الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“الذكرى 13 لانطلاقة الثورة”.. هل من تراكمات ثورية، يمكن البناء عليها؟!

ملف عن ذكرى الثورة

عبد الباسط حمودة

تأتي الذكرى 13 لثورتنا السورية الكاشفة، وعالم اليوم يعيش على أصداء تغيرات دولية ومخاطر متعاقبة، نشهد فيها صراعات جيوسياسية طاحنة، في أوكرانيا وغزة والخليج والبحر الأحمر، واحتمال انفجارها في مناطق أخرى كاتساعٍ لتلك الحروب وامتدادها زمنياً، وفي ضوئها لاحظنا إعادة اهتمام بالملف السوري، باعتبار أن الإجراءات الامريكية الأخيرة كقانون الكبتاغون، ومشروع قانون مناهضة التطبيع مع آل أسد ومراوحة التطبيع العربي معهم، وانشغال روسيا بأمور حربها على أوكرانيا والعقوبات الغربية ضدها، كل هذه العوامل ليست لصالح نظام العصابة بدمشق، ولكن كل هذه العوامل، للأسف، لن تؤثر على بقاء النظام أو رحيله، فالقضية الأهم والجوهرية تتعلق بالعامل الذاتي السوري، والذي يمكنه فقط قلب الحسابات، كما فعلت المقاومة في فلسطين بفرضها على العالم إعادة القضية الفلسطينية إلى طاولة النقاشات الدولية، التي تزامنت مع موجة شعبية عالمية تؤيد حقوق الشعب الفلسطيني بما فيها إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف.

وإن لم نقتنع بأن كل جهود المعارضة السورية الرسمية لن تؤدي لتحقيق أي شيء للسوريين ما دامت سياساتها مُرتهنة لأجندات خارجية، وما دامت تتصدرها شخصيات مُلتبسة ومشكوكٌ في نزاهتها وبوفائها للثورة، وإذا لم نقتنع أن الخطابات والتصريحات الدولية والإقليمية لا يمكن أن تعبر إلا عن مصالح تلك الدول وليس عن مصالح شعبنا، كما لا يمكن للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، أن تجلب حقاً وحقوقاً للسوريين ما دامت نخبهم في هذه الحالة المأساوية، وبدون تجاوز هذا العجز القاتل سنبقى نحلم بسورية الجديدة، لتصبح أحلامنا كالسراب، لأن واقع السياسات الدولية والإقليمية يسير باتجاه آخر بعيد عن تحقيق أيٍ من المطالب المُحقة لشعبنا وثورتنا.

إن الثورة السورية تعاني من جملة عوائق خانقة، تتمثل بولاءات غير وطنية أولاً، وأجندات متوجة بعملاء وعمالة وارتزاق ثانياً، وثالثاً عجزٌ جماهيري تنموي، وثوري نخبوي لا تخطئه الأعين، وإن سورية والسوريون جميعاً ليسوا بخير، ليس فقط بسبب أفعال عصابة آل أسد المُجرمة وما جلبته من كوارث للشعب والبلاد، بل لأن فئات ليست قليلة من السوريين، خاصة ممن يتصدر المشهد المدني أو السياسي أو العسكري، تُساهم بوعي أو بغير وعي، بممارسة السياسة التي تخدم بقاء نظام الكبتاغون الإجرامي، ودليلنا هو الجواب على سؤال منطقي بسيط يطرحه الكثيرون في سورية وخارجها: ماذا لو سقط نظام آل أسد الاستبدادي، فهل هناك اليوم قوة وطنية مستعدة ومؤهلة لإدارة البلاد من أجل سورية الجديدة الديمقراطية المدنية المستقلة الحرة؟ للأسف الشديد، وبالطبع لا توجد مثل هذه القوة السياسية وكذلك لا وجود للقوة العسكرية.

لكن شعبنا- بجميع ألوانه وأطيافه- قد اكتسب خبرة واسعة للتمييز بين ما هو جيد وما هو سيء خلال مسيرة الثورة منذ 13عام خلت، وتبلور لديه شعور، مشروع، بأن مصيرنا أصبح بيد القوى الخارجية المُحتلة، وسُلطات الامر الواقع بمناطق سيطرة العصابة القابعة بدمشق ومناطق الشمال السوري، وقد اعتقد البعض بأن الشعب السوري لم يعد له قرار بعد أن باع نظام العصابة وفئته التشبيحية الطائفية الإرهابية، باع الوطن للمحتلين وللميليشيات الطائفية العابرة للدول، وبعد أن سيطر الإرهاب في إدلب، وخضعت المناطق الشمالية لسيطرة من لا يختلفون كثيراً عن عصابة آل أسد، وفي شرقي الفرات، حدث ولا حرج، إذ أصبحت المحافظات الشرقية الثلاثة مستعمرة لما يسمى حزب العمال الكردستاني وأذرعه مثل “قسد” والإدارة الذاتية، ينهبون خيراتها ويقمعون أهلها من عرب وكرد وسريان، وكلنا يعرف أن هذه الإدارة المزعومة وأخواتها هي الوجه الآخر للنظام الأسدي.

لكننا نعرف أن هناك نخب سورية، وطنية مستقلة، ولكنها للأسف مشتتة، بالرغم من أن لديها كفاءات عالية بمختلف مجالات التنمية والمعرفة، المدنية والعسكرية، ويستطيعون أن يديروا البلاد بشكلٍ رائع؛ فها هم يُقدمون أرقى الإبداعات بمختلف دول العالم، فلماذا في بلدهم لا يستطيعون ولا يقدرون؟.. ذلك لأن العلة فينا نحن، نخبنا الثقافية والسياسية والاجتماعية والمدنية والعسكرية، لأننا ضيعنا البوصلة، ولم نكن أوفياء لدماء مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمُغيبين قسراً والمُهجرين ظلماً.. الخ.

أما الشعب السوري المُبدع الخلّاق، مفجر أعظم ثورة شعبية وطنية، فهو قادر على قلب الطاولة على الانتهازيين والوصوليين والمرتهنين للخارج، وقادر على تقديم المبادرات بالقول والفعل لإحياء الثورة، التي أطلقها هو، وليس من يتصدر المشهد المُعارض زوراً ويتعيّش على حسابها، فقد تعلّم السوريون من تجاربهم السياسية المتنوعة والغنية، بأن مشكلتنا الحالية ليست في غياب التفاهمات السياسية وفي الوثائق بحد ذاتها، بل هي في بعض السلوكيات والأشخاص الذين لديهم أجنداتهم الشخصية الخاصة أو السياسية بسبب خلفيات غير وطنية أو ارتباطات معينة يحاولون فرضها على مجمل الحراك السوري، وهذا الوضع يناسب رغبات القوى الخارجية الدولية والإقليمية، التي انصاعت أخيراً لفكرة بقاء آل أسد، بالرغم من أنهم يمثلون النموذج الفاشل في إدارة حتى المنطقة التي تخضع لسيطرتهم، ولأنهم عاجزون عن تأمين أدنى مقومات الحياة الإنسانية لمواليهم، وها هي حركة الأسواق في دمشق هذه الأيام، من شهر رمضان الخير، تُمثل الأسوأ اقتصادياً منذ 50 عاماً، وذلك بسبب ما أوصلته سلطة آل أسد الفاشية إليها ولجميع بلادنا، وتشبثهم بالسلطة لأنهم يؤدون وظيفةً معينة لخدمة الأجندة الصهيو- أمريكية من جهة، والروسية- الإيرانية من جهة أخرى، وها نحن بعد 13 عام وبعد تجربة صعبة، ومُكلفة، اتضح لنا بأن القوى الوطنية والثورية الحقيقية، التي يجب أن تكون رائدة في مسيرة الثورة، تعيش أوضاعاً غير ثورية، وأن الكثيرين لم يستوعبوا دروس الثورة وأهمها بأن ما بعد 2011 ليس كما قبله في كافة المستويات والأشكال والتبعات.

ففي هذا الوقت دخلت انتفاضة السويداء الثورية شهرها السابع ومستمرة على طريق ثورة 2011 ورافدة لها أيضاً بشكل متواصل، لتتناغم معها انتفاضة إدلب بوجه ميليشيات الأمر الواقع، وتتكامل مع نداء وصرخة السويداء وجماهيرها وطلائع ثوارها وأحرارها؛ وبنفس الوقت جاء إعلان المناطق الثلاثة الصادر في 8 آذار/ مارس 2024، باسم درعا البلد- مهد الثورة السورية والرافضة حتى اليوم للانصياع لسلطة آل أسد وشبيحته- وبلدة القريا في السويداء- عاصمة الثورة السورية الكبرى التي انطلقت منها عام 1925- وريف حلب الذي يصارع من أجل تثبيت تحرره عن سيطرة النظام، ليؤكدوا بإعلانهم في يوم الثامن من آذار/ مارس- وهو ذكرى اعلان استقلال سورية عام 1920، بعد إنهاء الإمبراطورية العثمانية- كم نحن اليوم بأشد الحاجة للاستقلال الوطني الجديد من كافة الاحتلالات.

إن إدلب والشمال السوري عامةً، يمثل جميع المناطق السورية بتعبيراتها ومظاهراتها الشعبية المرافقة لاستمرار الانتفاضة في السويداء- والأخيرة تحاول تكوين وتشكيل جسم سياسي متكامل- باعتبار أنهما يمثلان نواة لجميع المحافظات السورية وصولاً لمؤتمر وطني يؤسس لعقد اجتماعي ودستور عصري علماني جديد، يمثل فعلاً إرادة جميع السوريين، ويجسد طموحاتهم في بناء دولة سورية جديدة، دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، وفق دستور عصري يكفل حقوق كافة السوريين، أفراداً وجماعات، دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الطائفة.

ولا شك أن سياسة التهجير شكلت أحد المُرتكزات الرئيسية للمشروع الإبادي الأسدي بمواجهة الثورة السورية، وحاولت ولاتزال مجاميع ميليشيا هذا المشروع الفاشي استكمال ذلك في حرب الإبادة الجماعية والتطهير التي مارستها على جميع أنحاء سورية، الأمر الذي لا يختلف من حيث النتيجة مع سياسة التهجير التي تمت في نكبة عام 1948 لأخوتنا في فلسطين بأيدي العصابات الصهيونية المماثلة لهم؛ إذاً لا بد من مراجعة نقدية لمسار ثورتنا، خاصة أن الفاتورة قد دُفع ثمنها عبر المدة منذ انطلاقتها في 15 آذار/ مارس 2011 ولم يبقَ سوى حصاد النصر المشرِف بمشاركة جميع المحافظات السورية.

أخيراً؛ الرحمة لجميع شهداء شعبنا السوري العظيم وثورته الخفاقة منذ انطلاقتها، والرحمة لجميع شهداء فلسطين بالضفة وغزة وجميع المناطق العربية السليبة المحتلة.

والحرية لجميع المعتقلين السوريين والفلسطينيين والأحوازيين، مع ضرورة الاستمرار بالسعي لإخراجهم أحياء، وإطلاق سراحهم، واستعادة حريتهم من جحيم المعتقلات الأسدية الطائفية الميليشياوية، والإيرانية الصهيونية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.