الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الغرب وروسيا على صفيح ساخن: معركة مصالح وليس أيديولوجيات

لطفي العبيدي *

صراع روسيا مع الحلف الأطلسي من بوابة الجمهوريات السوفييتية السابقة، والارتباك الاستراتيجي الحاصل لدى الكتلة الغربية، إثر إطلاق بوتين للعملية العسكرية، بهدف تحييد خطر الناتو من الحدود الروسية، أظهر أوروبا، المتحدة اقتصاديا، كما تحاول أن تظهر، ما تزال تبحث عن هويتها السياسية، تتذيل القوة الأمريكية في كل المناسبات. وتسير وراءها على حساب مصالحها، وارتدادات ما تندفع نحوه بحماسة ببغائية، على شاكلة عقوبات وأشياء من قبيل الحسابات الخاطئة والتخلخل الاستراتيجي.

يحدث ذلك رغم أن هذا الوضع يتم على حساب مصالحها مع القوى الكبرى المنافسة لواشنطن، وتحديدا روسيا والصين اللتين تدفعان نحو نوع من التوازن في إدارة العالم، والحد من التفرد الأمريكي في الممارسة السياسية، والحضور العسكري. وفي الوقت الذي تحتد فيه العلاقات غير المتناسقة بين المشاركين الدوليين، تزداد المعايير المزدوجة في القراءات المنتقية، والتفسيرات المغرضة لحقوق الإنسان، وبات جليا الاستعمال الوقح لهذه المفردات التي استطاع الغرب الإمبريالي أن يخفي وراءها ذاتيته ومصلحته الخاصة.

المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي، تختفي حين يتعلق الأمر بالدول النامية والفقيرة، وبعض الغربيين تحدثوا عن «أوكرانيا أكثر تحضرا من العراق وأفغانستان». والكثير من الكلام الذي قيل في سياق العملية العسكرية الروسية، يكشف زيف مقولات حقوق الإنسان التي يدعونها. وفي لحظات تاريخية بعينها تنكشف الممارسات العنصرية الهجينة، والتمركز على الذات، ويصبح من المسموح به تداخل السياسة مع الرياضة أيضا، وازدواجية المعايير، تحكم كل شيء، ولا يدركون خطر تسعير الحرب، أو أن يُدفع بدولة في حجم روسيا خارج المجتمع الدولي بهذا الشكل المتهافت غير المدروس. هناك من لا يرضى بتعدد الأقطاب، أو بظهور بوادر التوازن الدولي، ويرفع المكافأة التي تُدفَع لقاء التبعية. وكثيرا ما استثمر في العمل العسكري وليس الدبلوماسي، وهي واقعية تفضح الأداء الاستراتيجي الهزيل، الذي لا يتجاوب بشكل وازن مع القضايا الدولية، ولا يبحث عن الندية والتعامل المجزي، في عالم ما زال يسوده منطق القوة. ويعكس التوظيف غير الموضوعي للمرجعية الدولية، والرغبة في الإبقاء على التفوق الغربي، والتحكم في الآخر وتركه في حالة الاعتماد على الإحسان الدولي. ويبدو أن الدول الأوروبية اعتقدت أنها لن تكون ساحة لحرب أخرى، وتفاجأوا بخطوات بوتين، خاصة قراره بوضع قوات الردع الاستراتيجي في جاهزية قتالية. وأصبحوا يفكرون الآن في ميزانيات دفاع. فحلف شمال الأطلسي، هو من وضع أوكرانيا مخلب قط على حدود روسيا. وهو الذي أُنشِئ لحماية أوروبا الغربية من تمدد الاتحاد السوفييتي. وهذا الحلف العسكري المعادي لموسكو، لم يتم حله، ولم يقلل وجوده حتى بعد انهيار اتحاد الجمهوريات الشرقية، بل توسع ناحية الشرق، وأصبح قوة تدخلٍ عالمية تحت قيادة أمريكية. ومهمته الرسمية هي السيطرة على نظام الطاقة في العالم، عبر الممرات البحرية وخطوط الأنابيب وتنفيذ ما تُحدده قوى الهيمنة العالمية. وخط نورد ستريم 2، شغل بال أمريكا وقض مضجعها، وطالما رغبت في وقف تنفيذه، وسارعت هذه الأيام لوضعه كملف أول على لسان بايدن. وليس أمام الغرب اليوم سوى مزيد الضغط على بوتين عبر سياسة العقوبات والتدجين الإعلامي وشيطنة النظام في موسكو. وهي مجرد إشارات معنوية قد لا تؤثر في مسار الأزمة التي يتمسك الكرملين بتحقيق أهدافها، معززا بتحالف استراتيجي ودبلوماسي مع بكين، وليس أقل من الاعتراف بالقرم وإعلان حياد كييف، وطي فكرة تقاربها مع الناتو لإنهاء النزاع الأوكراني.

الأمور اتخذت منحى آخر غير المنحى المقرر في نظريات التجارة الخارجية الحرة، فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى الآن، لم تؤد الاتفاقيات التجارية التي تم فرضها على البلدان المستقلة ما كان متوقعا منها، أي تعزيز النظام السياسي وتطعيمه بالأسس الليبرالية، بل أدت تدريجيا إلى إضعافه، ومن ثم إلى انهياره تماما، واتسعت حركات التمرد، وكانت ثورة الهند عام 1857 أولى هذه الحركات، إضافة إلى ما واجهته الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الكاريبي وفي أمريكا الوسطى، وانتهجت فيه سياسة التدخل العسكري. والعقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا ستتضرر منها بلدانه في المقابل، خاصة ألمانيا. وأمريكا هي المستفيدة من حصيلة جيوسياسية واقتصادية، تستنزف روسيا عسكريا واقتصاديا، وتضر بالاتحاد الأوروبي ماليا وتجاريا. فهي ترغب في بقاء نظام بريتون وودز، ومبدأ مونرو، وبالنسبة لنظام سويفت للتعاملات المالية المصرفية الذي يواجه مخاوف ألمانية بشكل خاص، تدفع واشنطن باتجاه فرضه كعقوبة على موسكو، رغم كونه سلاحا محفوفا بالمخاطر لجهة تداعياته التي قد تطال في الوقت نفسه الدول الأوروبية، التي تربطها علاقات اقتصادية واسعة مع روسيا الاتحادية. في الظاهر حاولوا تقديمها على أنها قضية أيديولوجية، رأسمالية مقابل اشتراكية. وبموجب ذلك تم استيعاب الدول التي كانت تنتمي للمعسكر الشرقي من قبل الرأسمالية الغربية، بشكل تُرجم في التحول السريع لمعظم دول أوروبا الشرقية إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، من دول اقتصاديات التخطيط إلى اقتصاديات حرية السوق وسلوك المجتمع الاستهلاكي. لكن حقيقة الصراع هو حول منافسة جيوسياسية ونفوذ وهيمنة، وعدم رغبة أمريكا في بقاء روسيا كقوة، منافسة ومربكة لقواعد السيطرة التي وضعتها الولايات المتحدة، المستفيدة من نتائج الحرب العالمية. والتي ظنت أنها أغلقت ملف الاتحاد السوفييتي إثر نهاية الحرب الباردة وتفكك المعسكر الشرقي. وكييف تدفع الثمن دون شك، نتيجة خداع أمريكا لها، وانسجامها مع المحاولات الغربية لاحتواء الدول المحسوبة على حديقة موسكو الخلفية وفضائها الجيوستراتيجي.

أوروبا اليوم، تقف أمام مستقبل فيه الكثير من الاختلاف والتناقض، في سياق التحولات العالمية، والاستراتيجيات الدولية، وبعض دولها التي لديها ماضٍ استعماري مخجل، ما زالت تسيطر على مقدرات الدول الافريقية، وتنهب ثرواتها. وتاريخ أوروبا الاستعمارية الذي لا يمكن أن يُمحى، يمنع دولها من إدانة إسرائيل وسلوكها الاستيطاني الذي لا يخرج عن إطار تلك الصيغ الاستعمارية التقليدية. وليس ذلك بالأمر المستغرب على الغرب الذي يمارس سياسة الكيل بمكيالين، وفق ازدواجية في المعايير. فمبدأ حق تقرير المصير القومي كان حِكرا على أوروبا والنخب البيضاء في أمريكا. ومع الحرب العالمية الأولى، أصبح إعلان حق تقرير المصير مبدأ عالميا، وتدعّم خاصة بقيام الثورة البلشفية بطابعها الراديكالي في روسيا عام 1917، وفي أمريكا بصيغة ليبرالية على يد وودرو ويلسون بداية من 1918. لكنه إلى الآن يخضع بدوره إلى منطق الازدواجية وغلبة المصالح. وإلا كيف لهذا «العالم الحر» أن يحتفل في كل عام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبالقضاء على العنصرية، في حين لا يزال المقدسيون يعانون بشكل يومي من سياسات التمييز التي يمارسها الاحتلال بحقهم، في مختلف أوجه الحياة. وحي الشيخ جراح عنوان عنصرية استيطانية لا يتفاعل معها العالم الغربي، ولا ينظر إلى ما يجري في الشرق الأوسط عامة بالمعيار نفسه الذي يدعيه، وهو الذي يتباكى كثيرا على حقوق الإنسان خاصة هذه الأيام.

وكل ما يحدث هو حصيلة جيوستراتيجية تساهم في اضطراب السياسة العالمية، وتزيد من مخاطر حدوث الحروب وانعدام الأمن، على نحو يعمق انحرافات السياسة، والرؤية البراغماتية الضيقة، ويتم ذلك على حساب التجانس العالمي والتقارب بين الأمم والشعوب.

* كاتب تونسي

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.