الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الصوم وحرب العولمة

د- عبد الناصر سكرية

منذ عقود أربعة أو خمسة، يَحتفلُ بشهر رمضان جماعات من الناس، مسلمين وغير مسلمين، ممن ليسوا مؤمنين حقاً فلا يصومون ولا يقومون ورغم ذلك فهم به يحتفلون، يحتفلون ولكن على طريقتهم الخاصة، فلماذا إذن وهم لا يصومون ولا يسلكون في هذا الشهر الفضيل مسالك الخير والتضامن والتكافل والخير والعطاء؟؟

لسنا نحتاج لشرح كثير عن معاني شهر الصيام في رمضان، فما من مسلم مؤمن إلا ويدركها عن ظهر قلب أقله نظريا، فيخبرك أنه شهر للخير والعطاء، شهر للتضامن الإنساني والتكافل الاجتماعي، شهر للتعبد وقهر النفس والأنانية تأسيساً لروح الجماعة وسلوك التقوى بما فيه من استعدادٌ للبذل والخير والعطاء، صومٌ عن الملذات والغرائز إنهاضاً للسمو الإنساني بما فيه من إحساس وتعاطف وتضامن مع كل مغلوب ومقهور ومستضعف وفقير.

رمضان شهرٌ للتقشف وتقنين الإنفاق تمهيداً للإسراف في الصدقات والزكاة تأسيساً عملياً صادقاً للتكافل الاجتماعي الذي هو فضيلة أخلاقية عند المؤمنين، مسلمين وغير مسلمين، فضيلة أخلاقية وضرورة إنسانية اجتماعية لمن يتجاوز ذاتيته وأنانيته صعوداً نحو عالمٍ من الرقي والسلوك المتحضر المفعم بالإنسانية الجميلة.

لا يختلف المؤمنون في معرفة فضائل الصوم هذه، فهل هي في الممارسة اليوم كذلك؟؟

بالعودة إلى ما قبل خمسين سنة، كان شهر الصوم تجسيداً لتلك القيم وتعبيراً حقيقياً واقعياً عنها، ويكفي أن يسأل من لم يعش تلك الأيام المباركة فعلا من هم أكبر سناً، فيحدثونه عن بركات شهر الصيام وأخلاقياته الجميلة ومظاهر المودة والتضامن بين الناس والتراحم والتزاحم على البذل والصدقة وفعل الخير، وحينما يسمع شبابُ أيامنا هذه مثل هذا التوصيف عن سلوكيات الناس في تلك الأيام يُصابون بالذهول والاستغراب.

فما الذي حدث وكيف تغيرت الأحوال حتى بتنا نعيش شهر رمضان كاملاً للاستهلاك والتُخمة والفرفشة والتسلية واللعب والبطالة والكسل؟ وهل أصاب المفهوم الإيماني الديني للصوم خلل ما أو عطب في الفهم والشرح والتفسير؟ وهل تغيّر الناس وهم هم ذواتهم فيما تتغير سلوكياتهم وطرائق تعاطيهم مع الشهر الفضيل؟ وكيف أفرغ شهر رمضان من مضمونه الإيجابي فتحول إلى شهر للأكل والفرفشة واللعب والتسلية والاستهلاك؟؟

هل هي مجرد مصادفة أم أنها تمت بفعل فاعل مُتعمد مقصود مدروس؟ لا شك أن كل هذه التغيّرات والتحولات السلبية تمت بتخطيط مُسبق مدروس بعناية فائقة الدقة، من فعلها إذن؟ ولماذا؟ ومن هو المتضرر من رمضان وقيمه ومضامينه الإيجابية؟؟

كثيرةٌ هي الأطراف المتضررة من كل القيم الإيمانية وما فيها من سمو أخلاقي ورفعة إنسانية بعيدة عن النفعية والمادية والاستهلاكية والفردية الأنانية، فمن هي هذه الأطراف إذن؟؟

إن المُتتبع لمسار المتغيرات الحياتية للمجتمعات الإنسانية خلال النصف قرن المنصرم، يدرك جيداً وبوضوح تام لا يخفى على باحث أمين صادق، أن نظام العولمة الرأسمالية هو الذي يقف وراء تلك التحولات ويتسبب بها، وتحديداً على الصعيد السلوكي: الفردي والجماعي .

تنطلق الرأسمالية من بواعث الكسب المادي والربح بأية وسيلة، فهي نظام اقتصادي يُبيح كل أشكال الكسب المشروع وغير المشروع، وأساسها الفكري ليبرالية فردية لا تعترف بالمجتمعات الإنسانية ككيانات متميزة ذوات شخصيات محددة وما لها من خصوصيات اخلاقية واجتماعية، أما أساسها السلوكي فعلمانية لا دينية لا تقيم وزنا للقيم الإيمانية فتحاربها تحت لافتات نبذ التعصب الديني والتمييز الطائفي.

هذه الرأسمالية التي تمتلك من الإمكانيات المادية المباشرة وغير المباشرة ما يفوق الخيال بما يجعل مقدرة أي طرف مخالف لها في المنطلقات والمفاهيم، على مواجهتها وتحجيم دورها مستحيلة أو شبه مستحيلة؛ رأسمالية تمتلك معظم إمكانيات البشر والأمم المادية والعينية وتُسخر معظم إمكانياتهم البشرية الفكرية والثقافية والعملانية، فهي تمتلك إلى المال المرعب في الكم والنوع، كل وسائل التأثير في العقول وزرع الأفكار وتحريض النفوس وشد الانتباه وإثارة القضايا الفرعية وجذب الناس بعيداً عن ميادين الاهتمام بمشكلاتهم الواقعية التي تحتاج كل جهودهم العقلية والعملية لمواجهتها وحلها.

رأسمالية اجتهدت في استنباط أكثر الأساليب خُبثاً ومُكراً للسيطرة على عقول البشر وتوجهاتهم بل وتوجيهها إلى حيث تتحقق مصالحها المادية وتراكم أرباحها دونما مقاومة أو خسائر، رأسمالية تُسيطر اليوم على كل وسائل صناعة الوعي وتوجيه الرأي العام وإثارة الاهتمامات السلبية وتأسيس السلوكيات الانحرافية المؤذية وتعميقها؛ رأسمالية تمتلك وسائل الإعلام والترفيه والفن والإنتاج الثقافي والإعلامي، تمتلك المدارس والمعاهد ومراكز البحث والإحصاء والجامعات وما فيها من برامج تعليمية ونظم مدرسية، تضع برامج التثقيف والتأهيل الفردي والسلوكي في كل مجال وميدان، بدءاً من عمر الطفولة مروراً بالفتوة والشباب وكل الأعمار، تضع ضوابط للسلوك والتوجهات الفكرية والاجتماعية ما يحقق لها غاياتها ويؤسس لمنطلقاتها بما يضمن لها سيطرة تامة على مقدرات البشر وخيرات بلادهم.

هذه الرأسمالية التي انطلقت تغزو كل المجتمعات الإنسانية بما تَسخَر في يديها من وسائل العولمة وتقنياتها وأدواتها الخارقة، بلغ ذكاؤها أن وضعت ذاتها في متناول جميع البشر فاعتادوا عليها حتى أصبحت جزءاً أساسياً متمماً لحياتهم لا يستطيعون الاستغناء عنها ولا يُقدرون التهرب من تأثيراتها الخطيرة، تحمل معها مفاهيمها ومحددات سلوك البشر فيها فتنشُرها وتبسطها وتُسهل للناس التعايش معها فتتطبع حياتهم بها وسلوكهم على ضوئها.

أما مفاهيمها فهي ذاتها، منطلقاتها الفردية المادية الاستهلاكية التي لا تقيم اعتباراً للقيم الأخلاقية والمضامين الإيمانية لا بل تحاربها لأنها لا تصلح لها ولا تُفيدها في تحقيق مصالحها، بل هي التي تشكل حواجز تعرقل مسارات مصالحها وانتشار مفاهيمها البديلة، فتلجأ إلى محاربتها بكل وسيلة ممكنة وإلى محاصرتها ميدانياً وتؤهل الجماعات والأفراد للتخلي التدريجي عنها واستبدالها بنقيضها الرأسمالي المُعولم، وهم غالباً لا يدرون ما يجري في حياتهم من تبدل وتحول، حتى ليبدو التحول نحو مفاهيم العولمة الرأسمالية وكأنه “تطور طبيعي يستجيب لمتطلبات الحياة العصرية والحداثة والتطور”.

وهكذا حفلت المجتمعات البشرية بتلك التحولات السلبية التي يشكو منها أغلب الناس، ولعل أكثر البلاد تأثراً بها، مجتمعاتنا العربية بالذات وذلك لأسباب كثيرة تحتاج إلى حديث آخر للحديث عنها وتفصيلها، وفي رأس تلك الأسباب التي تجعل مجتمعاتنا العربية ألأكثر تأثراً بالعولمة الرأسمالية ومفاهيمها السلبية، أنها- أي مجتمعاتنا العربية- هي المُستهدف الأول في غايات المصالح الرأسمالية ووسائلها، نظرا لما تحمله في تكوينها التاريخي والحضاري من قيم نقيضة ومفاهيم بديلة وأسس إيمانية دينية لا تسمح للرأسمالية بالتمدد والسيطرة، إذا ما كان الإلتزام بها وتطبيقها قائماً في حياة الناس وعلائقهم وروابطهم المجتمعية.

ومما يزيد في تفاقم سلبيات ذلك التحول، تصدي بعض النخب الثقافية من أبناء المجتمع ذاته لتحليل أسبابه فينسبونها إلى قصور ذاتي في طبيعة العقل وتكوينه وما للتراث الديني من تأثيرات سلبية عميقة فيه، ويتغافلون عن دور العولمة الرأسمالية السلبي فيساهمون بذلك في صرف أنظار الناس عنها وتمرير أهدافها دون ما تستحق من انتباه وحذر وتنبيه وتوعية لحماية المجتمع منها وتوقيها .

أردنا بعض التفصيل في الحديث عن دور العولمة الرأسمالية وما تحمله من غزو ثقافي- سلوكي خطير، لأنها تشكل أساساً لفهم وتحليل معظم الظواهر والتحولات السلبية والانحدار السلوكي والتفسخ الأخلاقي والتي تشهدها المجتمعات الانسانية وفي القلب منها مجتمعاتنا العربية، وعلى ضوئها نستطيع أن نُفسر ونفهم ذلك التحول السلبي الذي أدى إلى إفراغ شهر رمضان المبارك من مضامينه الإيجابية واستبدالها بمظاهر البذخ واستهلاك الموائد الفاخرة، إلى جانب الميل إلى الكسل والقعود واللهو واللعب والتسلية.

وهكذا لعب الإعلام الموجه والمدروس الدور الأساس والأخطر في هذا الإفراغ والتبدل، فمن المُسلسلات المكسيكية في أوائل سبعينات القرن العشرين مروراً بفوازير رمضان ثم المسلسلات التركية والدراما الاجتماعية، إلى برامج الألعاب واللهو والجوائز وكل ما يثير الغرائز من مسابقات وتسابق إلى الجشع والتنافس السلبي على الكسب المادي دونما أي مجهود، جميعها من إنتاج وعرض وتسويق مؤسسات إنتاجية تملكها وسائل الإعلام الرأسمالية العالمية أو تلك المحلية المنبثقة عنها والمرتبطة بها مصلحياً وعملياً، وحتى أولئك الرأسماليين المُنتجين المحلين الذين يرتهنون لأهداف العولمة ومتطلباتها السلوكية بحثاً عن الانتشار والتسويق دونما رادع وطني أو أخلاقي أو إنساني، شركاء لها في ذات غاياتها الخبيثة المدمرة.

وهكذا تتكاتف الرأسمالية المُعولمة وأتباعها من الرأسمالية المحلية الخائنة، للترويج لأعمال فنية خالية من المضمون الأخلاقي لا بل بالعكس تشترك في الترويج لقيم الإنحلال والفساد والفردية والجشع المادي والأنانية المتوحشة، وذلك بإخراج فني تقني مُبهر وجذاب ومُؤثر، يُسوق لقيم الفساد والانحلال تحت شعارات الدراما الاجتماعية والتسلية والترفيه، مستفيدين من غياب أو ضعف مصادر أخرى للتوعية والتثقيف ذات مضمون إيجابي، تستطيع جذب الجمهور إلى أعمالها وقيمها بأسلوب عصري تقني جذاب، تنافس أدوات العولمة تمهيداً لمحاصرتها.

تتكاتف أدوات العولمة جميعها معا لتظهر وتستعرض أبرز إمكانياتها التوجيهية في شهر رمضان بهدف إفراغه من أي مضمون إيماني إيجابي تضامني، فغايتها بلوغ مجتمعاتنا مرحلة التفكك والتفسخ وسيطرة النوازع  الفردية والاستهلاكية والغرائزية حتى تصبح عديمة القدرة على مقاومة الغزو الثقافي- السلوكي، مُفككة إلى درجة لا تسمح لها بمعارضة أية مشاريع أجنبية للسيطرة عليها والتلاعب بمصائرها واستلاب إرادتها وسرقة خيراتها وتوجيه سياساتها.

لا يقتصر دور العولمة الرأسمالية على إفراغ رمضان والصوم من المضمون الإيجابي، بل امتد ليشمل كل مظاهر الحياة التي كانت تعج بالإنسانية والأخلاق الرفيعة والقيم السلوكية الطيبة، فبات الشكل سائداً على حساب المضمون، من أول العلاقات البينية إلى آخر المصائر الوطنية والظواهر التضامنية الواجبة والمُلزمة بين أبناء المجتمع الواحد والأمة الواحدة.

استطاعت قوى الرأسمالية المُعولمة إفراغ القيم الإيمانية والمناسبات الدينية والمفاهيم الأخلاقية من مضمونها الإيجابي لحساب سلوك استهلاكي نمطي سلبي مناهض ومناقض لها، مع الاحتفاظ لها بشكل مُخادع فارغ أبله، فعلوا هذا بقيم الإسلام ورمضان في قلبه مثلما فعلوه بعيد الميلاد المجيد حينما حولوه إلى موسم للتسوق والاستهلاك! وعوضاً عن أن يكون مناسبة للاقتداء بأخلاقيات السيد المسيح العظيمة الراقية، استخدموا المسيح ذاته ليكون مدعاة ومُحرضاً على الاستهلاك وشراء الهدايا!! وبدلاً من أن يكون موسماً للتضامن الحياتي مع الفقراء الذين أحبهم السيد المسيح عليه السلام، وبَذلَ حياته فداءً لهم، جعلوه سبيلاً لشراء الهدايا تُقدَم لمن ليسوا فقراء، نقلوا فكرة المسيح الفادي الذي يفدي البشرية بروحه إلى سلوك مادي  قيمته فيما يُنفق من أموال على شكل هدايا ليُقرب الناس إليه وهو اللصيق بهم، وهو الذي عاش فقيراً مكافحاً عن الإنسانية وضميرها المُعذب المُضطهد على أيدي قياصرة اليهودية المُستبدين.

وتبقى القيم الأخلاقية الإنسانية، فردية أو جماعية، المنبثقة عن الإيمان الديني، عدواً للعولمة الرأسمالية وما تنشره من فساد وتفسخ وانحلال، وبعد أن فشلت الدعوات  العلمانية اللادينية، ها هم يلجؤون إلى الالتفاف على القيم الإيمانية ومحاصرتها وتفريغها من مضمونها الإنساني الجميل وانتزاعها من سلوك المؤمنين وحياتهم.

ومع وجود قوى كثيرة متشعبة تقاوم سلبيات تلك العولمة وتنبه منها، إلا أنها تبقى أضعف من أن تقوى عليها فتحاصرها وتمنع تأثيرها، الأمر الذي يُضاعف مسؤوليات كل المؤمنين، مسلمين ومسيحيين وإلى أية ديانة ينتمون، في التعاون وتنسيق الجهود لدرء مخاطر العولمة لا سيما على الأجيال الشابة التي يستولي عليها نمط العولمة تلك ويسلب عقولها ويأخذ اهتماماتها إلى ما لا تُرجى منه فائدة أو منفعة بل تؤدي إلى دروب المهالك ومسالك التفسخ والانحلال.

ثمة حرب رأسمالية عالمية شاملة على القيم الأخلاقية النبيلة، تقتضي جهوداً تعاونية جبارة وتصميماً إرادياً واعياً منسَّقاً لمواجهتها، مطلوب ثورة ليس على الدين وإنما في طقوس ممارسة التدين، ثورة من المؤمنين مسلمين وغير مسلمين على المفاهيم السلوكية للعولمة الرأسمالية التي تُقدَم إلينا بكافة أساليب الإغراء والجذب والتشويق والتسلية، فهي الخطر الحقيقي المتفاقم المُحدق.

والذين ينافحون الدين والتراث الديني متغافلين عن أخطار السلوكيات المُعولمة على الإنسانية جمعاء، لا يخدمون الإصلاح ولا التحديث، وإنما يُمكّنون العولمة المُنحلة من رقاب شبابنا وعقولهم ومسلكياتهم، قصدوا ذلك أم تغافلوا أم تبلدت عقولهم واهتماماتهم، أم يوظفونها لاسترضاء من فوقهم يأتمرون بتوجهاتهم وأهدافهم الخبيثة طامعين بدور وظيفي أو وجاهة إعلامية أو سياسية أو منفعة من نوع ما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.