الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الشعب يريد إسقاط سلطات مزارع الحيوانات

يونس العيسى *

ثلاثة عشر عاماً مرت على قيام الثورة السورية على نظام الأسد ومازال الشعب الثائر بين خيارين لا ثالث لهما، السيئ والأسوأ، بين نظام الأسد المستبد والمعارضة السورية.

وحال الشعب بظل سلطات الأمر الواقع وعلى اختلاف مناطق سيطرتها، يشابه أحداث رواية مزرعة الحيوانات التي وصف بها كاتبها جورج أورويل مآلات الثورة الروسية بعهد ستالين قبل الحرب العالمية الثانية.

رواية جورج أورويل:

وتصف الرواية مجازا أحداثها، وتروي تفاصيل ثورة قامت بها حيوانات مزرعة ضد حاكمها، بعد أن أشاع الخنزير “مايجر” فكره الثوري في أرجاء المزرعة، ومن ثم استطاعت الحيوانات جميعها بالتخلص من النظام المستبد ورفع شعار “كل من يمشي على قدمين فهو عدو” في إشارة إلى رفض النظام الدكتاتوري وعندما نجحت الثورة تولى الانقلابيون زمام الأمور وتسلموا دفة القيادة في المزرعة، ولكن لم تمض فترة وجيزة حتى انفرد “نابليون” قائد الثورة بالسلطة وأقصى رفاقه مستعينا بكلاب شرسة تمارس دور القوى الأمنية في المزرعة، ومن ثم أصبح هو وأعوان سلطته يمشون منتصرين على الأقدام وخلاف الشعار الذي رفعوه في بداية الثورة، وأخذوا يتصرفون كالسلطة التي ثاروا عليها في البداية، ووضعوا شعارا جديدا: “أربع أرجل جيدة، لكن رِجلين أفضل”، في إشارة إلى ميزة السلطة التي أصبحوا يتمتعون بها على بقية الحيوانات التي شاركت في الثورة.

رواية جورج أورويل تصف الحال الذي آلت إليه ثورة الشعب السوري على النظام المستبد، وتحذر من البديل الذي يتسيد قيادتها، فعندما يتسلم السلطة حتى يؤول إلى الفساد والظلم.

وعلى الرغم من أن أورويل كان يصف أحداث الثورة الروسية وما أفضت إليه من نظام جديد فاسد يماثل النظام المستبد، فإن روايته كانت كنبوءة تحققت في الثورة السورية وثورات الربيع العربي.

عشر سنوات وأكثر مرت على رفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهذا الشعار الذي مازال يردده الشعب الثائر، وابتغى الشعب من خلاله إسقاط النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي وكذلك النظام الثقافي والديني الذي رسخه نظام الأسد على مدى عقود من حكمه، وبالنظر لنتاج ذلك الشعار يمكن القول إن النظام الذي تم الخلاص من سلطته في المناطق الخارجة عن سيطرته هو جزء بسيط مما رسخه من نهج سلطة مستبدة، وأصبح فيها الخلف يشابه من سلف، وأعاد إنتاج سلطة النظام نفسها مغلفة بلبوس الثورة التي أسقط من خلالها الشعب حاجز الخوف والصمت، لكن لم يتم إسقاط النظام الذي ينتجهما وأعاد تدوير استبداده وفساده.

فالشعب السوري أراد من ثورته إسقاط النظام الذي يصنع ويزرع الفكر المنتج للاستبداد، لأن النظام المستبد حاضن للفساد والإفساد، والظلم وثقافة القطيع، نظام يرعى التسلط في كل المجالات والمؤسسات والأحزاب وكل التنظيمات العسكرية والمدنية، إنها سلطة الأسد الذي لا يموت نهجه وأورثه لابنه، ويعيد إنتاج ذاته داخل صفوف ومؤسسات المعارضة السورية.

وتبين بعد سنوات من الثورة أن الخروج من سطوة نظام الأسد، لا يمكن تسميته بالتحرر، فقد تغير العنوان والعراب، والحقيقة هي نهاية صلاحية مستبد متسيد وبداية صلاحيات آخر.

لأن سبيل التحرر ثقافي فكري بالدرجة الأولى، فإذا غاب فالباقي مجرد مناورات مغلقة داخل الحيز الجغرافي الذي تشغله سلطات الأمر الواقع، فالترسانة الثقافية هي السلاح الأهم في معركة التحرر، ويبدو أن سلطات الواقع مازالت ترتعب منها، وحافظت على الاستبداد والفساد، ولم تعد شعارات الثورة والتحرر والديمقراطية والإصلاح التي تتغنى بها سلطات الواقع الفاسدة تغري الشعب، بعد استلامها للسلطة وحماية مصالحها ونسيان قضية الشعب الذي كان ضحية نظام مستبد، والشعب الذي أراد الخروج من نير ظلم المستبد، كانت المبادئ وقيم الثورة والتحرر هي خطته الثورية التي توضح له خريطة الطريق نحو الهدف المنشود، والتحق بركب الثورة على أساس المبدأ، وليس على أساس العاطفة الآنية والمرحلية التي لا تخدم آمال الشعب.

والمبدأ يفترض الوعي والانتماء والالتزام، وهي من تدفع للانتماء الفعلي وليس الشكلي بالعواطف والمظاهر، ولكن بعد سنوات من الثورة، تبين للشعب أن من تسيد قيادتها بلا مبادئ وقيم، وسيطرت على الثورة النوازع الفردية والشللية والفرق الحزبية والإيديولوجية، وأصبحت أرضا خصبة للتكاثر العشوائي وفقدان الاتجاه والبُعد عن الهدف، وبرزت النوازع الفردية التي هدفها الزعامة، جعلت من الثورة عباءة مزينة برايتها ويستظل تحتها كل أصحاب المصالح والمتثورين ، وهدف كل هؤلاء من الالتحاق بالثورة الاغتناء الشخصي وتحقيق مطامعهم، والمال والمكاسب والمناصب لها قوة سحرية على نفوس المنتمين شكلا ومصلحة لصفوف الثورة وتفرغها من محتواها وأهدافها ومبادئها.

وعندما يكون دافع المنتمي للثورة الحصول على السلطة، ولم يسبق له تكوين ثقافي متوازن فإنه يتحول بتصرفاته إلى سلوك استبدادي وينقلب من ضحية إلى جلاد باسم الثورة يزعم المحافظة عليها، وذلك بسبب البيئة الاستبدادية التي نشأ وترعرع فيها، وتجذرت في نفسيته وانعكست لا شعوريا في تفاعلاته وانفعالاته على المجتمع الذي يحكمه، وقد انضم لصفوف الثورة السورية شخوص لم تكن لديهم خبرة سياسية أو أخلاق إدارية تتسم بالمرونة والحكمة، فعملوا بجهلهم على تدمير المناخات الثورية بتعاملهم بعقليات الصعاليك وقطاع الطرق، ويتقافزون على المناصب دون تأهيل، ويسطون على المال العام كأنه غنيمة، وكذلك تسيد صفوفها سياسيون انتهازيون، هربوا من قارب نظام الأسد بعد استيقانهم ببدء تشظيه وغرقه، ولفراغ أو ندرة ضفة الثورة من السياسيين الوطنيين، فأصبحوا بؤرة جذب لعفن الثقافة الاستبدادية وإعادة انتاجها، كما أن إيديولوجيتهم وأخلاقهم النفعية جعلتهم مصدر انقلاب، ومستنقع إفساد وتفتيت لما تبقى من زخم ثوري وأبعاد تغييرية لنظام مستبد.

فيما الدول الفاعلة بالشأن السوري وفرت لشخوص المعارضة السورية دكاكين لتلاميذ السياسة ومستثمري منظمات المجتمع المدني ومنابر للطامحين إلى السلطة، وفي الجانب العسكري حولتهم لفصائل متقاتلة على المعابر والمكاسب، ووقعت العسكرة فيما وقع فيه طلاب الزعامة ممن يسمون أنفسهم معارضة، يزعمون زورا وبهتانا أنهم مفوضون من الشعب، وما اختار الشعب ولا فوض أحدا ليمثله، وبالحقيقة ما هم إلا كومبارس ليس لهم من الأمر شيء، وما ستفرضه الدول الإقليمية والدولية فعليهم أن يقبلوا به، وإلا أصبحوا خارج اللعبة.

وأن ما يطبع سلوكيات وقرارات المتصدرين لمشهد الثورة السورية بكافة المجالات تجعل المتابع والمواطن العادي يستحضر توصيف “قوم تُبع” فالسلوكيات المعارضة تفتقر إلى أدنى مقومات الاستقلالية بينما تتقن فن التبعية، كل هذه التنازلات لقاء مصالح ضيقة لقادة انقياديين يفتقرون للإرادة المستقلة، تخضع للتعليمات تأتمر بأوامرها وتنهى بنواهيها لأنها بكل بساطة تتبع السلطة التي صنعتها ورعتها، وهناك حالات كثيرة ظاهرة للعيان دون أن تتعرض لأي حساب أو عقاب، وإنما يتم تجزيتها لضمان صمتها وإن كان ذلك على حساب المبادئ التي نادى بها الشعب الثائر والتي أصبحت تباع في سوق السياسة وبأبخس الأثمان، فالقادة والمعارضة المتصدرة في حالة تأهب مستمرة لقبول الطلب والعرض لبيع أسهم المواقف وتبديلها وتغييرها وإدراجها في خندق التمجيد والتطبيل للسلطة التي يتبعون لها.

كل ذلك أدى لغياب الفعالية في المشهد السياسي والعسكري وكذلك الاقتصادي والخدمي والتعليمي وتعيش في الانتظار والتواكلية لمن تتبع وعلى حساب مصلحة الشعب.

تبريرات واهية:

قادة ومعارضة تُبع، يعملون على نشر قيم الطاعة والخنوع، من خلال ماكيناتهم الإعلامية التي تتبع لهم لتحقيق أهدافهم وشرعنت تصرفاتهم السلطوية تحت مسوغ حماية الأمن والاستقرار وإشاعة الفوضى، وهي تبريرات واهية رهينة لطاعة عمياء لا تناقش ولا تحاور ولا تنقد، مسلكياتها الولاء والطاعة وكيل التطبيل والمدح كلازمة موسيقية لا محيد عنها لضمان البقاء والاستمرارية في نيل الرضا والرعاية والتبعية.

وبعد سنوات من الثورة السورية، لم تتشكل حتى الآن معارضة وطنية، بل معارضة تحمل من الاسم لفظه لا مدلوله، لا تعمل على تقييم عملها وسلطاتها بصورة موضوعية تستند الى الأدلة وفقا لرؤية سياسية واضحة وناضجة، ولم تستطع تقديم نفسها كبديل يهدف إقناع الشعب السوري والعالم اجمع بأفضليتها في بناء الدولة والقيادة، بل معارضة كسيحة، ولا مكان لها سوى في مواقع التواصل الاجتماعي.

وتستجدي حسم الخلافات وقضايا الشعب بطرق وأدوات معلبة وصناعة خارجية، وفي ضوء توجهات شخوصها التي لا تحترم الاختلاف وتخشى التنوع الفكري والثقافي وتميل لنماذج حزبية وسياسية ومدنية تتماهى معها وتشبهها شكلا وموضوعا وسلوكا.

فيما بعض الزعامة السياسية والعسكرية والمدنية للمعارضة السورية لا تعترف بالفشل والفساد وسوء الإدارة، وبالوقت ذاته ترفض محاسبتها على التجارب الفاشلة، ويعترض شخوصها على أي نقد، ويعقدون مقارنات غبية بين استبداد الأسد، وبين الفوضى والفساد.

وهي مقارنة بين سيئ واسوأ، وليس مقارنة تفضيلية بين أشياء مختلفة بدرجة السوء.

فنظام الأسد الذي احتكر السلطة على مدار سنوات طويلة وبجميع مفاصلها، أوجد نموذجا لانتقال السلطة من الزعيم المستبد الأوحد إلى زعامات المعارضة الفاسدة.

حتى لم يعد نظام الأسد يتحرّج من الطعن بشرعية سلطته ونتائج انتخاباته، وكل الذي يهمه ألا تخرج اللعبة السياسية عن القواعد التي وضعها للبقاء في السلطة والقضاء على الثورة، وبدعم من حلفائه روسيا وإيران التي ترعى المفاوضات بينه وبين المعارضة.

والنظام العالمي ومؤسساته لا يطلب من النظام الديكتاتوري والمتخلف أكثر من الشرعية القانونية، وبفضل تلك المعارضة التي يحسد عليها، أحسن الأسد التوازن بين مصالح الدول الكبرى والتي غضت الطرف عن كل جرائمه وعوراته.

الثورة السورية كانت إيذانا بمرحلة استبشر بها الشعب خيرا ومخرجا طال انتظاره لوضع حد لنظام مستبد حكم سوريا بالنار والحديد لعقود من الزمن، ولكن بعد سنوات من الثورة كشف عن هشاشة وانتهازية المعارضة.

في جميع الثورات الشعوب تعني الفطرة والنخب الفكر والعقل، ويأتي دور النخب لتوجيه الشعب نحو أفضل الطرق لتحقيق هدفه المنشود وبناء ما دمره النظام، ولكن الثورة السورية ابتليت بمعارضة ذات نخب بدائية الأنفس، وطن دمره الأسد وثقافتها أدنى من ثقافة الشعب وهمها الشراكة مع النظام في الحكم.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.