الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

غزة.. والرأي العام الغربي.. ونحن

إبراهيم عوض *

في التاسع والعشرين من أيار/ مايو 2021، تفضلت «الشروق» الغراء بأن نشرت على نفس هذه الصفحة مقالًا لكاتب هذه السطور تحت عنوان «التَحَوُّر في القضية الفلسطينية». كانت فحوى المقال أن جينات القضية تحورت فَحَوَّلَتها من مجرد قضية وطنية للشعب الفلسطيني، ساندته فيها الدول العربية حسب طاقاتها وسياساتها المتغيرة، إلى قضية إنسانية تدافع عنها وتساندها بل وتتحمس لها مجموعات عديدة من البشر في كل مكان. هذه المجموعات انتشرت حتى في دول أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة، المعينة لإسرائيل على نشأتها والسند الأساسي لها في العقود الثمانية الأخيرة. وردت في ذلك المقال أمثلة متعددة على تحركات المجموعات المذكورة، الدالة على التحور.

الحرب المتواصلة التي تشنها إسرائيل بلا هوادة على غزة منذ خمسة شهور كانت وما زالت فرصة جديدة لدفع التحور قفزات إلى الأمام. نورد فيما بعد أمثلة قليلة على هذا التحور. في أوروبا الغربية، حظرت ألمانيا وفرنسا المظاهرات المنددة بالحرب على غزة والمسانِدة للشعب الفلسطيني فيها، ومع ذلك سارت المظاهرات في عاصمتيهما. في ألمانيا تظاهر ألمان يهود منددين بالحرب. في فرنسا نُظِّمَت مؤتمرات في جامعات للتضامن مع غزة والشعب الفلسطيني كان آخرها مؤتمر في معهد العلوم السياسية العريق والشهير في باريس أحدث جلبةً عندما استنكرته جماعات مساندة لإسرائيل واتهمت إدارة المعهد بالتقاعس ومعتبرةً أنها ما كان ينبغي أن تسمح بالمؤتمر أساسًا. مظاهرات سارت في مدن إسبانية، وعشرات الآلاف مشوا في العاصمة البريطانية، لندن. في البرلمان الإيرلندي وفي إيرلندا عمومًا ارتفعت الأصوات المدينة لإسرائيل والمطالبة بوقف السلاح عنها وفرض العقوبات عليها. في هولندا حظرت محكمة على الحكومة الهولندية تصدير قطع غيار الطائرات المقاتلة أمريكية الصنع إلى إسرائيل.

وعندما زار وفد إسرائيلي يترأسه رئيس إسرائيل أمستردام في الأسبوع الماضي لافتتاح متحف فيها عن المحرقة لاقى استقبالاً مهيناً من جماعات معتبرة من الهولنديين وجهت أنظار الوفد وجهة لاهاي، أي وجهة محكمة العدل الدولية التي قضت بإجراءات احتياطية لتقي سكان غزة من خطر الإبادة الجماعية. يلاحظ أن هولندا هذه كانت من أشد أنصار إسرائيل إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر في سنة 1973، فحظرت الدول العربية المصدرة للنفط تصدير النفط إليها وحدها مع الولايات المتحدة، إلى جانب جنوب أفريقيا وروديسيا والبرتغال، وثلاثتهم كانوا بعد يرزحون تحت حكم أنظمة عنصرية أو استعمارية. أكبر صندوق للمعاشات التعاقدية في النرويج سحب استثماراته في 16 شركة إسرائيلية مرتبطة بالمستعمرات في الضفة الغربية، والصندوق السيادي النرويجي نفسه يدرس كذلك سحب استثماراته من إسرائيل. في الولايات المتحدة، مدينة في شمال كاليفورنيا سحبت استثماراتها من إسرائيل. أمريكيون يهود يتظاهرون ويعلنون «ليس باسمنا»، أي أنهم يرفضون أن تشن إسرائيل الحرب باسم اليهود مدعية أنها تدافع عنهم كلهم. مجموعات من الطلبة والأساتذة في جامعات أمريكية يطالبون بوقف الحرب في غزة ويعلنون تضامنهم مع الشعب الفلسطيني. فنان وموسيقى وكاتب أمريكي يهودي واسع التأثير، هو “مورجان باسيتشيس”، يلقي خطابًا علنيًا يدافع فيه عن حقوق الشعب الفلسطيني ويهاجم إسرائيل والصهيونية ذاتها. جماعات تقدمية أمريكية تعلن أنها ستواجه اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة (إيباك) واسعة النفوذ، مرهوبة الجانب، التي خصصت مائة مليون دولار لشن حملات ضد أعضاء الكونجرس الذين تجرأوا وانتقدوا إسرائيل.

مواطنة أمريكية يهودية تكشف على التلفزيون عن تلقين الأطفال والشباب اليهودي الأمريكي، وهي منهم، كراهية العرب وازدرائهم منذ نعومة أظفارهم وعن البرامج التي يتعرضون لها في زياراتهم المنظمة لإسرائيل، وتقول إنها وقد برأت من آثار التلقين المذكور ستخصص ما بقي من عمرها لمحاربة هذا التلقين ومحتواه. في حفل توزيع جوائز الأوسكار في هوليود في الأسبوع الماضي أيضاً تقلّد كثير من نجوم صناعة السينما «دبوسًا» مكتوبًا عليه «أوقفوا الحرب». وفي الحفل، المخرج البريطاني اليهودي، «جوناثان جليزر»، الفائز بأوسكار عن فيلم موضوعه محرقة اليهود في معسكر «أوشويتز» النازي، أعلن رفضه لاختطاف إسرائيل للدين اليهودي وللمحرقة، وتأجيجها للصراع في الشرق الأوسط معتبرا أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو السبب في معاناة كثير من الأبرياء. مجموعات من الأمريكيين اليهود تطالب بوقف الحرب. ستة وثلاثون حاخامًا أمريكيًا يقتحمون قاعة مجلس الأمن ويطالبون بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة. حاخامات يذهبون إلى التنديد بالصهيونية وبمجرد وجود إسرائيل. مواقف رجال الدين اليهود الأصوليين المؤسس على فهمهم للدين اليهودي ليس جديدًا. الجديد هو أنه وجد طريقه إلى وسائط الاتصال فوصل بموقفه إلى جمهور أكبر من ذلك الذي كان يصل إليه من قبل. الشيء نفسه يُقال عن بعض الأكاديميين اليهود، بل والإسرائيليين، المنددين بإسرائيل أو بالسياسات الإسرائيلية منذ زمن بعيد من أمثال «نورمان فنكلشتاين» و«إيلان بابيه».

                                                                *         *         *

المُنددون بإسرائيل وبحربها على غزة ينقسمون إلى ثلاث فئات متداخلة. الفئة الأولى أساس تنديدها هو الحرب في غزة والمطالبة بوقفها، التي لا تستجيب لها إسرائيل. الفئة الثانية أساس تنديدها هو احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وحصارها لغزة وإقامتها للمستوطنات في الضفة الغربية. هذا القسم الذي بدأ التحور المذكور أعلاه يشدد على حقوق الشعب الفلسطيني في الحياة الكريمة بما في ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة التي تعيش إلى جانب إسرائيل. القسم الثالث، وأغلبه من اليهود أكثر راديكالية، هو يهاجم الصهيونية نفسها، ويعتبرها أيديولوجية عنصرية، جوهرها التمييز، وهي بذلك السبب في حرمان الفلسطينيين، وفي معانتهم ومعاناة اليهود معهم.

ليس فيما سبق ادعاءٌ بأن المنددين بالسياسات الإسرائيلية وبإسرائيل وبالصهيونية أصبحوا يشكلون أغلبية في بلدانهم. المهم هو النمو الملموس في صفوفهم والذي لم تنتف ظروف الاستمرار في ارتفاع معدله. بيانان مفيدان في الدلالة على أهمية ما حدث حتى الآن من التوسع في صفوف المنددين. البيان الأول هو تحذير زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشاك شومر، في قاعة المجلس يوم الخميس 14 آذار/ مارس بأن إسرائيل لا يمكن أن تستمر في الوجود إن أصبحت دولة «منبوذة». يُذكر أن “شومر” من أشد المحبين لإسرائيل وأنه لا ينتمي إلى أي من الفئات الثلاث المذكورة. البيان الثاني هو ردّ الفعل العصبي لإسرائيل وللجماعات المؤيدة لها، التي صارت تحاصر حرية التعبير بملاحقة من يناصرون الشعب الفلسطيني وقضيته، بما في ذلك في الجامعات الأمريكية حتى وصلت إلى الإطاحة باثنين من رؤساء جامعات القمة فيها.

لاتساع صفوف المنددين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ديناميكياته الخاصة، لكن ما الذى علينا نحن أن نفعله في بلداننا، أو لا نفعله، حتى يستفيد الشعب الفلسطيني من هذا الاتساع في نيل حقوقه، بما في ذلك حقه في تقرير المصير؟ نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه هو ما يكفل الأمن والاستقرار المنشودين لمنطقتنا ومن يعيشون فيها. أول ما علينا أن نفعله هو أن نتشدد في التمييز بين اليهودية والصهيونية. إحقاقاً للحق، لم تنزلق أي دولة عربية في أي وقت من الأوقات، وأيًا كان نظام الحكم فيها، إلى المساواة بين اليهودية والصهيونية واعتبار مجمل اليهود مسئولين عن إقامة إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني ثم احتلال أراضٍ عربية في غير فلسطين. إن كان لم يبقَ إلا قليل جدًا من اليهود في البلدان العربية فهذا مما يؤسف له، غير أن السبب فيه كان ادعاء إسرائيل أنها ممثلة اليهود كلهم، في الوقت الذي اعتدت فيه على الدول العربية كما حدث في مصر في سنة 1956.

انتصارات إسرائيل على العرب جعلتهم يظنون أنها تصيب في كل ما تفعل وتقول. هكذا فعلى الرغم من أن العرب لم يقولوا قط أن اليهودية والصهيونية هما الشيء ذاته، فإنه داخلهم شك بسبب ما تقوله إسرائيل عن تمثيلها لكل اليهود. والنتيجة مغادرة اليهود للبلدان العربية. يضاف إلى ما سبق، سبب مهم آخر هو اجتذاب إسرائيل لليهود العرب بطرق شتى حتى تغذي نفسها بالسكان في السنوات الأولى لنشأتها. المهم الآن هو العمل المستمر على التمييز بين اليهودية والصهيونية وأن تكف بعض الجماعات الموجودة في بلداننا، وهي ليست كثيرة، عن استخدام مفردات وروايات فيها عداء لليهود كيهود. تتميز المجتمعات العربية بتعدد الأديان والمذاهب والملل فيها، وهو ما يُعلي من قدرها كمجتمعات بشرية تعايش سكانها عبر القرون أياً كانت أصولهم أو معتقداتهم. المجتمعات المدنية ومراكز البحث المتمتعة بحرية البحث والمبادرة والابتكار ينبغي أن تتفاعل مع قطاعات الرأي العام الغربي والدوائر الأكاديمية الغربية المنددة بإسرائيل وسياساتها. إلى ذلك، يبقى التفاعل مع مكونات في المجتمع الإسرائيلي نفسه ترفض حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، بل والاحتلال والمستوطنات، كذلك العضو في الكنيست، “عوفير كاسيف”، الذي أعلن تأييده لجنوب أفريقيا في القضية التي رفعتها على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وكادت الأغلبية تطرده منه في شباط/ فبراير الماضي، والصحفي “جدعون ليفي”.

                                                                *         *         *

الرأي العام الغربي، ومن ورائه الرأي العام العالمي، والمجتمع الحكومي الدولي، والمجتمع المدني الدولي، والعالم الأكاديمي، كلهم فاعلون سيؤثرون في اتخاذ القرار الدولي المنشود، قصر أمد اتخاذه أو طال.

المأساة مروعة، فغير الدمار وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى، انهار النظام العام في غزة، وسكانها يتعرضون لحملة تجويع ممنهجة. ومع ذلك، فمن وسط المأساة يمكن أن ينبثق الأمل.

* باحث مصري وأستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.