الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الثالثة والثلاثون

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثالثة والثلاثون من الجزء الأولملامح نشوء التفكير الاشتراكي(2/3)؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

 

ملامح نشوء التفكير الاشتراكي(2/3)

    ولقد جاء مصطلح «الاشتراكية» ليمتلئ منذ البداية بمحتوي نظري وبآخر عملي تطبيقي. فكلمة الاشتراكية Socialisme (سوسیالیزم) التي استعملت في فرنسا وإنكلترا في آن واحد، عبرت لدى المفكرين الاشتراكيين الافرنسيين الأولين عن إتجاه نظري يقول بالمذهب الجماعي ضد المذهب الفردي الليبرالي ويلحق الفرد بالمجتمع (حسب تعبير بيير لوروا أحد أتباع سان سيمون)، بينما عبرت عند المفكرين الإنكليز عن اتجاه اقتصادي عملي وتطبيقي، ويتلخص مفهومه في وجهة نظر أوون Owen والتي تتلخص في أن من الممكن للبشر أن يتوصلوا إلى بناء عالم اقتصادي وأخلاقي جديد بمعزل عن تدخل الدولة أو بالتمرد على انظمة الدولة، وذلك عن طريق تجميع الأفراد تجميعاً حراً في جمعيات تعاونية (ولقد قام أووين بتطبيق النظام التعاوني مباشرة على الصعيد الشعبي).

    وهذين الاتجاهين، ولو أن أولها انحصر في اطار النظريات والأفكار وانصرف عن واقع الصراع الاجتماعي، ولو أن ثانيها فشل في تجاربه التطبيقية  للاشتراكية التعاونية (عندما أغفل طبيعة تكوين الدولة والقوى الاجتماعية والنظام الإنتاجي الذي تستند إليه سلطاتها، كما أغفل مقومات الواقع والصراع الطبقي وتعارض المصالح…) فإنهما كانا حجرين من أحجار الأساس التي قام عليها بناء «الاشتراكية العلمية» التي بدأت صعودها مع أفكار ماركس وأنجلز واتباعهما..

    إننا لا نسجل هنا تاريخ الاشتراكية والتفكير الاشتراكي ، بل نسعى إلى استخلاص النقاط الأولية والانطلاقات الأساسية التي انطلق منها التفكير الاشتراكي والتي  مازالت تشكل اليوم قوام التفكير الاشتراكي المعاصر.

    قلنا إن المنطلق الاشتراكي في التفكير بدأ مع الثورة الصناعية في مطلع القرن التاسع عشر، وأن ما جاء قبل هذه المرحلة من أفكار وتطبيقات، في المجال الاجتماعي والاقتصادي، لا يصح أن يسمى أو أن يعتبر اشتراكياً، مهما تكن أهدافه ومراميه الإنسانية. ولكن هذا لا يعني أن النزعات الاشتراكية قد انفجرت هكذا من نفسها فجأة وكمجرد جواب على ظروف الثورة الصناعة وانتشار الآلة، فهي ما جاءت إلا بعد تطور ونضج في التفكير الإنساني وفي المجتمعات البشرية. فالتفكير الاشتراكي، أي التطلع إلى نظام اقتصادي واجتماعي يلغي الاستغلال، نبت في أول الأمر في مجتمعات كانت قد مرت بالثورة البورجوازية وتخلصت من نظام الإقطاع، وقوضت دعائم السلطة المطلقة وأزالت طابع القداسة والإطلاق عن التملك الفردي وعن سلطة الملوك والأمراء. فالظروف التاريخية والاجتماعية كانت قد هيأت للأفكار الاشتراكية. إن مجرى الصراع الطبقي والنضال الإنساني كان يدفع في هذا السبيل، إلى أن تركز حول هذا التصميم: تغيير الوضع الانساني عن طريق تغيير العلاقات الاقتصادية (علاقات الإنتاج) في المجتمع.

    إن تغيير العلاقات الإنتاجية، ولو أنه شرط الاشتراكية، فهو لم يكن مقصوداً في ذاته يوماً من الأيام. فالغاية الأولى والأساسية، كانت ومازالت، تحرير الإنسان وانعتاقه من الظروف التي تستبد بحريته وتضيّع انسانيته، وحياة الإنسان كانت ومازالت كفاحاً في سبيل الانعتاق والتحرر: انعتاق من الظروف الطبيعية التي تخضع الإنسان لسلطانها وتقلباتها، وتحرر من تسلط الإنسان الآخر الذي يسترقه أو يستغله أو يحجز حريته أو يحد منها. ومبدأ الحرية أن يكون الجميع أحراراً، وأن يقوم في حياة البشر توازن بين حريات تتفاعل مع بعضها وتتآزر، تنتج وتتقدم وترتقي. ولكن جاء على مر العصور، من جعلوا الحرية وقفاً على أنفسهم، أفراداً كانوا أم فئات أم طبقات. لقد ملكوا السلطة والقوة، وملكوا الثروة ووسائلها، فأصبحت الحرية عندهم حريتهم في أن يتحكموا بالآخرين وأن يستعبدوهم ويستغلوهم. إن صاحب السلطة هو الذي يضع النظم ويشرع القوانين، لتصبح حرية معارضيه، خروجاً على القوانين، وعصياناً لمشيئة السلطان، بل لمشيئة الإله. فقد كان من مصلحة المتسلطين أن يعطوا لأنظمتهم وسلطاتهم حق القداسة والإطلاق، فيعتبرونها مفروضة من مشيئة غير مشيئة البشر، وهكذا كان أن أصبحت سلطة الملك وسلطة الأمير الإقطاعي منزلة من السماء، وأصبح تملك الأرض ووسائل الانتاج حقاً مقدساً لهم ولأتباعهم وأبناء طبقتهم.

    ولقد مرت أجيال طويلة من التمخض ومن الصراع والنزاع، ولقد وجد ثائرون ومتمردون على كل نظام مضى، وكانوا يطالبون أيضاً بالتبديل ويدعون لبناء مجتمع عادل جديد على الأرض، وكان أصحاب السلطة يدينون هؤلاء المتمردين بأنهم خارجين على القوانين «الأزلية» التي يحتمون وراءها.

    وعلى مدى الأجيال تبلور مفهوم للشعب على أنه كتلة من البشر ذات إرادة وحق، وتبلور مفهوم للدمقراطية كتطبيق لهذه الإرادة على نحو ما، وتبلورت معها مفاهيم لحقوق الانسان. وباسم الديمقراطية، كإرادة لمجموع الشعب، وباسم حقوق الانسان، قامت الثورات البورجوازية (ونموذجها الثورة الفرنسية) في وجه الحكم المطلق ونظام الاقطاع. وكان نجاح هذه الثورة أنها انتقلت بالمجتمع من طور الى طور جديد، ومن نظام إلى نظام مغاير، فتبدل توزيع القوى الاجتماعية وتبدلت العلاقات الانتاجية بين الناس، ووجهت ضربة قاضية للسلطة المطلقة ولقدسية التملك، فأصبحت ملكية وسائل الانتاج وظيفة اجتماعية بعد أن كانت حقاً مقدساً لفئة من البشر. ودفع النضال العمالي الثورة البورجوازية إلى توسيع نطاق الديمقراطية السياسية فتوسع حق الانتخاب حتى شمل «غير المالكين» وأحلت البورجوازية مبدأ التطور والتعاون الطبقي، محل الثورة والصراع، واعتبرت هذا الشكل من الديمقراطية حلاً للمشكلة الاجتماعية.

    وهنا نشأت سلطة جديدة لتحل محل مندوب الإله على الأرض، محل الملك المطلق السلطة ومحل الأمير الاقطاعي المطلق التصرف. وكانت هذه السلطة أكثر وعياً لمصالحها وأقدر على تأكيدها، فهي بنت العلم والتكنيك، وحاملة لواء التقدم  وعصر النور. إنها سلطة الرأسمالي مالك الآلة وممول المشاريع، والذي يريد كل الحرية لنفسه، وأن يتصرف كما يشاء. فالرأسمالية هي العماد الذي يقوم عليه الاقتصاد الصناعي والتجاري وازدهار المجتمع وقوة الوطن وعزة الأمة… فتقدم المجتمع يقضي إذن أن تتسع مصالح «السلطان» الأرضي الجديد، وأن ينمي رأسماله ويوسع استثماراته ومشروعاته. وهو يريد دولة ترعى مصالحها و تجند الجيوش لحمايتها، وتفتح لاستثماراته الأسواق في مجالات خارجية تتسع باستمرار. انه يطالب بحريته التي تكفلها له «الديمقراطية البورجوازية»: حرية المنافسة في الداخل (أي حريته في الاستغلال والتلاعب والاحتكار)، وحرية المنافسة في الخارج، وتعنى أن تسخر الدولة نفوذها وسلطانها لحماية مصالحه فتتسلح وتتوسع وتتعدی وتستعمر…

    لقد جاءت البورجوازية بنعمة التصنيع، فعممت الآلة وأقامت المصانع الكبيرة والتجمعات العمالية الغفيرة. ولكن الآلة التي جاءت تحمل وعداً بتخفيف عناء الإنسان وبالازدهار للمجتمعات الانسانية. ما لبثت أن أصبحت بيد مالكها الرأسمالي، أداة جديدة لاستعباد الإنسان، فهل يخلق الانسان بيده أداة عبوديته?

    كانت الصرخات الاشتراكية الأولى هي الرد على هذا التساؤل. وفي هذا المنعطف من التاريخ نبتت الأفكار الاشتراكية والحركات الاشتراكية. فأمام دعاة الاقتصاد الحر، وأمام موجة الرأسمالية الصاعدة، وقفت النزعات الاشتراكية الأولى «تحلل تكوين الرأسمالية وتقترح الحلول التي تحول دون أن يصبح الجنس البشري ضحية لتقدم كان عليه أن يغمر الناس بالخيرات». فالاشتراكية هي نقيض الليبرالية الفردية، وهي ضد الاستغلال الفردي والطبقي، وهي ترى أن توزيع الثروات والمكاسب الاجتماعية والطبقية، غير عادل ولا بد من تبديله…

    وسارت النزعات الاشتراكية في طريقين، الطريق الأولى لا تبالي السياسة، وتعنى بالحلول الاقتصادية من غير أن نهتم باستلام السلطة. والطريق الثانية كانت سياسية، تسلك سبيل الضغط على السلطة أو تعمل لاستلام السلطة في سبيل التبديل الجذري للمجتمع وتطبيق الاشتراكية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة الرابعة والثلاثون بعنوان: ملامح نشوء التفكير الاشتراكي(3/3)؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.