الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الموصل.. ذاكرة وأسئلة وأمل

عبد الحسين شعبان *

«نحتاج إلى خيال كبير لنتصوّر تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء»، ذلك ما كتبه الناقد الفرنسي “جيرارد جينيه”، وهو ما كنت أردّده مع نفسي، وأستعيده طيلة الأيام التي قضيتها في الموصل، خصوصاً حين شاهدت مظاهر الخراب والدمار، التي خلّفها «داعش» بعد احتلاله للمدينة (2014- 2017)، حيث اسْتمعتُ إلى قصص وحكايات أقرب إلى الخيال.

وأكثر ما استوقفني هو موضوع التعليم، الذي خصّصتْ له جامعة الموصل العريقة، التي تأسست في عام 1967، مؤتمراً دولياً ضخماً بمناسبة اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف (12 شباط/ فبراير) بالتعاون مع كرسي «اليونيسكو»، والوكالة الجامعية الفرنكوفونية، وجامعة النور الفتيّة الواعدة، التي زرتها هي الأخرى، واطّلعت على منجزها بعد إعادة إعمارها.

في تلك الأصبوحة الموصلية المشرقة الجميلة، طرحت السؤال المحوري، لماذا استهدف «داعش التربية والتعليم» بشكل خاص؟ وهو سؤال فاصل بين المدنية والتوحّش، وبين الظلامية والتنوير. فكيف لمن يريد «بناء دولة» أن يدمّر صروحاً أكاديمية وثقافية وتاريخية؟ ألم يقل الرسول العظيم «أطلبوا العلم ولو في الصين»، ألم يأتِ في القرآن الكريم «وقل ربي زدني علماً»؟ فكيف إذن، يُجهز «داعش» على 83% من مباني جامعة الموصل، ويفكّك أجهزتها المخبرية، ويستولي على 300 سيارة وواسطة نقل وسيارة، ويعدم 5 ملايين كتاب ومطبوع ومخطوطة، في محاولة لتغيير فكر الناس، فهل تمكّن هولاكو، الذي أحرق ربع مليون كتاب ومخطوطة، من تغيير فكر الناس وقناعاتهم؟ وهل استطاع «هولوكوست الكتب»، الذي قام به هتلر في ألمانيا والنمسا، تجريف العقول وتحريف الأفكار، أم أن ذلك ولّد العكس؟

لم يتمكّن «داعش»، بالترغيب أو الترهيب، من الاستحواذ على العقول، أو استمالة القلوب، بل إنه، بأفعاله الإرهابية، حوّل السخط إزاء التمييز ومحاولات الاستتباع، التي كان الموصليون يعانونها، إلى ردّ فعل ضدّه، وهكذا تدريجياً، لم يجد بيئة حاضنة، أو مستعدّة، أو مولّدة لأفكاره. والموصليون، الذين جار الزمان عليهم، لم يرضخوا ولم يستسلموا، بل نظموا مقاومة ثقافية ضدّ «داعش، وأساليبه الإرهابية بالصبر والمطاولة، والدفاع، والامتناع، وبجميع الوسائل تصدوا لمحاولات احتوائهم، أو إرغامهم، ودفعوا بسبب ذلك أثماناً باهظة.

وما أن انتهت العاصفة الهوجاء، حتى شمّر الموصليون عن سواعدهم لإعادة بناء مدينتهم، بمحبة وألفة وتعاون، وحاولوا تدويل قضيتهم للحفاظ على التراث والإرث الحضاري لمدينتهم، كما حدثني البروفيسور “طارق القصار”، رئيس قسم العلوم السياسية، وكان «لليونيسكو» دور في ذلك، وهو ما أشارت إليه البروفيسورة قبس حسن، مديرة كرسي «اليونيسكو» بجامعة الموصل، وشارك المجتمع المدني بحيوية في ذلك، لاسيّما مبادرات بعض الشباب، وهو ما لمسته من إعادة بناء قاعة «مؤسسة بيتنا للثقافة».

وحسب رئيس الجامعة، البروفيسور قصي كمال الدين، فقد استعادت الجامعة عافيتها، وهي تضمّ 24 كليّة، و142 قسماً، و7 مراكز أبحاث مختصّة، من بينها «مركز السلام والتعايش السلمي»، وثمة مساعدات وصلتها من عدد من البلدان، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت، إضافة إلى المتحف البريطاني، وغيرها.

سأل الجنرال شارل ديغول، وهو يتقدّم بجيشه لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي: وماذا عن الجامعات؟ فقيل له إن جامعة السوربون تناقش أطروحات الدكتوراه والماجستير في الأقبية، ويتلقى الطلبة محاضراتهم ودروسهم في أجواء من السريّة والكتمان، وهنا علّق ديغول يومها: إذن، فرنسا بخير طالما الجامعات بخير، وهذا ما فعلته الموصل في مقاومتها «لداعش»، فلم تتوقّف الدراسة في الجامعة، بل كانت امتحانات الطلبة قد استُكملت في مناطق بديلة، خارج سيطرة «داعش»، ومع مطلع عام 2018، أُعيدت إليها الحياة، حيث كانت المدينة بأكملها في ورشة عمل جماعية متصلة، فأُعيد بناء وترميم المباني المهدّمة، والمكتبات، وتجهيز المختبرات، ومع بداية العام الدراسي (2023- 2024)، بلغ عدد الطلبة في جامعة الموصل وحدها نحو 60 ألف طالب.

وبقدر ما في الموصل الحدباء، «أم الربيعين»، من حزن وذاكرة وسؤال، لماذا حدث كلّ ذلك؟ وكيف حدث؟ ومن المسؤول؟ لكن المهم عندها أنه ثمة أمل، وإرادة، وإصرار على إعادة البناء، والنجاح والتفوّق، وهو ما لمسته في النخبة الأكاديمية والفكرية والثقافية، التي تفيض إبداعاً، وجمالاً، وعلماً.

كل ما في الموصل يدلّ على أنك أمام مدينة عظيمة، فهناك ينتصب تمثال أبو تمّام، وهنا تستذكر أبو فراس الحمداني وقوله الأثير:

       أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ / أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي؟

وعلى الضفة الأخرى تستعيد إسحاق الموصلي وتلميذه زرياب، الذي أضاف وتراً خامساً لآلة العود، وهو صاحب فن الإتيكيت، وأول من أدخل لعبة الشطرنج إلى أوروبا. كما يحضر التاريخ الإنساني بكلّ ثقله من حضارات الأكديين إلى الأشوريين، وصولاً إلى أعلام الموصل ورواد الثقافة العراقية المعاصرة، وقسم منهم من الأصدقاء، مع استحضار الدور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والتربوي لمدينة الموصل، التي تعرف التنوّع والتعايش القومي، والديني، والاجتماعي، والثقافي.

وإذا كان الانتصار على «داعش» عسكرياً قد حصل، فثمة جبهات بحاجة إلى تعزيز وتعضيد، مثل الجبهة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والقانونية، والقضائية، والإعلامية، والمدنية، والأمنية، والاستخباراتية، والدينية، لاستكمال الجهة التعليمية والتربوية.

* كاتب أكاديمي ومفكر عراقي

المصدر: الخليج

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.