الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

غزة تعري الفن وأهله!

خولة مطر *

المشاهد قد تكون متشابهة في مضمونها؛ مشاهد في مدن تبعد بعضها عن بعض آلاف الكيلومترات في الجغرافيا، وربما في الزمن أيضًا، مشاهد تتشابه ربما لكونها احتفاليات بالفن أينما كان وكيفما كان.. فن، غناء وطرب أو فن تشكيلي أو تمثيل وسينما ومسرح أو رقص. تعددت الفنون والجمال واحد بل والفعل الأخلاقي واحد أو هكذا يكون.. تعلمنا أن الفن ليس مجردًا، ودرسنا في معاهد وكليات عالمية أن السينما وكل الفنون هي تعبير بل هي أكثر الوسائل قوة في التعبير عن الأفكار أو المشاعر أو المواقف، أو فقط الوضع العام وهذا بالطبع لا يحولها أو يُبعدها عن قدرتها على إمتاع الشخص المتلقي. وكما يرى البعض في الفن كترفيه من أجل الترفيه هناك كثر كان شغفهم بالفن بكل ألوانه كوسيلة للتعبير عن واقع أو عن حالة بل في الكثير من الأحيان تعد الفنون وسيلة للإلهام وفتح السموات ليحلق من يشاهد ومن يتلقى في خيال لا حدود له.

                                                         *          *          *

هنا ينتهى الحديث عن الفن للانتقال عن المشاهد التي أثارت الكثير من المتابعين والمتابعات مؤخرًا، فهناك في أقصى معاقل الصهاينة حيث القبضة المُحكمة على كعبة السينما والفن والإبداع في هوليوود.. هناك عمل الصهاينة كما عملوا مع عالم المال والاقتصاد وعالم الإعلام وكل ما يستطيعون من خلاله أن ينشروا صورة واحدة بل هي سردية لا يستطيع الكثير من ضحاياها أن يتخطوها.. في احتفاليات الأوسكار لم تستطع المؤسسات- رغم قدراتها وثقلها- ما استطاعت من الهيمنة ومطاردة كل من يخالف سياساتها العامة- والأمثلة على ذلك كثيرة من تشارلي شابلن، مرورًا بفنيسارد جريف وآخرين كثر برزوا بقدرات إبداعية في التمثيل والإخراج والإنتاج- وما لبثوا وأن طردتهم تلك المؤسسة بل حاصرتهم حتى أبعدتهم عن المشهد فأصبحوا خارج الصورة العامة.. كثير منهم بقوا محافظين على إبداعهم خارج أسوار هوليوود وهيمنتها وخلقوا سينما جديدة أكثر واقعية وأبعد عن التجارة والاتجار بالفكر والفن وهيمنة نمط واحد من السينما المتطورة فنيًا وتقنيًا والمكررة في الأفكار والسيناريوهات!

                                                         *          *          *

في احتفالات الأوسكار البعيدة لم ينسَ الممثلون والمبدعون أهل فلسطين ولا قضيتهم بل تحدثوا وجاهروا ووضعوا العلامة الحمراء الخاصة بالتعريف عن استنكارهم ورفضهم للإبادة.. هناك مرت الكاميرا على الوجوه وكثير من الأعين كانت مليئة بالدمع ووقف كثر ليصفقوا للمخرج البريطاني جوناثان جلايزر بعد تسلمه جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي. وكان جلايزر، وهو كاتب ومخرج يهودي بريطاني، قد عبر في كلمته عن تعاطفه مع ضحايا 7 تشرين الأول/ أكتوبر من الإسرائيليين وضحايا الإبادة في غزة وكل فلسطين، وقال: «نقف هنا كرجال يدحضون أن تختطف يهوديتهم والمحرقة من قبل الاحتلال الذي أدى إلى نزاع بالنسبة للعديد من الناس الأبرياء سواء ضحايا السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في إسرائيل أو الهجوم المستمر على غزة». وفيما انتقد كُثر كلمته، وقف الكثير من المشاركين والمشاركات في الأوسكار وصفقوا له في تغيير جذري عن الموقف في الأوسكار قبل أكثر من أربعين عامًا عندما فازت فانيسا رديجريف بالأوسكار وقوبلت بكثير من الرفض وحملة من الانتقادات والهجوم رغم أن فيلمها أصبح أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما، لكن كان الموقف من رديجريف هو موقف من فيلمها الوثائقي «الفلسطيني 1977»، وهو الفيلم الذي أنتجته وروت فيه محنة الشعب الفلسطيني.

 

انتهى المشهد في هوليوود الذي كانت غزة بنسائها ورجالها وأطفالها وكنائسها ومساجدها ومستشفياتها وجامعاتها، كانت حاضرة جدًا. المشهد الآخر هو في المدن والعواصم الأقرب لفلسطين وغزة ورمضان يقترب ثم يحل والمشهد لا يتغير عن سنوات مضت، والفن هنا هناك بعضه يصيب مرة ومرات عدة «يسلق» المشهد أو كل المسلسل أو الفيلم أو الأغنية، والأهم أن معظم بل كثير من الفنانين والفنانات لم تكن غزة حاضرة معهم بل بعدت جدًا حتى حاول بعضهم التبرير وآخرون، وباستخفاف شديد رددوا «ما علاقة الاحتفال بالفن بالموت؟» الفن هو الحياة نعم وهم أيضًا أي أهلنا في غزة وفلسطين وجنوب لبنان وكل المقاومين للموت يحبون الحياة بل يسعون لها، ويرون أن من حقهم أن يستمتعوا بها وبكل أنواع الفنون.

                                                         *          *          *

في هوليوود كان الفن رسالة لمعنى الحياة، وفي عالمنا العربي خاصة في الأسبوع الأول من صيامنا يبدو الفن وسيلة للتربح الرخيص والاستهلاك المتدني، لأن هناك استهلاكًا بالطبع أكثر رقيًا مما يقدمه بعضهم حتى لا نعمم.. وقبل رمضان اصطفوا جميعًا مرتدين أحلى ما عندهم ليعيشوا ليالي بعيدة جدًا عن كثير ممن يتابعونهم ويشاهدونهم وحتى من يحبونهم.

                                                         *          *          *

في هوليوود وكثير من فناني وفنانات العالم كان الموقف أن الفن هو الجمال والحب والخيال وليس القتل والذبح والدم، ولذلك وقف أهل الفن من مغني راب إلى ممثلين ومنتجين وكتاب وفنانين تشكيليين مع غزة، لأنهم نساء ورجال يعرفون أن الفن في حضرة الموت يموت وحتى لا يشاركوا في الإبادة.. ربما هو الوعي؟ ربما بعض الفنانين استساغوا عبارة «عايزين نعيش» حتى لو كانت تلك اللقمة مغمسة بكثير من عرق ودم الفلسطينية والفلسطيني أو حتى دموعهم في حالة الجوع والعطش والمرض.

*  كاتبة صحفية من البحرين

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.