدينة. والصمت الدولي أمام هذه الانتهاكات التي تجرمها القوانين الدولية يشجع إسرائيل على التوغل أكثر في الأراضي المحتلة، وهي متعودة على الإفلات من العقاب، بما يجعلها تتمادى في طرد المقدسيين وهدم بيوت الفلسطينيين وتشريدهم من قراهم.

تبقى كل أشكال المقاومة مشروعة بالنسبة لشعب يعاني أبشع أنواع الاحتلال والتصعيد اليومي،  والنضال الدولي ضد الاضطهاد ونظام الفصل العنصري هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة، السؤال: متى ستضمن إسرائيل بقاءها بالوسائل العسكرية، وهي البعيدة عن داعميها آلاف الأميال. تتجاهل فرص السلام وتعتبر نفسها الأقوى، وتُمارس سياسة التمييز العنصري بكل الطرق المتاحة وترفض معاملة الفلسطينيين كشعب، مُثقلة بهم جرائم الماضي والحاضر، وتندفع بقوة نحو عنف متواصل ترغب فيه وترى أنه كفيل بالقضاء على الطموح الفلسطيني في الاستقلال وتحقيق السلام؟

* كاتب تونسي

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.