الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الرابعة والعشرون

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الرابعة والعشرون من الجزء الأول(16). خالد بكداش 1955: أمة عربية كاملة؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

 

(16). خالد بكداش 1955: أمة عربية كاملة

وتبدّل الموقف في عام 1955. ففي الوقت الذي دعم فيه الاتحاد السوفياتي القضايا العربية بقوة وأعلن من حيث المبدأ- عطفه على الوحدة العربية، أصبح من العسير على خالد بكداش إبقاء مفهوم الأمة السورية ونظرية الأمم العربية. بل فرضت الضرورة «التكتيكية» تغيير الموقف جذرياً بعد أن ضاعت نصوص عام 1939 في عالم النسيان.

  ومما له دلالة واضحة، أن خالد بكداش قد انتهز مناسبة انعقاد جلسة البرلمان السوري المخصصة لصفقة الأسلحة التي عقدتها مصر مع تشيكوسلوفاكيا، كي يحقق التعديل المطلوب.

   ففي هذه الجلسة ألقى بكداش خطاباً ورد فيه «أن الاشتراكية العلمية تقرر… أن الأمة هي جماعة ثابتة من الناس مؤلفة تاريخياً، ذات لغة مشتركة. وأرض مشتركة وحياة اقتصادية مشتركة وتكوين نفسي مشترك يجد تعبيراً عنه في الثقافة المشتركة»، وبعد أن ألقي هذا الدرس في الاشتراكية العالمية على زملائه النواب، أردف خالد بكداش قائلاً:

«ولا بأس من القول بهذه المناسبة بأن الوقاحة بلغت بالصهيونيين اليوم درجة أنهم، بينما يدعّون أن اليهود يؤلفون قومية، ينكرون ذلك على العرب، بينما أن جميع مقومات الأمة الآنفة التي تعتبرها الاشتراكية العلمية، متوفرة في العرب، كما هو واضح وساطع كالشمس في رابعة النهار. ولنقل هنا أن هذا الاتجاه الصهيوني لنفي القومية العربية يتفق تماماً مع موقف عصابة القوميين السوريين بإنكار القومية العربية أيضاً إنكاراً تاماً، (راجع كراس «حول قضية تسليح مصر» ص7).

   والحق إن وقاحة الصهيونين والقوميين السوريين لا تعادلها سوى وقاحة خالد بكداش الذي أنكر «الشمس الساطعة في رابعة النهار»، في عام 1937وفي عام 1939وفي عام 1944وحتى تاريخ خطابه. حيث اتهم بكداش نفسه وجميع الذين ينكرون هذه الشمس بأنهم «رجعيون وعملاء أو قل مثاليون جهلاء كالنعامة التي تُخفي رأسها الخ…»

   في الواقع، من يستطيع أن يقدر المسافة الفاصلة بين تلك النعامة العمياء وهذه الشمس الساطعة?.

   وبأية أعجوبة لم يعد الوضع الجغرافي يفصل «بين سورية والجزائر» و«بين مصر والعراق» وبأية معجزة أصبح التاريخ مشتركاً? وكيف ظهر التكوين النفسي المشترك؟ الخ … والاقتصاد المشترك أيضاً!!??

    أسئلة لم يُجب عليها خالد بكداش ولن يُجب عليها في يوم من الأيام!

   وبهذه الروح ذاتها أصدرت اللجنة المركزية البكداشية، قرارها عن «الوحدة العربية» في أوائل أيار 1956، وقد جاء في مطلع هذا القرار:

«إن طموح البلدان العربية إلى وحدتها ليس وليد ظروف طارئة أو رغبة عاطفية، ولا نتيجة لدعاية فكرية قام بها حزب أو فريق من الناس، بل هو مظهر لحاجة واقعية، ونتيجة لتطور تاريخي موضوعي مستقل من الرغبات والإرادات. فان الأرض المشتركة، ووحدة اللغة والتاريخ المشترك، والتكوين النفسي المشترك الذي ينعكس في الثقافة المشتركة والأوضاع الاقتصادية التي يتمم بعضها بعضاً، كل هذه العوامل الدائمة التي تكونت تاريخياً والتي تتطور- رغم ما أقيم ويقام في وجهها من عوائق مصطنعة- في اتجاه موحد يؤدي إلى ازدياد التقارب بين مختلف أجزاء البلاد العربية، هي الأسس الواقعية الموضوعية التي تنبثق منها قضية الوحدة العربية». (كراس نحو آفاق جديدة، ص 18).

    هذا الكلام واضح كل الوضوح ولا يدع مجالا للالتباس: حاجة واقعية، تطور تاريخي موضوعي، أرض مشتركة، لغة مشتركة، تاريخ مشترك، تكوين نفسي مشترك، ثقافة مشتركة، أوضاع اقتصادية يُتمّم بعضها بعضاً(?) . إن أسس الوحدة، على حد قول بكداش، أسس واقعية موضوعية، أما العوائق فمصطنعة.. الخ … بل إن هذا الإفراط في «الواقعية والموضوعية»، قد ذهب به إلى حد إنكار دور الدعاية الفكرية والنضال السياسي الوحدوي، باسم ماركسية أنزلها إلى مستوى المادية المبتذلة.

   و بالطبع لم يكن لهذا الموقف الجديد أية قيمة عملية.

    أولاً: لأنه انطوى على إنكار دور الوعي والتنظيم والنشاط السياسي، وإرجاء الوحدة إلى أجل بعيد . ولهذا السبب، فقد جاء مشروع النظام الداخلي الصادر عام 1957 خالياً من ذكر الوحدة العربية لدى تعداده الأهداف (القريبة والبعيدة) التي يعمل لها الحزب.

   ثانياً: لأن خطة العمل العامة كانت فاسدة من أساسها. نقصد «خطة المرحلتين» التي اشتقها خالد بكداش من فهمه السطحي لمبادئ الثورة البروليتارية.

   4- أقوال مأثورة لأقطاب الحزب الشيوعي الفرنسي:

   ولقد اضطر خالد بكداش في فترة 1955- 1957، إلى إحراق ما عبد وإلى عبادة ما أحرق، أصبح الإيمان كفراً والكفر إيماناً.

    أما الحزب الشيوعي الفرنسي، البعيد عن مشاكل الوطن العربي، فلم يرَ حاجة للتعديل  والتمويه.

    وهكذا كتب ليون فيكس، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي والمسؤول في هذا الحزب عن قضايا المغرب العربي، عام 1956، في مجلة «دفاتر الشيوعية» مقالاً جاء فيه:

     «إن بعض الزعماء القوميين يدعون إلى دمج البلدان الثلاثة في مغرب عربي أو اسلامي واحد، يرتبط بجميع البلدان العربية والمسلمة، من مراكش إلى باكستان. تلك فكرة قديمة للجامعة العربية، أخذت بها مجدداً الدوائر البرجوازية القائدة في القاهرة وكراتشي. وقد بين لينين وستالين منذ زمن بعيد الصفة الطبيعية للمشاعر الأخوية التي يُكنّها الجزائريون والتونسيون والمراكشيون تجاه بعضهم. وأنه من الطبيعي أن يشعروا بعطف كبير نحو شعوب الشرق الأدنى والأوسط، بسبب وحدة الدين وتماثل اللغة، وبسبب الدعم الذي لاقوه من هذه الشعوب في السنوات الأخيرة. إلا أن ذلك لا يبّرر قيام وحدة سياسية تقف بوجهها كثير من العناصر التاريخية والجغرافية الاقتصادية وغيرها. ثمة طريق أخرى ممكنة، أو بالأصح ما زالت ممكنة بالنسبة لشعوب أفريقيا الشمالية هي طريق الاتحاد الفرنسي».

    وهذا، على وجه الدقة، عكس ما قاله خالد بكداش في العام نفسه: إن وحدة المغرب العربي- وبالأحرى الوحدة العربية- فكرة مثالية وبرجوازية يدعو إليها بعض الزعماء القوميين ودوائر القاهرة وكراتشي(?).. إلا أن العوامل الموضوعية- التاريخية والجغرافية والاقتصادية وغيرها- تقف بوجه هذه الفكرة المصطنعة.

   والطريق الصحيح لشعوب أفريقيا الشمالية هو طريق الاتحاد الفرنسي.

   وتكررت هذه الآراء بلسان عدد من زعماء هذا الحزب ولا سيما إيتيين فاجون عضو المكتب السياسي.. وثبّتها مرسيل أغرتو في كتابه «حقيقة الأمة الجزائرية» الصادر في تموز1957. وإليكم بعض ما جاء في هذا الكتاب:

    «منذ أواخر القرن التاسع عشر، نشأت ونمت في الشرق الأدنى وخاصة في مصر، تيارات مختلفة ترمي إلى تجديد الاسلام وتكييف الحضارة واللغة العربية مع مقتضيات النهضة الحديثة. وقد ولّدت هذه التيارات أفكار الرابطة الإسلامية والرابطة العربية، وهي ايديولوجيات ترتكز على مفاهيم مغلوطة تاريخياً، كمفهوم وجود “أمة عربية”(22) ذات أساس عرقي وديني».

   «إن التأكيد التدريجي للمصالح القومية الخاصة بكل شعب من شعوب الشرق الأدنى والأوسط قد ساهم في تبديد أوهام فكرة الرابطة العربية» (ص186).

    إذا كانت جميع مقومات الأمة متوفّرة في العرب، وإذا كانت هذه الحقيقة الساطعة كالشمس في رابعة النهار، لا ينكرها سوى الصهيونيين والقوميين السوريين، فأين نضع ليون فيكس ومرسيل أغرتو?

………………

الهوامش:

(22) المزدوجان من وضع مرسيل أغرتو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة الخامسة والعشرون بعنوان: (17). خالد بكداش 1959: أمة في طريق النشوء؛ بقلم الأستاذ “الياس مرقص”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.