الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«7 أكتوبر» ضُربت العقيدة العسكرية الإسرائيلية

محمد المنشاوي *

لا يعرف أحد على وجه اليقين حسابات حركة حماس التي دفعت بها إلى قيامها بهجمات 7 أكتوبر والتي نتج عنها مقتل ما يقرب من 1200 إسرائيلي وإسرائيلية، وأخذ ما يزيد على 250 آخرين كأسرى ورهائن، لكن المؤكد أن إسرائيل ما بعد 7 أكتوبر لن تُصبح إسرائيل كما كانت قبل 7 أكتوبر، حيث أفشلت هذه الهجمات الحمساوية أسساً تبنتها إسرائيل، وقامت عليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية، على الأقل منذ انتصارها الكاسح على جيوش عدة دول عربية في حرب 1967.

بدايةً، منحت نتائج حرب 67 إسرائيل شعوراً بالأمن لم تعرفه منذ تأسيسها عام 1948، ومنحت الأراضي الفلسطينية والسورية والمصرية والأردنية التي احتلتها القوات الإسرائيلية مناطق عازلة، تبعد حدودها وخطوط التقسيم التي حددتها الأمم المتحدة عن المخاطر المباشرة من تهديدات الجيوش المجاورة. ومن ثم، أصبحت إسرائيل تتغنى بأن أراضيها مؤمّنة، وأنها تستطيع توفير أمن لليهود لم يعرفوه في أي من المجتمعات والدول التي عاشوا فيها على مدى القرون السابقة.

لكن لم تنزعج إسرائيل بشدة أمام هزيمتها الكبيرة في الأيام الأولى لحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 على يد الجيشين المصري والسوري، وذلك لأنها خسرت أراضي محتلة غير إسرائيلية. ومنحت تطورات- ما بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973- إسرائيل المزيد من الشعور بالأمن خاصة بعد توقيعها معاهدتي سلام مع مصر والأردن، وانهيار الدولة وضعف الجيش في كلٍ من سوريا ولبنان.

                                                  *         *         *

خلال السنوات الأخيرة، تبلورتْ عقيدة إسرائيل العسكرية لتُشكل ثلاثة محاور أساسية اعتبرتها كافية لضمان تفوقها الكاسح على جيرانها العرب، وبما لا يشكل أي تهديد مستقبلي لها ولحدودها ولسيطرتها على ما تحتله من أراضِ.

المحور الأول يقوم على الردع بمفهومه الكامل والذي يُفشل أي تفكير عربي في إمكانية التفكير في شن هجمات عسكرية على إسرائيل، ناهينا عن هزيمتها أو إلحاق خسائر ضخمة بها. وتصورت إسرائيل أن تسليحها بأحدث ما تمتلكه الترسانة الأمريكية والأوروبية، إضافة إلى رادعها النووي، كفيل بتحقيق هذا الهدف.

المحور الثاني يتمثل في تمتعها بآليات متقدمة وحديثة للإنذار المُبكر بحيث تعلم في وقت مُبكر بِنية أو استعداد، أو حتى تفكير، أحد أعدائها للتحرك عسكرياً ضدها. وفي هذا الإطار تباهت تل أبيب باستخدامها أحدث التكنولوجيات المتاحة للتجسس ولتأمين شبكاتها المتطورة والمنتشرة حولها للإنذار المبكر. كذلك تُشير تقارير لتَمتُع إسرائيل بشبكة ضخمة من الجواسيس والعملاء داخل أراضي خصومها، يمدونها بكل المعلومات الممكنة سواء كان ذلك في رام الله أو قطاع غزة أو دمشق وبيروت وطهران.

المحور الثالث تمثل في تبني مفهوم الحرب الخاطفة. ويعني ذلك، إسرائيلياً، أنه إذا كان لا بد من الحرب وخوض القتال، فليكن ذلك بصورة خاطفة وسريعة وحاسمة، لا يتأثر معها الاقتصاد الإسرائيلي المتطور، ولا يتأثر بها نظام ضباط وجنود الاحتياط من المدنيين، ولا يسمح بتشويه صورة إسرائيل عند الرأي العام العالمي إذا استمر القتال لأسابيع أو أشهر طويلة.

                                                  *         *         *

أفشلت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر كل محاور العقيدة العسكرية الإسرائيلية الثلاثة. إذ فشلت إسرائيل في ردع حركة حماس عن التفكير في شن عملية ضخمة بهذه الصورة نتج عنها أكبر خسارة عددية لليهود في أي من المعارك التي خاضتها في يوم واحد منذ نشأة الدولة الإسرائيلية، ولا يتفوق عليها في التاريخ إلا ممارسات الهولوكوست إبان الحرب العالمية الثانية. كما فشلت إسرائيل في تفعيل نُظمها للإنذار المبكر، ونجحت حركة حماس في القيام بهجماتها بهذا الشكل رغم أجهزة إسرائيل المتقدمة تكنولوجياً أو جواسيس إسرائيل على الأرض داخل قطاع غزة. وأخيراً، نجحت حركة حماس وأهل قطاع غزة في إطالة أمد العدوان الإسرائيلي حتى الآن لنصف العام، ولم تستطع إسرائيل حسم عدوانها عسكرياً بصورة خاطفة سريعة كما كانت تأمل في حروبها المستقبلية. ولعل من أهم ما أفشلته هجمات 7 أكتوبر الادعاء الإسرائيلي أن دولة الوطن القومي لليهود تُوفر أمناً استثنائياً ليهود العالم لم يعرفوه من قبل.

نجحت هجمات 7 أكتوبر في هز ثوابت العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما دفع العديد من المحللين الأمريكيين والإسرائيليين للإقرار بهزيمة إسرائيل بالفعل على الرغم من اقتراب سيطرتها العسكرية شبه الكاملة على قطاع غزة، وعلى الرغم من سقوط أكثر من 33 ألف شهيد وشهيدة وإصابة عشرات الآلاف الآخرين، وتشرد ونزوح مليونين من سكانها، وتدمير كل مظاهر الحياة بها.

                                                  *         *         *

شخصياً، أعتبر أن ما قامت به حركة حماس ما هو إلا تفجير نفسها في قوة الاحتلال، آخذة في حسبانها تدمير ثوابت العقيدة العسكرية الإسرائيلية بأي ثمن حتى وإن كان القضاء عليها كمنظمة مقاومة مسلحة. ما نشهده الآن من ارتفاع شعبية حركة حماس بين صفوف الشعب الفلسطيني، وبين جموع الشعوب العربية الإسلامية، قد لا يوفر حلولاً سريعة لمعاناة أهل قطاع غزة، ولن يُعوضهم عن خسائرهم الضخمة المباشرة وغير المباشرة، إلا أن ما قامت به حماس قد ألحق هزيمة بالفعل للمجتمع الإسرائيلي الذي تسيّد فيه أنصار التيارات اليمينية المتطرفة منظومة الحكم، وهو ما تسبب في خلافات داخلية وانقسامات لم تعرفها إسرائيل من قبل، بما لذلك من تبعات اقتصادية وسكانية وعسكرية سلبية.

ما تقوم به إسرائيل منذ 8 أكتوبر ما هو إلا محاولة لن يكتب لها النجاح لإعادة المصداقية لثوابت العقيدة القتالية الإسرائيلية. تسعى الحكومة الإسرائيلية لطمأنة الشعب الإسرائيلي بأنهم في مأمن داخل دولة إسرائيل. كما تسعى لدفع الشعوب والجيوش العربية إلى إعادة الاعتقاد بأن إسرائيل هي القوة التي لا تقهر، وأنه لا يوجد خيار عسكري ضدها، بعدما أثبتت 7 أكتوبر أنها قد لا تكون قوية كما كنا نعتقد.

تحاول إسرائيل اليوم، وبكل قوة، استعادة قدرتها على الردع كي يستمر العالم العربي في الخوف منها حتى لو كان ذلك عن طريق اقترافها إبادة جماعية ستكلفها الكثير اليوم وغداً.

* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.