الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أمركة إسرائيل والإبادة السياسية

غسان المفلح *

في مقال سابق على هذا المنبر بعنوان “الأمركة والشرق الأوسط” كنت استثنيت الحديث عن تلك العلاقة المعقدة بين أمريكا وإسرائيل حيث أن الأمركة في الشرق الأوسط تطال كل البنى السياسية بما فيها إسرائيل.

قبل أن ندخل في صلب هذه العلاقة أردت التوقف مرة أخرى عند الذين نقدوا المقال السابق، بحجة أن أمريكا تسعى إلى دمقرطة بلدان المنطقة وعلمنتها، لكن الخلل في هذه المسيرة “المظفرة” سببه نحن سكان الشرق الأوسط المنكوبين بإسرائيل والنفط والموقع السياسي للجغرافيا اللعينة. سكان المنطقة ونخبهم هم السبب في تعطيل برنامج أمريكا الديمقراطي للمنطقة!

شر لا بد منه:

الأمركة، باختصار شديد وواضح، هي “ما تعيشه شعوب هذه المنطقة أمريكيا. دول فاشلة وديكتاتوريات قاتلة ونهابة. أمريكا أولا لا تمثل شعوب الغرب، بقدر ما تمثل سياسات الغرب ومصالحه. هنالك فارق بالطبع بين المستويين لأن مصالح الشعوب متعددة وليست واحدة، حتى داخل كل شعب ودولة طبعا. انبنت الأمركة على علاقة واحدة تتحكم ببقية التفاعلات التي تجري في هذه المنطقة. هذه العلاقة تتمحور بين طرف مسيطر ومهمين بوصفه أمريكا وبين نظم ديكتاتورية لدول فاشلة. نظم جل همها الحفاظ على سلطتها من خلال السيادة الأمريكية على المنطقة. السيادة لا تعني أبدا سيطرة على كل تفاصيل الحياة في الشرق الأوسط، بل تعني فيما تعنيه بالضبط ما نعيشه كشعوب جراء تحكم هذه العلاقة بنا.

عندما يقوم نظام ما في الشرق الأوسط بمجازر بحق شعبه، أمريكا لا تعنيها القصة إلا بمقدار سوق النفط وإسرائيل والموقع السيادي لأمريكا. أما أعداد القتلى والمدن المدمرة فهي ضرر جانبي لهذه الأمركة، إنه العيش في ظل الأمركة.

لو قمنا بجردة حساب على دول المنطقة لوجدنا حروبا أهلية وثورات احتلت كالثورة السورية، ثم العراق، لبنان، ليبيا، اليمن، والسودان وقضية القضايا الشعب الفلسطيني. إنه العيش الرغيد في ظل أمركة لا ترحم. الأمركة شر لابد منه. بعد أن استولت أمريكا على المشهد الإسرائيلي ومفاعيله في المنطقة وازاحت نسبيا بريطانيا وفرنسا من قيادة هذا المشهد، وجدنا أننا أمام علاقة محورية لأمريكا مع إسرائيل. في حرب إسرائيل على غزة الجارية الآن، أمريكا تحمل على عاتقها كل ما يجعل إسرائيل بعيدة عن أي مساءلة. منذ توقيع اتفاق أوسلو 13 أيلول/ سبتمبر 1993. منذ ذلك التاريخ والأمركة مبنية إسرائيليا على الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية. مما جعل بعض المهتمين يطرحون سؤالا: ألا تستطيع أمريكا فرض حل الدولتين على إسرائيل؟ ثلاثة عقود وإسرائيل تبتعد عن البحث، مجرد البحث في حل الدولتين. الآن في الحرب على غزة عشرات آلاف الضحايا من المدنيين وتدمير أحياء وقرى ومدن في قطاع غزة وأمريكا مشغولة بتحييد أذرع إيران. والأخطر من ذلك تحييد الضفة الغربية وسلطتها عما يجري في هذه الحرب وكأن ما يجري في غزة يجري في بلد آخر بالنسبة لأهالي الضفة الغربية. أليس هذا جزء من الإبادة السياسية؟ كأن أهل غزة ليسوا فلسطينيين، أو العكس كأن أهل الضفة ليسوا كذلك. هذا الجزء هو مقطع عرضي في الأمركة الإسرائيلية للمشهد الفلسطيني.

ثمة أمر آخر أليس سؤالاً لقيادة حماس: لماذا لم يشارك أهل الضفة في المعركة الطاحنة الآن؟ يوجد عنوان عام للأمركة الحالية “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. من المعلوم حتى اللحظة ومن أعداد القتلى والتدمير أن إسرائيل هي التي تهاجم.

دعم أمريكي بلا حدود:

إسرائيل تهاجم وتقتل في أهل غزة وأمريكا تحشد لاستمرار القتل ومنع انبثاق أي حل سياسي في الأفق. هذه هي بالضبط إسرائيل الأمريكية. من جهة أخرى استطاعت أمريكا منذ بدء الحرب أن تحشد غالبية دول أوروبا الغربية وبعض الدول العربية من أجل حق إسرائيل في قتل الغزاويين بحيث نجد أن إسرائيل باتت ظاهرة في السياسة الامريكية العاملة على استمرار الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية. من الاسئلة التي تشغل الكثيرين هي: لماذا هذا الموقف الأمريكي الداعم بلا حدود؟ وما الذي تستفيده أمريكا من هذه العلاقة؟ اجتهادات كثيرة نراها منتشرة في الإجابة عن هذين السؤالين، وأبحاث شتى عن هذه العلاقة تبدأ من القول: إن إسرائيل أداة متقدمة للإمبريالية الامريكية في الشرق الأوسط، ولا تنتهي عند ربط هذه العلاقة بالتقليد البروتستانتي- اليهودي. مرورا بالأيباك ولحظة تأسيسه في أمريكا كأكبر لوبي في العالم لدعم الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية أمريكيا. اجتهادات كثيرة في هذا المضمار.

كما أن الأمر بعد مرور ثلاثة عقود ونيف على سقوط السوفييت، وغياب ما كان يسمى الخطر السوفييتي على مصادر الطاقة والسيطرة في الشرق الأوسط، كل هذا يجعلني أزعم أننا لو أضفنا التوليفة الإيرانية من جهة والاشتباك التفاوضي الأمريكي الإيراني من جهة أخرى، والذي تقع إسرائيل في القلب منه، نجد أن هنالك رغم كل هذا الدعم اللامحدود لإسرائيل أمريكيا، أنه ثمة محاولة أمريكية باتت واضحة تتجلى في نقطتين: الأولى اندراج إسرائيل في اللوحة الأمريكية للشرق الأوسط، بوصفها جزءا من أمركة إسرائيل من جهة، وبوصفها نقطة توازن ما ضمن هذا الاشتباك التفاوضي الإيراني الأمريكي، لرسم بقاء دول المنطقة برمتها مُأمركة من جهة أخرى، مع الاستمرار في الإبادة السياسية للقضية الفلسطينية، حتى لو اقتضى الأمر بين الحين والآخر إبادة فعلية لهذا القسم أو ذاك من الشعب الفلسطيني، هذا ما يحدث في غزة.

في الختام أمريكا لم تعد ترى في إسرائيل موقعاً متقدماً ولا خلاف ذلك، والسبب الأهم في هذا هو حضور أمريكا بالأصالة عن نفسها في كل دول المنطقة. نحن أمام نتيجة لثلاثة عقود ونيّف من ربح أمريكا للحرب الباردة وتأثير ذلك على العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. دون هذه اللفتة الآن لا يمكننا فهم ما يجري أيضاً خاصة أن أمريكا لا تمارس أي ضغط من أجل قيام حل الدولتين الذي تتغنى به في أعلامها ليل نهار.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.