الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الثورة السورية وعجز النخب

ملف عن ذكرى الثورة

معقل زهور عدي

 بعد مضي ثلاثة عشر عامًا على انطلاق الثورة السورية لم تتمكن النخب السياسية السورية من إجراء مراجعة نقدية لمسيرة الثورة السورية في انتكاستها التي مازلنا نعايش آثارها المدمرة حتى اليوم.

   افتقاد الشجاعة الأدبية، والإحساس بالمسؤولية مازال يقف عائقًا أمام النقد الذاتي الذي لابد منه لوضع اليد على مكامن الخطأ والقصور في عمل النخب إبان الثورة السورية والذي أبعدها عن القيادة وأفسح الطريق أمام شعبوية إسلاموية تكفلت بالقضاء على طابع الثورة الأصلي الوطني- الديمقراطي.

وبدلا عن نقد الذات فقد أحالت النخب المسؤولية لتضعها على عاتق الجماهير التي ابتعدت عنها وانساقت وراء الشعبوية الإسلاموية، أما عسكرة الثورة فلم تزل مسؤوليتها موضع مراوغة بين تبرير لتلك العسكرة وبين تصوير الأمور وكأنها جاءت كقدر لا مفر منه.

وفي حين تسبب عجز النخب أثناء الثورة في افتقاد القيادة الواعية، وإفساح الطريق أمام العسكرة والشعبوية الإسلاموية لتحتل مركز القيادة وتقود الثورة إلى ما آلت إليه، فإن عجزها الحالي عن الاضطلاع بالمهمة التي لابد منها في النقد الذاتي يتسبب في تأخير الاستفادة من دروس الثورة لتمهيد الطريق أمام انطلاقة جديدة.

  وكما كتب الدكتور برهان غليون في مقدمة كتابه “عطب الذات- وقائع ثورة لم تكتمل” فبعد انهيار الخيارات العسكرية ووصولها للطريق المسدود، أصبح من الممكن والضروري للمثقف السوري إعمال الفكر في مراجعة التجربة التاريخية للثورة السورية التي أجهضها عنف النظام وقضى عليها الخيار العسكري.

أولًا؛ في أزمة القيادة:

 فالكوادر المثقفة التي برزت في المعارضة وشكلت لاحقا الناطق باسم الثورة أظهرت عجزا في القيادة السياسية، وهكذا ظهرت الثورة وكأنها بدون قيادة، لقد كانت القيادة تسير وراء الجمهور وليس أمامه.

بين الجمود الموروث عن الأحزاب العقائدية وما تركته سنوات السجن الطويلة والقمع وتصحير الحياة السياسية وبين التفاعل الحي مع نبض الواقع المتبدل وما يتطلبه من حركة سياسية فقدت الثورة إحدى أهم أدواتها وهي القيادة.

في تاريخ كل الثورات التي قدر لها النجاح هناك قيادات متمرسة تضع الخطط والتكتيكات وتكون ممسكة بالمبادرة إلى حد كبير.

في تجربة الثورة البلشفية ولحل مسألة القيادة أدخل لينين مفهوم الحزب الثوري الذي يتمتع بانضباط حديدي وتعمل قيادته كما تعمل رئاسة الأركان في الجيش، وعن طريق الحزب استطاع قيادة الحركة الشعبية نحو السلطة عبر سلسلة طويلة من التكتيكات السياسية الماهرة.

اختلف العصر اليوم، كما أن ظروف سورية بعيدة جدا عن ظروف تلك الثورة، لكن العبرة هنا في أهمية وجود القيادة المتمرسة والتي تتفق مع طبيعة الثورة.

يمكن القول إن النظام عاجل الحركة الشعبية بالإجهاض عن طريق العنف الوحشي وتصفية كل الكوادر الشابة التي بدأت بالظهور كالبراعم بعد عصر الجليد السياسي وهذا صحيح تماما.

من أجل ذلك يبقى الحديث عن الكوادر في الخارج والتي جربت شيئا يشبه التحدث باسم الثورة أكثر من قيادتها لكنها لم تنجح حتى في ذلك.

أزمة القيادة واستقالة المثقفين الشيوخ عن الاضطلاع بها واستبدال ذلك بالارتماء خلف الحركة الشعبية كانت بداية التحولات التي أسفرت أخيرا عن تصفية كل المعاني الوطنية الديمقراطية والسلمية للثورة السورية.

لا يمكن قيادة ثورة شعبية في هذا العصر بدون كوادر على مستوى العصر وعيا وثقافة، بغير ذلك ستتحول لحريق يدمر الدولة والمجتمع.

ثانياً؛ النخب السورية والخيار العسكري:

في لحظة التحول نحو الخيار العسكري برز عجز المثقفين الذين شكلوا الطبقة السياسية المعارضة، وكذلك فإن قصور وعيهم السياسي، واستسلامهم لهذا الخيار، وتبرير معظمهم له، لعب دورا في كل المراحل اللاحقة، ذلك مالم يتم التعرض له على نحو كاف ولابد من الوقوف مطولا عنده.

وكان من نتائج ترسخ الخيار العسكري أن القيادة الفعلية خرجت من يد الطبقة السياسية على نحو متصاعد، فكما يقول مكيافلي في كتابه ”الأمير”: “شتان بين رجل مسلح ورجل أعزل، ومهما كان الأمر فلن نرى رجلاً مسلحاً يطيع رجلاً أعزل وهو بكامل إرادته، ولن نرى أعزل سالماً بين أتباعه المسلحين، فمن المستحيل أن يعمل الاثنان معاً في سلام”.

ثمة علاقة داخلية بين سلمية الثورة واستنادها للحركة الشعبية وبين دور المثقفين السياسي، وحين يتم إجهاض الحركة الشعبية وظهور الخيار العسكري وتسيده للموقف يتقلص دور المثقف السياسي ويحل مكانه العسكري أو زعيم الحي أو الرجل الذي يأخذ صفة التدين بغض النظر عن ثقافته وفهمه للعصر بل ولأبسط قواعد الحرب والسياسة.

حين استسلم المثقف السوري المعارض للخيار العسكري سواء عن قناعة منه أو باعتبار ذلك الخيار قدرا مقدورا كما يحاول أكثر المثقفين عقلانية تبرير موقفهم الخاطئ في تلك اللحظة التاريخية فقد كان يسلم بوعي منه أو دون وعي مفاتيح الثورة السورية للآخرين، ويستقيل من عمله السياسي ليحجز مكانا له في إطار هامشي كسفير للنوايا الحسنة يتنقل بين الدول والمؤتمرات بدون رصيد مما جعله في موقف لا يحسد عليه من الضعف استثمره النظام بنجاح تام.

وبينما نجح المثقف السوري في إيقاد شعلة الحياة السياسية وإخراج جذوتها من تحت الرماد خاصة في الأعوام بين 2000- 2011 فقد فشل لاحقا في دوره الريادي السياسي، وكان فشله سببا مهما في انتكاسة الثورة السورية إذا أردنا التركيز على الجانب الذاتي ووضع الظروف الموضوعية جانبا في السعي لاستخراج الدروس للمستقبل.

 ثالثاً؛ الرهان على التدخل الخارجي:

 في السياسة كما في الحياة لا شيء يولد من العدم، والأخطاء الكبرى لا تحدث بدون أن يكون لها أسباب ومقدمات، وعادة ما تبدأ الأخطاء في الفكر قبل الممارسة لكن الممارسة يمكن أن تؤدي إلى تصحيح تلك الأخطاء أو تراكمها لتقطع الطريق على المراجعة والنقد.

في قيادة هيئات المعارضة السياسية منذ البداية (المجلس الوطني) كان هناك تياران رئيسيان تيار ليبرالي وتيار إسلامي، وقد ارتضى التيار الإسلامي إعطاء التيار الليبرالي صدارة المشهد واكتفى بإمساك خيوط الفعاليات الحركية من الداخل مما يعطيه هامشا أكبر في المناورة في انتظار نضوج الظرف الموضوعي.

لم يدخل التيار الليبرالي المجلس الوطني خالي الوفاض بل كانت لديه رؤيا فكرية محددة مسبقا أهم عناصرها: أن الهدف الوحيد للسوريين اليوم هو الديمقراطية والخلاص من الاستبداد.

وأن الوصول لذلك الهدف يمر عبر التحالف مع السياسة الأمريكية المعنية بنشر الديمقراطية في المنطقة. وقد تم إيضاح ذلك بصورة جلية بنظرية الصفر الاستعماري حيث أعاد الاحتلال الأمريكي العراق من مرحلة ما تحت الصفر الاستبدادي إلى الصفر الاستعماري وهو نقلة تقدمية نحو الأمام لابد منها.

وأن على الديمقراطيين السوريين الإمساك بهذه الفرصة التاريخية وعمل ما يمكن لاستثمارها في سعيهم نحو الديمقراطية.

لأجل ذلك ينبغي التركيز على كل ما من شأنه المساهمة في الدفع نحو الأمام باتجاه التحول الديمقراطي وإسقاط كل الأفكار والأطروحات الأخرى مثل الأفكار القومية.

مثل ذلك التفكير أصبح عند التيار الليبرالي شيئا يشبه العقيدة، بالتالي حين حصل الربيع العربي وأمكن إزاحة زين العابدين في تونس وحسني مبارك في مصر، وبصورة خاصة حين تدخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في ليبيا عسكريا وتم إسقاط النظام الليبي أصبحت الطريق لدى التيار الليبرالي واضحة وضوح الشمس فالهبة الشعبية السورية ستكون مسألة مؤقتة، بعدها سوف تتدخل الولايات المتحدة كما تدخلت في ليبيا.

ولكون التيار الليبرالي يتصف بالعقائدية (الدوغما) فهو لم يفكر كثيرا في الشروط الموضوعية التي تختلف بها سورية عن ليبيا في موقعها الجيوسياسي، كما لم يفكر في علاقات النظام السوري الإقليمية والدولية وشبكة الحماية التي نسجها عبر عشرات السنين.

بل لم يفكر في الشروط الداخلية السورية التي أصبح النظام فيها متماهيًا مع الدولة السورية بحيث أن إسقاطه بالعنف وبضربة واحدة يعني المخاطرة بانهيار الدولة أو الحرب الأهلية.

كل ذلك لم يكن موضع اهتمام ذي قيمة لدى التيار الليبرالي مثلما هي العقائدية في السياسة أحيانا كثيرة.

والمفارقة أن ذلك التصور لم يتأثر كثيرا عندما وضعته الممارسة على المحك.

ففي اجتماعاته الأولى مع المعارضة السورية قال لهم السفير الأمريكي في سورية السيد روبرت فورد وبطريقة صريحة للغاية:” إياكم أن تفكروا بإسقاط النظام” لكن ذلك لم يكن كافيا لمراجعة تصور كان قد تصلب كحجر.

لم يكن السيد فورد يمزح، ولم يكن يقول رأيه الشخصي، كان يعبر عن موقف الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وهو الموقف الذي لم يتغير قط، دعك من مسألة التعاطف مع مأساة الشعب السوري، أو السعي لإيجاد حلول وسط تلبي بعض مطالب المعارضة ولا تسقط النظام.

بالتالي كان يمكن لتفكير سياسي مرن وحيوي أن يستنتج مبكرا أن المراهنة على التدخل الأمريكي مراهنة خاسرة، وأن معركة الديمقراطية في سورية ستكون طويلة ومتعددة المراحل، وأن أي خيار عسكري سيؤدي إلى حرب أهلية ودمار كبير.

وبدلاً من تلك المراجعة ومصارحة الشعب بالحقائق والبحث عن مخارج واقعية فقد قاد التيار الليبرالي حملة تخوين ضد كل من لا يقول بالتدخل العسكري الخارجي وكأن الغرب والولايات المتحدة يقفون ببوارجهم على شاطئ سورية بانتظار أن يحسم السوريون أمرهم بطلب التدخل العسكري!

وبصورة متسقة فقد استقبلت عسكرة الثورة بترحيب فمهما كان التوازن مختلا بين مجموعات صغيرة تحمل أسلحة فردية وجيش من أقوى جيوش المنطقة مزود بآلاف الدبابات والمدافع والطائرات والصواريخ فإن تلك المعركة لن تكون سوى معركة مؤقتة ريثما يتم التدخل الخارجي، بل هي أيضا ضرورية لتسريع ذلك التدخل وإجبار الدول الكبرى عليه في فعل يشبه الاستغاثة كما حصل في ليبيا.

كل ما جرى بعد ذلك كان مرتبطا بتلك الخلفية من التفكير التي سرعان ما أصبحت شعبوية ولاقت صدى واسعا لدى الشباب المتحمس الذي يفتقد الخبرة السياسية.

بدلا من تبديد وهم التدخل العسكري المنقذ، ومراجعة استراتيجية النضال الديمقراطي، والتحذير من الانزلاق نحو العسكرة سلكت هيئات المعارضة الطريق المعاكس  .

وبسلوكها السابق ساهمت بفتح الطريق أمام العسكرة، لكنها بدون وعي كانت تحفر لنفسها فقد حملت العسكرة معها تلاشي نفوذ تلك الهيئات لصالح قادة الفصائل ومن يمولهم ويرعاهم.

تلك الأخطاء الكبرى مازالت تحاول النخب السورية طمسها أو تبريرها، وإحالة انتكاسة الثورة إما على النظام أو القوى الخارجية أو الأطراف الأخرى.

النخب السياسية السورية في انغلاقها على نفسها وابتعادها عن الانفتاح على الشعب ومصارحته بحقائق المرحلة السابقة ونقد أخطائها تضع نفسها عقبة في طريق أي نهوض شعبي، عقبة لابد أن يتجاوزها ذلك النهوض القادم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.