الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أوروبا والسير نحو «هاوية»…

سمير العيطة *

ما الذي حدا بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لكي يوقّع اتفاقاً أمنياً مع أوكرانيا وليعلن أنه سيرسل قوات عسكرية للمشاركة في الصراع؟ مهما يكن من أمر، لقد قامت قيامة الدول الأوروبية جميعها عليه. إنّ إعلانه يعني الدخول في حرب مباشرة مع روسيا. خاصة أن عجز الميزانية الفرنسية عاد إلى نسبة توازي النسبة التي رافقت جهد مواجهة تداعيات جائحة الكوفيد وأن الدين العام للبلاد أصبح بمستوى البلدان الأوروبية الأكثر هشاشة، ثم ليس هناك موازنة دفاع فرنسية حالياً تشابه ميزانية حرب.

هل المقصود هو المزايدة على اليمين المتطرف في سياق انتخابات البرلمان الأوروبي القادمة؟ أم استباق لانتصار محتمل لدونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية؟ خاصة أن هذا الأخير قد صرح أن الولايات المتحدة لن تحمي الدول الأوروبية إذا لم تدفع الأموال لحلف الأطلسي وأنه «سيشجّع روسيا لتفعل بهم ما تشاء!»؟…

                                                 *          *          *

بكلّ الحالات، إنه تصريح سياسي لا أفق له مثل ذلك الذي أطلقه ماكرون عندما زار إسرائيل بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وأعلن عن تحالف دولي لمحاربة حماس! لينقلِب بعد ذلك ويطالب بالهدنة الإنسانية ففقد المصداقيّة والشعبية، داخلياً وخارجياً.

وبالتوازي ما الذي يدفع المستشار الألماني أولاف شولتس لدعم إسرائيل إلى هذا الحد وحتى بعد موقف محكمة العدل الدولية من الإبادة الجماعية التي ترتكبها حكومتها وجيشها بحق الفلسطينيين والفلسطينيات واستمراره بإرسال السلاح إليها والاستهزاء بالدعوة التي رُفعت ضده بتهمة التواطؤ في جريمة هذه الإبادة؟ هل يتعلق الأمر بتكفير عن ذنوب «المحرقة» التي ارتكبها النازيون الألمان بحقّ اليهود خلال الحرب العالميّة الثانية؟ أم هو نتيجة ضغوط جماعات الضغط الصهيونيّة في الولايات المتحدة وأوروبا؟ وهنا أيضاً فقدَ شولتس المصداقية والشعبية، داخلياً وخارجياً، خاصة عندما تأتي مقارنة مواقفه مع المواقف الشجاعة للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل، خاصة حين حصلت موجة اللجوء الكبيرة إلى أوروبا.

                                                 *          *          *

كلا الزعيمين أخذا بلادهما بعيداً عن الدور التاريخي الذي كانا يلعبانه منذ بعيد منتصف القرن الماضي. ويأخذان بذلك البلدين اللذين يشكلان الثقل الأكبر في الاتحاد الأوروبي إلى مواجهة مع جزء كبير من العالم المتعدد الأقطاب القائم اليوم… فهل يُمكن لهذا التحول الكبير أن يأتي فقط نتيجة لحسابات صغيرة قصيرة الأمد؟ أم أن هناك مشكلة في الريادة السياسية على صعيد أوروبا كما على صعيد الولايات المتحدة اليوم؟

لم يكن الجنرال ديجول بعيداً عن الأفكار التي كانت سائدة في عصره، خاصة من حيث الفخر بدور فرنسا الاستعماري والتنافس العدائي بين فرنسا وكلّ من ألمانيا وبريطانيا. لكنّه عرف كيف يأخذ مواقف صلبة حيال وينستون تشرشل حتى حين كانت بلاده تخضع للاحتلال. وعرف كيف يخرُج من حلبة السياسات الحزبية الضيقة بعيد الحرب رغم أنه بطل التحرير. كما أخذ الجزائر إلى الاستقلال وأنهى تبعات العدوان الثلاثي على مصر والذي انخرطت فيه الحكومات الاشتراكية الفرنسية الموالية للصهيونية، وأوقف توريد السلاح إلى إسرائيل بعد حرب 1967 مطالباً إياها بإنهاء غطرستها والانسحاب من جميع الأراضي المحتلة، بما فيها القدس. ثم أبعد فرنسا عن حلف الأطلسي ومد يده إلى الاتحاد السوفيتي في ظل الحرب الباردة كي يضَع فرنسا كمعادلة صعبة في الجغرافيا السياسية العالمية. كما قام الجنرال بجرأة مشهود له بها بمصالحة تاريخية مع ألمانيا كانت الأساس فى صنع الاتحاد الأوروبي.

بسبب ذلك كله وغيره، من إنشاء صناعات الطيران والقدرة النووية المستقلة عن الولايات المتحدة إلى رحيله المشرّف عن السلطة، اعتبَرت فرنسا واعتبَر العالم أن الجنرال ديجول رجل سياسي بارز بحجم التحديات التي واجهتها بلاده. لكنّ الإرث السياسي الذي تركه تلاشى تدريجياً، خاصة بعد رحيل غريمه التاريخي فرنسوا ميتران، ليأتي رؤساء مثل نيكولا ساركوزى وفرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون فيُفقدوا فرنسا مكانتها ودورها العالمي. وها هي ألمانيا تحذو حذو فرنسا مؤخراً.

                                                 *          *          *

السؤال الكبير على الصعيد الأوروبي هو حول كيفية إنهاء الحرب القائمة في أوكرانيا اليوم إذا لم يكن هناك في أوروبا، وبين إحدى دولتي الثقل، من يحتفظ ببعض الهامش للمساعدة على عقلنة طرفي الصراع للوصول إلى السلام. هذا خاصة أن ما يجري هو نوع من «الحرب الأهلية» بين طرفين ينتميان إلى ذات الثقافة والتاريخ، ولا أفق لانتصار أحدهما على الآخر. كما أنه لا يُمكن تصور أن الصين ستسمح بهزيمة روسيا كي تهددها الولايات المتحدة وحلفاؤها مباشرة على حدودها البرية الشمالية، هذا بغض النظر عمن هو القائم على السلطة في روسيا.

في العقود الأخيرة، أفقد القائمون على «زعامة» أوروبا فرصة تاريخية تحقّق تصور الجنرال ديجول أن أوروبا هذه «من الأطلسي حتى جبال الأورال»، أي ما يعني أن روسيا تمثل شريكاً أساسياً في صيغة الاستقرار والتقدم الاقتصادي الأوروبي، كدور منافس للولايات المتحدة كما للصين. وهم يأخذون أوروبا اليوم إلى المجهول في ظل إنهاك لقدراتها…

على صعيد البلدان العربية، التي تتشارك البحر المتوسط مع أوروبا، تفتقِد هذه القارة القديمة أيضاً أي دور له معنى. فها هي فرنسا على علاقة سيئة مع الجزائر والمغرب على السواء… ما هو لافت. وحده لبنان، أو بعض اللبنانيين، يقيم اعتباراً لفرنسا لدورها التاريخي في إنشائه، مع استعراض مشهدي حول دورها في مصالحة أمراء حربه لانتخاب رئيس، مع علم الجميع بمسؤوليتها في تأخير الإصلاح المالي منذ 2001 كي يصبح انهياراً بحجم الكارثة في 2019، لتنتهي بنقل رسائل التهديد الإسرائيلية حول الصراع في الجنوب، على غرار المسؤولين الأمريكيين. وربما أيضاً العراق، المحشور بين الولايات المتحدة وإيران حيث يدعو الرئيس الفرنسي لحضور مؤتمر جوار العراق!… هذا المؤتمر الذى أُجّل لأمدٍ طويل بعد انطلاق «طوفان الأقصى»…

إن العالم العربي يغلي بالتحولات منذ أكثر من عقد. التحولات الداخلية منذ موجة «الربيع العربي» والتحولات في السياسات الخارجية، خاصة لدول الخليج العربي، بين التوجه شرقاً نحو آسيا بدافع المصلحة الاقتصادية وبين التطبيع مع إسرائيل. بالتوازي لم تستطِع أوروبا مساعدة تونس- وخاصة ألمانيا ذات الحضور القوى فيها- للخروج من أزمة تحولها السياسي الذي كان وحده دون عنف لترسيخ تجربة ديموقراطية عربية ناجِعة. وهكذا دخلت في متاهات صراعات إقليمية ضيّقة في ليبيا، فرنسا في اتجاه وألمانيا في اتجاه آخر. ونشطت أوروبا في دفع الحرب على الشعب في سوريا وسمحت بإرسال المقاتلين المتطرفين من أبنائها إلى «أرض الجهاد» هناك، في حين ترفض اليوم استقبال زوجاتهم وأولادهم. وخسرت مجالات كبيرة في التعاون الاقتصادي مع الخليج وغيره، من قطار الحج في السعودية إلى مفاعليّ الإمارات ومصر النووّيين.

وها هما زعماء فرنسا وألمانيا يقفان اليوم مع الجنون الإسرائيلي والإبادة الجماعية في غزة، ويقمعان حرية التضامن مع الحد الأدنى من الإنسانية في بلادهما… وهنا أيضاً يأخذان بلديهما وأوروبا إلى المجهول…

                                                 *          *          *

إن فرنسا وألمانيا تتواجهان في مواقفهما وتوجههما اليوم مع أغلبية دول العالم الأخرى… ومع أغلبية الجيل الشاب فيهما… في تحول تاريخي نحو فقدان «الريادة السياسية» والتوجّه نحو اليمين المتطرّف. تحوّل سيكون له تداعياته… وفي فقدان صورتهما كمدافعين عن الإنسانية والحريات والعقلانية…

ومهما كانت نهايات الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل، سيكون للمواقف الفرنسية والألمانية تداعياتها الطويلة الأمد لدى الشعوب العربية، حتى تلك المُبعَدة اليوم عن القضية الفلسطينية… مع فقدان المصداقية، كما هو الأمر بالنسبة لبريطانيا منذ أمد طويل…

* كاتب وباحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.