الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الفلسطينيون في سورية تحت عُسف الأسد

سميّة الحداد *

توزّع الفلسطينيون بعد 1948، عام النكبة الفلسطينية، بين دول الشتات وما زالوا، وكان على من بقي منهم في أرضهم أن يُكابدوا من بطش الكيان الصهيوني وحملاته العسكرية العنيفة، وأكثرها ضراوة ما يشهده قطاع غزّة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وفي الأثناء، هناك الفلسطينيون الذين عانوا من بطش نظام الأسد في سورية، حتى نكاد نحتار إن كان خروجهم من فلسطين إلى سورية درءاً لهم أم ابتلاء. ومن المفارقات الصعبة على النفس أن سورية شهدت، في الثلاثة عشر عاماً الماضية، ما تذكّر به، إلى حدّ ما، مشاهد المجازر والدمار وانتشال الضحايا وقصف دور العبادة والمدارس وغيرها من الأبنية الخدمية والمنازل والبنى التحتية، والمداهمات والاعتقال والنزوح والجوع في قطاع غزّة. ومن ذلك مثلا، جاءت مجزرة الطحين قرب دوار النابلسي في شمال القطاع في الـ29 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) لتعيد إلى ذاكرتنا مجزرة ساحة الريجة في مخيّم اليرموك في دمشق، التي ارتكبتها قوات القيادة العامة الفلسطينية المدعومة من النظام السوري بحقّ أهالي المخيم في 23 آذار/ مارس 2014، وإن لم يكن عدد الضحايا كما في مجزرة الطحين، إلا أنها اعتمدت المبدأ غير الإنساني نفسه باستغلال حاجة المدنيين الجوعى المحاصرين للمساعدات الإنسانية لقتلهم.

وللتذكير، استقرّ الفلسطينيون الذين هربوا إلى سورية ولبنان خصوصاً في مجتمعاتٍ شبه مغلقة، ففي سورية، ورغم حصولهم على الحقوق المدنية كالمواطنين السوريين، تمركزوا إما داخل أحياء أطلق عليها اسم حي المخيم في مدن عدة كحمص وحماة ودرعا، أو في مخيمات كمخيمي اليرموك والسبينة في دمشق ومخيم النيرب في حلب ومخيم الرمل في اللاذقية وغيرها. ولم يختلف الأمر كثيراً في لبنان، حيث مخيّمات برج البراجنة ومار إلياس في بيروت وعين الحلوة في صيدا ونهر البارد في طرابلس وغيرها، إلا أن الفلسطينيين في لبنان لم يحصلوا على الحقوق المدنية والاجتماعية. ومعروفٌ أن لبنان خضع لسيطرة نظام حافظ الأسد وانتشرت قواته في أراضيه بحجّة إنهاء الحرب الأهلية، عبر شن عمليات عسكرية ضد المليشيات الفلسطينية واليسارية، وبقيت هذه القوات منذ يناير/ كانون الثاني 1976 حتى إبريل/ نيسان 2005، وأحكمت قبضتها على مفاصل الدولة، وباتت سلطة الأمر الواقع فيه، ما يحمّلها مسؤولية كل الانتهاكات المرتكبة في لبنان خلال فترة وجودها.

ارتكبت القوات الإسرائيلية وعناصر من حزب الكتائب، في فترة الوصاية السورية على لبنان، مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا في سبتمبر/ أيلول 1982، بعد حصار استمر ثلاثة أشهر بحجة القضاء على مقاتلين فلسطينيين داخله، وبهدف الضغط على الفلسطينيين لمغادرة لبنان، اقتحمت هذه القوات المخيم الذي كان خالياً من المقاتلين، وقتلت قرابة ثلاثة آلاف مدني وفق منظمّات حقوقية فلسطينية، جرى قتلهم بالأسلحة البيضاء والرصاص.

ومن لم يسمع بمجزرة مخيم تل الزعتر التي شاركت فيها قوات النظام السوري في 1976، وتعدّ الأكبر التي ارتكبتها هذه القوات بحق الفلسطينيين في أكبر مخيم لهم في لبنان في ذلك الوقت، فقد خضع المخيم الذي تبلغ مساحته قرابة كيلومتر مربع ويقطنه قرابة 35 ألفاً (نحو ثلثهم لبنانيون) لحصار من قوات اليمين المسيحي، بدعم من قوات النظام السوري، 52 يوماً مع قطع للمياه والكهرباء ومنع دخول الغذاء، ما أنهك أهالي المخيم من الجوع والعطش، إضافة إلى تعرّضه للقصف من قوات النظام التي شاركت أيضاً في اقتحام المخيم وارتكاب المجازر في 12 أغسطس/ آب 1976، وتفيد إحصائيات بأن نحو أربعة آلاف مدني لقوا حتفهم، وتهجّر من بقي من أهالي المخيّم إلى مناطق مختلفة.

ارتكبت القوات السورية في لبنان انتهاكات جمّة بحق اللبنانيين من مجازر وخطف على الهوية وقمع للحريات وإخفاء قسري لمئات ما زالوا مجهولي المصير وتشريد قسري، وكذلك كان حال الفلسطينيين هناك. ولا يمكن إغفال تعرّض بعض المخيمات للقصف من قوات النظام السوري في بداية تدخلها، كمخيّمات عين الحلوة وشاتيلا والمية مية. كما قضت الحرب الأهلية على ثلاثة مخيمات، وهي النبطية (جنوب لبنان، دمّره الطيران الإسرائيلي عام 1974)، ومخيما تل الزعتر وجسر الباشا المتجاوران (في العاصمة بيروت، دمّرته القوات المارونية بدعم من قوات النظام السوري في يونيو/ حزيران 1976).

عانى الفلسطينيون في سورية ما عاناه السوريون من دون تمييز لهم عن سواهم، فحي المخيّم في حماة خضع للحصار في مجزرة 1982، ومورست بحقه انتهاكات على أشقائهم السوريين، فاعتقل من اعتقل وعذّب من عذّب وقتل من قتل وأخفي من أخفي. ولم تكن أحوال الفلسطينيين في عصر بشّار الأسد أفضل مما كانوا عليه في عصر أبيه، خصوصاً عقب اندلاع الحراك الشعبي في مارس/ آذار 2011، الذي انخرط معظمهم فيه بجميع نواحيه، حالهم كحال السوريين، فلقوا ما لقوه من قتل واعتقال وإخفاء وحصار وتجويع وتشريد وسلب للممتلكات، حتى إنه ظهرت لهم صور بين صور قيصر المسرّبة. من الضروري الإضاءة على بعض الأسماء البارزة من الفلسطينيين الذين اعتقلهم النظام السوري فقضوا تحت التعذيب، كالمصور نيراز مناد ومهندس البرمجيات باسل خرطبيل، أو اختفوا قسرياً كالصحافي مهند عمر والكاتب علي الشهابي، وهي السياسة نفسها التي اتبعها مع السوريين، وذلك باستهداف الطبقة المثقفة أو ذات التأثير البارز في المجتمع السوري باعتقالهم وتعذيبهم.

تعرّضت تجمّعات الفلسطينيين في سورية التي شارك قاطنوها في الحراك السوري لانتهاكات عدة، وكان مخيم اليرموك، وهو أكبر تجمّع للفلسطينيين، أكثرها تعرّضاً للانتهاكات، حيث ارتكب النظام وموالوه من الفصائل الفلسطينية انتهاكات واسعة فيها، أبرزها الحصار والمجازر، ومن ثم التشريد القسري لتحقيق التغيير الديمغرافي. وفي منتصف عام 2012، بدأت قوات النظام حصارها المخيّم، فكانت تحكم قبضتها عليه أحياناً فتغلق جميع مداخله وتفتح بعضها في أحيان أخرى، فكان انعدام الغذاء والماء والدواء أحد الأسلحة الأشدّ فتكاً بالفلسطينيين المحاصرين بالإضافة إلى عمليات القصف.

وأعلن في 23 مارس/ آذار 2014 عن وصول مساعدات إنسانية إلى المدنيين، ولدى تجمعهم في ساحة الريجة، قصفتهم قوات القيادة العامة الفلسطينية المدعومة من النظام السوري بقذيفة هاون أسفرت عن مقتل مدنيين عدة وإصابة عشرات. وفي منتصف 2015، أحكم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) سيطرته على المخيم، ما فاقم من أزمة الفلسطينيين الخاضعين للتضييق من كل من النظام السوري و”داعش”، واستمرّ الوضع على ما هو عليه حتى مايو/ أيار 2018، حين أعلن النظام عن سيطرته على المخيم عقب اتفاق تسوية أفضى بخروج الفلسطينيين إلى حيث يشاءون (إما مناطق سيطرة قوات النظام بعد إبرامهم لتسوية أو شمال غرب سورية)، وجرى نقل عناصر تنظيم داعش إلى السويداء، ليتعرض المخيم عقب ذلك إلى عمليات نهب وتدمير ممنهج.

تسبّبت العمليات العسكرية واتفاقات التشريد القسري في عموم سورية بنزوح آلاف الفلسطينيين من مخيّماتهم، كمخيّم اليرموك وخان الشيح وحندرات، إلى شمال غرب سورية، إلى جانب الفلسطينيين المهجّرين عام 1948 الموجودين هناك من قبل، ويعتبر مخيّما دير البلوط والمحمدية المتجاوران في ريف حلب الأكثر اكتظاظاً بالفلسطينيين. يعاني المهجّرون الفلسطينيون، حالهم حال المهجّرين السوريين، من انخفاض حصص المساعدات الإنسانية وفرص العمل وغياب المرافق الخدمية، إضافة إلى الظروف المناخيّة القاسية صيفاً وشتاءً. لقد أجبرت الظروف القاسية في عموم سورية الفلسطينيين إلى السعي إلى الهجرة إلى أوروبا، وكانت معظم هذه المساعي عن طريق مراكب الموت، فلقي عشراتٌ منهم حتفهم غرقاً في البحر.

نظام الأسد الذي تغنّى بدعم الفلسطينيين في مقاومتهم للكيان الصهيوني وشجب مجزرة الطحين هو النظام نفسه الذي نكّل بالفلسطينيين وارتكب المجازر بحقهم، وربما لو علم الفلسطينيون ما سيصيبهم على يد الأسد “الشقيق” لآثروا البقاء في مجابهة الكيان الصهيوني العدو.

* ناشطة سورية في مجال حقوق الإنسان

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.