الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عرب الداخل… لو أردنا وعملنا لنجونا

جواد بولس *

قررت إدارة «الجامعة العبرية» في القدس تعليق عمل البروفيسورة نادرة شلهوب كيفوركيان في فرعيّ علوم الجريمة والعمل الاجتماعي في الجامعة، بسبب تصريحات كانت قد أطلقتها مؤخرا، شكّكت فيها بالادعاءات الإسرائيلية حول قتل الأطفال واغتصاب النساء، خلال الهجمة التي نفذتها عناصر حماس في السابع من أكتوبر المنصرم، وبسبب تصريحات أخرى قالت فيها إن «الصهيونية حركة إجرامية ويجب محوها وإلغاؤها».

لقد وقع في شهر تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم صدام سابق بين إدارة الجامعة العبرية والمحاضرة شلهوب، في أعقاب توقيعها مع آخرين على عريضة أدانت العدوان الإسرائيلي على غزة واتهمت إسرائيل بتنفيذ جرائم حرب وإبادة جماعية ضد الفلسطينيين.

لم تُقدم إدارة الجامعة في أكتوبر المنصرم على تعليق عمل المحاضرة شلهوب، بل اكتفى رئيس الجامعة وعميدها بتوجيه رسالة تحذير شديدة اللهجة إليها، تضمنت نصيحتهما لها بأن تترك عملها في الجامعة. كانت الرسالة قاسية وهجومية وبأسلوب لا يليق بعلاقة محاضرة وإدارة جامعة تعمّدت أن تكتب: «نحن نأسف ونخجل بأن تحتضن الجامعة العبرية داخلها عضو هيئة تدريسية مثلك. على ضوء مشاعرك، نحن نعتقد أنه من الملائم أن تفكري بترك وظيفتك في الجامعة العبرية في القدس». لقد أثار موقف إدارة الجامعة العبرية في حينه موجة من الاستنكارات المحلية والدولية، لكنه ووجه أيضا بانتقادات شديدة من قبل جهات يمينية اتهمت الإدارة بالضعف وبالهزيمة.

لم يكن قرار إدارة الجامعة العبرية بتعليق عمل المحاضرة نادرة شلهوب هو الأول من نوعه على مستوى الدولة؛ فمنذ سنوات تنشط في إسرائيل عدة جمعيات يمينية متخصصة بملاحقة المواطنين والجمعيات والمنظمات، العربية بالأساس واليهودية المعارضة لسياسات تلك الجمعيات اليمينية المتطرفة، ولأهداف الأحزاب الفاشية والعنصرية التي ترعاها وتحتضنها. تقوم تلك الجمعيات العنصرية وميليشيات العسس التابعة لها بتنسيق أنشطتها وتوزيعها، وفقا لميادين عمل متخصصة مختلفة؛ فبعضها يتخصص بملاحقة مواقف وتصريحات المحاضرين، العرب واليهود، في الجامعات، وبعضها يعمل بمراقبة أنشطة الطلاب الجامعيين، وأخرى تلاحق الصحافيين ومواقع التواصل الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني، خاصة تلك الناشطة في الدفاع عن حريات المواطنين، وضد سياسات التفرقة العنصرية. لقد بدأت بعض تلك الجمعيات العسسية أنشطتها منذ أكثر من عقد، وقد أشرنا في حينه لخطورتها وما قد تحققه، في ما إذا غض النظر عن نشاطاتها. تعد جمعية «إم ترتسو»، ومعناها إذا أردتم، من أقدم هذه الجمعيات إذ بدأت نشاطها منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وعملت خلالها بشكل حثيث وممنهج ضد المحاضرين والطلاب والمؤسسات التي كانت تتهمهم بمعاداة الصهيونية، وبدعم مقاطعة إسرائيل وتنشر بحقهم تقاريرها وتطالب مؤسسات الدولة باتخاذ الاجراءات بحقهم ومعاقبتهم؛ وقد سجلت «إنجازات» كبيرة في هذا المضمار. ورغم وضوح أهداف تلك الجمعيات وكونها شاهدا على أخطر إفرازات جنوح المجتمع اليهودي نحو الفاشية، والبرهان على نمو قوة محركاتها وتزويدها بوسائل محكمة وقادرة على ملاحقة كل من يعارض مخططاتها، لم يتخذ المجتمع العربي في إسرائيل إجراءاته الكفيلة بمواجهتها والتصدي لها. مرت السنون فأصبحت تلك الجمعيات والأجسام شبكة خانقة تملك قدرات مالية ضخمة وأجهزة إدارية قوية ومهنية ومؤثرة على معظم مؤسسات الدولة ومراكز القوة الرسمية والخاصة: مثل الوزارات والشركات والمدارس والمستشفيات والجامعات والنيابات العامة والمحاكم، وصارت تقاريرها بمثابة لوائح اتهام قاطعة وملزمة للجهة المعنية المطالبة باتخاذ الإجراءات العقابية بحق من ورد اسمه في أحدها.

لقد اشتدت معالم هذه الظاهرة بعد السابع من أكتوبر المنصرم؛ فنتيجة لهول الصدمة داخل المجتمع اليهودي، ولتفشي الأجواء الفاشية بأشكال وأحجام غير مسبوقة، وتحول ظاهرة استعداء جميع المواطنين العرب داخل إسرائيل، إلى موقف صهيوني شرعي ومبرر وشائع، أصبحت جميع أجهزة الرقابة والعسس، أكبر قوة وأكثر تأثيرا وفعالية؛ فبدأنا نلمس في الأشهر الماضية تنامياً في أعداد ضحاياها، مثل المحاضرة نادرة شلهوب، وقبلها ما جرى مع الدكتورة وردة سعدة التي طردت في أواخر شهر أكتوبر المنصرم  من عملها كمحاضرة في «كلية كي» لتأهيل المعلمين في مدينة بئر السبع، بسبب نشرها بعض البوستات ضد الحرب على غزة. هنالك المئات ممن فقدوا عملهم أو طردوا من جامعاتهم، أو سجنوا وحكموا ولم نسمع عنهم وعن مأساتهم. ومن المتوقع أن تزداد وتيرة وحدّة هذه الملاحقات، خاصة إذا لم تجد تلك القوى الفاشية والعنصرية من يواجهها؛ فسوى بيانات الشجب التي تحررها قيادات الأحزاب والحركات السياسية، ونداءات الغضب وتأثيم بعضنا بعضا، وبعض بيانات التضامن مع الضحايا، لاسيما إذا كانت الضحية شخصية عامة مشهورة وذات مكانة مهنية معروفة، سوى هذه الردود، لا توجد أية محاولة جادة لدراسة وتقييم الظاهرة، ووضع أية مخرجات وبرامج عمل مؤثرة تضمن حماية مجتمعاتنا وتوفر للأفراد حواضن واقية ومشاعر الأمان وتخرجهم من حالة الخوف التي يعيشونها يوميا.

يدور هذه الأيام نقاش على نطاق محدود، بين بعض الأكاديميين والمثقفين العرب، حول صور التضامن الممكن اتخاذها مع المحاضرة نادرة شلهوب. يأتي هذا النقاش ومعظم فئات المجتمع العربي في إسرائيل تعيش في حالة عزوف تام، ولا تتفاعل مع تداعيات الحدث؛ فالصمت سيّد في الشارع وبين النخب الأكاديمية والمثقفة والتكنوقراطية، التي سكتت عما حصل مع ضحايا الأشهر الماضية، وتسكت في حالة المحاضرة نادرة شلهوب كيفوركيان، وستسكت أيضا طالما بقيت النار بعيدة عن أحراجهم.

في الواقع يدفع ضحايا سياسة الملاحقات الفاشية والعنصرية ثمن حالتين عبثيتين منتشرتين داخل مجتمعنا العربي في إسرائيل: الحالة الأولى هي عجز مؤسسات وقيادات مجتمعنا عن تشخيص خطورة الظاهرة منذ نشأتها، وعجزهم بالتالي عن مواجهتها أو العمل على حصر أضرارها. والحالة الثانية هي تبسيط الكثيرين لهذه المسألة، واكتفاؤهم في معظم الحالات بتأثيم الأفراد التابعين لشريحة الضحية وتلويمهم أو توبيخهم أو اتهامهم بالعجز والتواطؤ، ومطالبتهم بالتعبير الفعلي عن تضامنهم مع زميلهم/ زميلتهم وحثهم على التنحي من وظائفهم أو اتخاذهم لخطوات احتجاجية فعلية. وكي لا أكون مجرد منتقد لأي مجتهد أسدى نصيحة، أو قدّم اقتراحا او عبّر عن رأيه، أقر بأنني لا أملك حلا سحريا لهذه القضية الحارقة التي سيشتد وزرها علينا جميعا. لكنني لا اعتقد بأن مطالبة العاملين في الجامعة العبرية، في الحالة الراهنة مثلا وفي غيرها طبعا بالتنحي من وظائفهم الإدارية هو الفعل النضالي المؤثر والصحيح؛ فالبطولات الفردية أو الفئوية، على أهميتها كإبداء موقف تضامني مع الضحية واحتجاجي على معاقبتها ظلما، لن تنقذ ضحايا المستقبل، وارتجالية ردود الفعل ليست سياسة صائبة، وتحميل عبء هذه المأساة على أكتاف من يتوجهون لوظائفهم ليجدوا خبز كفافهم، قد تكون عملية سهلة لكنها، غير منصفة في واقعنا الراهن الذي تستنكف فيه جميع مركبات المجتمع وقياداته عن تحمل مسؤولياتها النضالية ولا تتقدم الصفوف وتدفع الثمن أولا.

نحن إزاء قضية مركبة ومعقدة وخطيرة؛ وعلينا، أولا، أن نعي ونقر بحجمها وبمخاطرها علينا جميعا، ثم علينا أن نسعى مجتهدين لمواجهتها، كل من موقعه ومعا من خلال مؤسساتنا. وإلى ان ننجح بذلك لا يجوز أن نكتفي، وتشديدي على أن نكتفي، بتلويم تلك الفئات التي تعلمت واجتهدت وترقّت وحظيت بوظيفة تستحقها، سواء في مستشفى، أو مصنع، أو جامعة، أو مدرسة، فهؤلاء جميعا هم «أهل معارف» هذا الزمن. وقصة «أهل المعارف» تعلمتها من الراحلة أمي المعلمة سعاد (وضبط تفاصيلها لاحقا مشكورا الاستاذ عصام عراف)، فعندما كنت طالبا في الجامعة العبرية، وكنت أتناقش مع والديّ المعلمين في الشؤون السياسية، كانت أمي تروي لنا حكاية المعلم الشاعر ناصر العيسى، ابن قرية الرامة الجليلية. في ثلاثينيات/ أربعينيات القرن الماضي أطلق المعلم ناصر عيسى لحيته مثل سائر المعلمين في فلسطين، احتجاجا على سياسات الانتداب البريطاني ضد فلسطين. وفي أحد الأيام دخل صفه بعد أن حلق ذقنه، فبدت على وجوه الطلاب الأسئلة وعلامات الأسف. فهم المعلم موقف طلابه فأجابهم بقصيدة قال فيها: «وقفت أمام مرآتي أناجي/ بها وجها كثيف الشعر كاسف، وقلت أيا مليحتي أخبريني/ أأحلق شعر ذقني أم أجازف».  بدأت مرآته تستغرب تردده وتتساءل عن دواعي جبنه وهو الشاعر المقدام صاحب القصائد «الثائرات كالعواصف» فأجابها، وكان ذلك بيت القصيد: «فقلت بلى ولكنني جبان/ وإن الجبن في أهل المعارف».

«أهل المعارف» كانوا المدرسين في المدارس الحكومية أيام الانتداب البريطاني؛ لكنها كانت وبقيت كنية لكل موظف، أو عامل أو طالب رزقه من أي «حكومة انتداب»، إذا لم يجد قيادة ومجتمعا يحمونه ويؤمنون له إلى جانب كرامته الأمن ومعدة مرتاحة ومأوى آمنا.

* كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.