الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الفيلم الإيطالي «اتساع»: كيف تصور الكاميرا تحت جلد النساء

آية الأتاسي *

قليلة هي الأفلام التي تأخذني إلى نفسي، فأغادر صالة السينما وحيدة وإن كنت بصحبة آخرين، حيث لا أرغب في الحديث مع أحد، بل أدخل في مونولوج طويل.

الفيلم الذي يمكن ترجمته بالعربية إلى «اتساع» L›immensità هو فيلم للمخرج الإيطالي ايمانويل كرياليز، وهو من هذه النوعية من الأفلام التي تلامس الروح عميقاً، وأعتبره شخصياً من أجمل الأفلام التي شاهدتها في العام الماضي. ومعروف عن كرياليز اشتغاله على أفلام تهتم بالمهاجرين، ويمكن القول إن هذا الفيلم يندرج ضمن هذا السياق، فهو عن هجرة الروح من جسد إلى آخر.

تدور أحداث الفيلم حول عائلة إيطالية ميسورة تعيش في مدينة روما في حقبة السبعينات من القرن الماضي. وقلب هذه العائلة هي الأم كلارا، التي تعيش زواجاً بائساً مع زوج ذكوري عنيف. لكنها تحاول الهروب من معاناتها الزوجية، عبر لحظات السعادة المسروقة مع أطفالها الثلاثة.

فالأم الاسبانية الأصل، تشعر بغربة مع عائلة زوجها الصقلية المحافظة، ولا تشعر بحريتها إلا مع الأطفال، بعيداً عن قفص الزواج الكاثوليكي وصرامة الراشدين من حولها.

وهي بهذا المعنى أم على مقاس أحلام الأطفال، فهي تلعب معهم وتتفهم مشاغباتهم، ومع أن حضورها قوي في حياتهم، لكنه حضور رقيق وخافت. وقد تميزت الممثلة بينلوبي كروز بأداء دور الأم، وكأن الدور مصمم لها. فهي، كما صرحت في أحد لقاءاتها، كانت تحلم منذ طفولتها بأن تصبح أماً، في الوقت الذي كان فيه أصدقاؤها الصغار يحلمون بأشياء أخرى كثيرة.

في المشهد الأول من الفيلم يتحول مطبخ العائلة إلى خشبة مسرح، حيث ترقص كلارا بمرح مع الأولاد، على أنغام الأغنية الايطالية الشهيرة ريموريه. ويبدو المشهد برمته أقرب للخيال، حيث الموسيقى أشبه ببساط ريح يأخذ العائلة بعيداً عن المشاكل والمنغصات، وكأن كل شيء على ما يرام، ومازال في الحياة متسع للفرح والغناء.

لكن الحقيقة ألا شيء على ما يرام في هذه العائلة، فالأب المتسلط، الذي يجري وراء مغامراته العاطفية، يترك فراغاً عاطفياً كبيراً، يعيشه الأطفال كل على طريقته. إذ تعاني الابنة الصغرى من اضطرابات في الأكل، وتتلهى عن الطعام بسرد الحكايات. بالمقابل يأكل الصبي الأوسط كثيراً، ثم يتروض وراء الباب، وكأنه يحتج على عوالم الكبار في تصرفات أقرب لعوالم الحيوانات.

أما الابنة الكبرى، أدريانا، وهي الشخصية المحورية في الفيلم، فهي تعيش مشاكل المراهقة وأزمة البحث عن هويتها الجنسية، إذ يلازمها شعور بأنها صبي ولد خطأ في جسد انثى. وتحاول بداية تصحيح اسمها، فبينما يناديها الأخرون باسم أدريانا، تقدم هي نفسها باسم أندريه. ولأن المجتمع الإيطالي في سبعينات القرن الماضي لم يكن جاهزاً بعد لتقبل الازدواجية الجنسية، يزداد شعور أندريا بالعزلة، وكأنها قادمة من كوكب آخر.

وعلى الرغم من أن اسم الفيلم «اتساع» إلا أنه نقيض للحالة التي تعيشها شخصياته في مكان ضيق ومحصور بالتقاليد العائلية والدينية. لكن الخيال يمنحهم أجنحة للتحليق بعيداً، والسماء تتسع لكل الأحلام، لهذا تحلم أندريا بأن تصبح رائدة فضاء أو قائدة طيارة. ونراها في الكثير من المشاهد تقف على سطح البناء، محاولة ارسال إشارات استغاثة إلى سكان المجرات البعيدة..

وفي حين تشعر الأم بأنها سجينة علاقة زواج فاشلة، تشعر الابنة بأنها سجينة في جسد غريب. ومن هنا يأتي أيضاً تضامن الأم مع ابنتها ومحاولتها استيعاب التشويش الذي تعيشه، رغم خوفها وتحذيرها للابنة من مغبة الذهاب إلى الضفة الأخرى. والضفة الأخرى هي مدن الصفيح، على هامش الحي السكني الفاخر، الذي تعيش فيه العائلة. وستحتاج اندريا قبل ولوجه إلى عبور حقول شاسعة، في استعارة للعبور الجنسي الذي يتوجب على الابنة أن تجتازه.

وعلى الضفة الأخر تلتقي اندريا بفتاة من الغجر الرحل، وتنشأ صداقة بين الفتاتين، تتطور تدريجياً إلى علاقة أكثر حميمية، بعيداً عن قيود العائلة والجسد والدين. ومع ذلك تبقى المراهقة عاجزة عن عقد سلام داخلي بين الذكر والانثى داخلها، فتحاول اللجوء إلى الكنيسة حيث تأخذ الكثير من المناولة، أملاً في حدوث معجزة الهية، تحيلها إلى صبي مكتمل الذكورة.

حبل سرة:

مازال هناك حبل سرة يشد مصائر الابنة والأم، وفي أحيان كثيرة تتبادلان الأدوار. فكلاهما تغردان خارج السرب. فالأم تنتمي لعوالم الأطفال، حيث تشعر معهم بحريتها، وتشاركهم طيشهم وخيالهم. فخيال الأطفال لا يخيف، كما تخيف خيالات الكبار، الذين يعتقدون أنهم أطفال.

وفي مشهد جميل تصطحب الأم أبنائها إلى السينما حيث لا حدود للخيال، ولا حدود للروح كي تسكب حزنها، وكأن عتمة صالة السينما ملاذ الأم للبكاء. كما ماكياج الوجه بالنسبة لها قناع لإخفاء آثار الدموع، وليس فقط لإبراز الجمال عند الخروج من البيت. لكن محال إخفاء جمال ممثلة كبينلوبي كروز، حيث ترصد الكاميرا في لقطات كلوز آب جمال كروز بكل تفاصيله، وهي ترسم بالكحل عينيها، أو عندما تضع أقراط اللؤلؤ في أذنيها.

إلا أن جمال الأم يتحول في أحيان كثيرة إلى لعنة، فعيون الرجال تلاحق كلارا في كل مكان، وكما تحاول الأم حماية ابنتها من عنف الأب، تحاول الابنة حماية الأم من عنف الأب وتحرش المجتمع الذكوري، وعندما تعجز عن ذلك، تطالب الأم بالتوقف عن كونها جميلة. ولعل احتياج أندريا إلى هوية الذكر، كي تتقمص دور الحامي لأمها على أكمل وجه.

فيلم أشبه بأغنية شجية:

تحضر الأم في خيالات الابنة كديفا إيطالية، وتغني معها أغاني السبعينيات الايطالية. وتظهر تلك المشاهد حصرياً بالأسود والأبيض، في محاكاة حقيقية لصورتها في الذاكرة. والجميل أن الأغاني لا تبدو دخيلة على الفيلم بل من صلبه، ومع الأغاني تطير بأندريا بعيداً إلى عالم الخيال. وكأن الفيلم أشبه بأغنية شجية.

ومن خلال الموسيقى استطاع المخرج استحضار أجواء السبعينيات في روما، بالإضافة إلى ملابس وديكور السبعينيات، وكل هذا مصنوع بحرفية فنان يعرف جيداً كيف يضفي جمالية بصرية أخاذة على كل تفصيل.

كذلك استطاع الفيلم تسليط الضوء على التناقضات المجتمعية في تلك الحقبة، حيث تختفي مدن الصفيح في العاصمة الايطالية، وتشيد مكانها مناطق سكنية فاخرة. كما تعيش المراهقة صراعها بين ميولها الجنسية والفصل الجنسي في المدرسة الكاثوليكية، وتبدو ثياب مدرستها المحافظة باللونين الأبيض والأسود على النقيض من ثياب الأم الزاهية والحارة.

ويسجل للفيلم تسليطه الضوء على الصراع الداخلي لبطلته المراهقة، لكن دون تسويق لفكرة المثلية الجنسية، بل يكشف الفيلم بحساسية عالية عن الصراع الذي يعيشه أي مهمش في رحلة بحثه عن مكان في هذا العالم الواسع. وتأتي أغنية «ايمنسيتا» في النهاية، بكلماتها: «يوماً ما، سأعرف كيف أصبح فكرة صغيرة في هذا العالم الواسع» لتختزل فكرة عبور اندريا الجنسي.

أحلام مخرج:

لقد تمكن المخرج بشفافية عالية من التعبير عن عوالم المرأة، عبر صراعات المراهقة مع جسدها وهويتها الجنسية، وصولاً إلى الأم في اختمار أنوثتها، ثم العلاقة الحميمة والمعقدة بين الأم وابنتها. وكأن الكاميرا كانت تصور فعلياً تحت جلد النساء. وربما سيزول التعجب عندما نكتشف أن المخرج نفسه كان امرأة، والطفلة ايمانويلا أصبحت المخرج ايمانويل كرياليز.

المذهل بالأمر، أن كرياليز صنع اسماً في عالم السينما الايطالية، دون أن يستخدم يوماً قضية عبوره الجنسي لكسب التعاطف، كما لم يسع يوماً إلى ركوب موجة المثلية الجنسية أو لعب دور الضحية. ولم يركب يوماً موجة المثلية الجنسية، والمرة الوحيدة التي تحدث فيها عن عبوره الجنسي، كانت عند عرض الفيلم أول مرة في مهرجان فينسيا 2022، فعند انتهاء العرض، قال الرجل الخمسيني الأصلع، وببساطة الماء:

هذا الفيلم مستوحى من حكايتي الشخصية، لقد ولدت بيولوجياً انثى، ومازالت تلك الانثى هي الجزء الأجمل مني. وكأن شهادة المخرج توحي بأن تلك الانثى هي وراء هذا الفيلم البديع.

وبلا ادنى شك أخرج كرياليز فيلمه كي يشفى ويضمد جراح طفولته، وكأن السينما كانت المنفذ نحو خلاصه، كما صرح في أحد لقاءاته: كل أحلامي ومشاريعي كانت كي أستطيع يوماً إخراج «ايمانسيتا» وأنا اليوم في الخمسين من عمري شعرت أنني مستعد لهذا الانعتاق.

قد يكون كرياليز صنع فيلمه بخبرة ايمانويل الطويلة كمخرج، وبحساسية ايمانويلا العالية كأنثى، لكن الأكيد أن الفيلم مصنوع بعيون طفل ركب ذاكرته قطعة تلو أخرى كما في لعب البازل، ثم وضعها في إطار مذهب.

وبعد انتهاء العرض، وعندما أضاءت الأنوار صالة السينما المعتمة، شعرت أن هذا الفيلم أضاء شيئاً في داخلي، وأصبحت أرى قضية العبور الجنسي بعيون أخرى، بعيداً عن الأحكام المسبقة. وعلى الرغم من موضوعه الشائك، لكن الفيلم استطاع بجمالية خالصة التحليق بي بعيداً في سماء الفن السابع، وكان صعباً عليَّ أن أعود إلى الأرض من جديد.

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.