الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إلى كلّ امرأةٍ من غزّة تحية

سما حسن *

لستَ في حاجةٍ لكي تكرّر الاعتراف بأن نساء غزّة هن الجبال الشامخة التي يتكئ عليها الرجال، وأنهن صمّام أمانهم وبحر الحبّ والتفاني ومصدر الطاقة الذي لا ينضب سلماً أو حرباً، وبين أصابع كل امرأة هناك مفاتيح الحكمة تتدلّى بكل صبر، وتتدلّى معها شلالاتٌ من العطاء، على الرغم من الشحّ الداخلي المميت.

لستَ بحاجةٍ لأن تعرف أن آلهة الحكمة قد أودعت جلّ أسرارها لدى تلك الحزينة الباكية المتشحة بالسواد، المتّكئة على قماش خيمةٍ بلا جدارٍ يسند الظهر، بمعنى كلمة الاستناد والعون والغوث. ورغم ذلك، هي تحرّك عالمها الصغير بنظرة عينٍ وإيماءة رأس، وهمسٍ دافئ، وصوتٍ مبحوحٍ لا يكاد يتجاوز القلب، لكنه يصل إلى أحباب القلب، فيقيل عثرتهم ويشدّ عودهم ويملأ نفوسهم أملا رغم خواء بطونهم.

أنتَ الآن أمام امرأة المستحيل، وقاهرة كل الرياح، ومحارِبة كل طواحين الزمان. إنها امرأة غزّة التي أصبحت رائحة الدخان المنبعث من إشعال الحطب عطرها الدائم، بعدما تكسّرت قارورات عطرها المرصوصة أمام مرآةٍ هشّمها عدوٌّ غاشمٌ متغطرسٌ، لأنه رأى فيها صورته كذئب، وانعكست خلفه صورة أجمل الأميرات وأبهاهن، رغم المكيدة وثمرة التفّاح المسمومة.

وأنت الآن ترى امرأة في خيمةٍ لا تقي بردا ولا شمسا، تنظر نحو أطفالها نطراتٍ خاوية، فيها ترقّبٌ ورجاء، فهي لا تعرف أيا منهم سوف يكون الشهيد القادم، أو مبتور الأطراف القادم، ولا تملك لهم سبيل نجاة، ولكنها تتمسّك ببقايا طاقةٍ داخليةٍ وتقاوم.

وهذه المرأة التي ترى منها ثياباً سوداء، وعصبة رأسٍ حاسرة، مكلومةٌ بفقد الأب والأخ أو أحدهما، وقد تكون قد فقدت شريك الحياة، لكنها رغم ذلك تجمع الصغار حولها، وتضع قدرا بماء وحصى فوق نار ذوت ألف مرّة وأشعلتها بحرارة حزن قلبها.

بكت هذه المرأة الغزّاوية كثيرا فساتينها التي كانت تحبّها، ونظرت كثيراً لهذه الأسمال البالية التي تغطّي جسمها منذ ما يقرب من نصف العام، وسمعت اعتذارا بعيدا من فستانها الأحمر، خصوصا الموشّى ذيله بورود بيضاء، ورأت بعين خيالها المنهك قلم حُمرتها وقد داستْه قدم جندي أخرق لا يعرف أن يفعل شيئا سوى أن يكسر ويحطم كل جمالٍ يتعثّر به.

هذه المرأة التي تستند إلى قماش تصلب ظهرها لطول صبرها، فأضحى هذا الظهر جدارا يتكئ عليه من حولها، وتحرص ألا يميل أو يتعب أو يكلّ.

هذه المرأة ابنة غزّة التي خاطت من بقايا روحها دمية لطفلتها حين فقدت طفلتُها ألعابها ومدرستها وأقلام التلوين والدفاتر التي رسمت فوقها العصافير الصغيرة التي تحاول الطيران والأرجوحة التي تقطر دماً حين تحوّل فوقها أحد الأطفال إلى أشلاء جمعها الرجال، ثم مضوا بها إلى حفرة عميقة حيث تُدفن الأحلام.

هذه المرأة التي تُقتل بألف طريقة، وفي النهاية لا تموت، حتى وهم ينتزعون طفلها من بين أحشائها فوق سرير قذر، أو حين تُصاب بحمّى النفاس لسوء رعاية واجبة، أو حين يجفّ ضرعها فلا تجد ما تلقمه لوليدها غير الدمع الممزوج بدم وقيْح.

هذه المرأة المنسلّة من بحر غزّة وترابها لا تعرف النهايات المكتوبة في كتب التاريخ الكاذبة، فهي صخرةٌ وكفُّ صيّاد يناطح مِخرزا مُصاباً بالعمى، وفارسٌ ماهرٌ حاذقٌ يعرف كيف يراوغ ثورا هائجاً في حلبة تعجّ بمشاهدين ثملين.

هذه المرأة الوحيدة في كل العالم التي تستحقّ تحية من مطلع كل شمس، وهذه المرأة التي تتنصّل من يومٍ اسمه يوم المرأة، فلها كل أيام آذار، وكل شهور العام، وكل الأساور الدائرية والملتفة والأقراط والسلاسل المشعّة نورا وزخرفة لها، وليست لامرأة غيرها، فهي صانعةٌ ومعلّمة، وليست امرأة على هامش الحياة تؤدّي مهام مكرّرة رتيبة، فهي ذاتها الحياة وركن شديدٍ لرجلٍ يحارب إلى جوارها في معركةٍ لا يعرف أحدٌ نهايتها. ولكن كل المعارك تهون حين ترى عينيها الباهتتين في لحظات، والمشتعلتين دوماً، وحين تُمسك بكفّيها الجافّتين المتشقّقتين، فترى فيهما خريطة حياةٍ منتزعةٍ من ببن أنياب الموت.

 

* كاتبة فلسطينية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.