الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أوكرانيا وحيدة بين أنياب بوتين

بكر صدقي *

كانت مسرحية اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي جديرة بفلاديمير بوتين الحالم باستعادة أمجاد الأباطرة الروس، تلاه خطابه المتلفز «إلى الأمة» الذي أعلن فيه اعترافه باستقلال «الجمهوريتين الروسيتين» المقتطعتين من أوكرانيا، مدركاً أن العالم كله يصغي إليه بصفته قائد الدولة العظمى الند للولايات المتحدة كما حلم طوال العقدين الماضيين.

جلس أعضاء المجلس المذكور على كراسٍ بدون طاولة تجمعهم مع بوتين، على شكل قوس كبير، فيما استقر الأخير وحيداً في مواجهتهم، يستدعيهم واحداً وراء الآخر ليجيبوا على سؤاله عن رأيهم بشأن ما ينبغي أن تفعله روسيا في موضوع أوكرانيا، ويحصل على موافقتهم على الخطوة التالية.

الاجتماع الذي كان واضحاً أنه يُبثْ من شريط مسجل تم تقديمه على أنه بثٌ حي، ليس لوهم روسي بأن العالم سيصدق ذلك، بل لفرض هذه الكذبة على العالم الذي لا يملك خيار تكذيبه. سلوك نموذجي لأنظمة دكتاتورية اعتادت على بث رسائل مزدوجة تنفي إحداهما الأخرى، على مبدأ: «تعرفون أنني أكذب، ولكن ليس أمامكم خيار آخر غير التظاهر بتصديق الكذبة المكشوفة» بالكذب يخلق الدكتاتور عالماً موازياً للواقع، ويكرسه بقوة الأمر الواقع.

غير أن الهدف من وراء هذه الكذبة هو تقديم نموذج للعالم هو النموذج الروسي. وعلى رغم اندثار الشيوعية كإيديولوجيا حكم في روسيا السوفييتية البائدة، فاجتماع الأمن القومي المذكور يشبه اجتماعاً للمكتب السياسي للحزب الشيوعي كـ«عمق» حاكم للدولة فوق المؤسسات الظاهرة كالحكومة والبرلمان وغيرها، والمكتب السياسي «الحاكم» هذا لا يعدو كونه جهازاً تابعاً للدكتاتور الفرد الذي يقبع فوق قمة الهرم، تماماً كحال مجلس أمن بوتين الجالس أمامه بخشوع التلاميذ أمام أستاذهم في الصف. كل ما سبق ليس فيه جديد لا يعرفه العالم عن نمط الحكم البوتيني في روسيا، لكنه أراد ان يوثّق هذا «النموذج» بالصورة والصوت ويعلنها على الملأ بمناسبة الغزوة الجديدة في شرق أوكرانيا. والمقصود بهذا التركيز على فكرة النموذج هو وضعه في مواجهة النموذج الديمقراطي في الحكم بوصفه أرقى ما توصلت إليه البشرية من أشكال الحكم، على رغم كل ما يمكن أن يؤخذ عليه من نواقص. روسيا التي تخلصت من إرثها السوفييتي احتفظت منه بوجهه الأقبح: الحكم السلطوي الدكتاتوري، وبجهود بوتين الخاصة تمت استعادة حكم الفرد على الطريقة الستالينية، ليضيف عليه في السنوات الماضية العمل على إعادة الشعوب التي استقلت في دولها الخاصة إلى بيت الطاعة أو «سجن الشعوب» على ما كانت تسمى روسيا القيصرية في الأدبيات الماركسية المبكرة قبل ثورة أكتوبر 1917 وقيام الاتحاد السوفييتي.

إذن نحن أمام دولة تسيطر عليها أوليغارشية جشعة، ويقودها حاكم فرد، لديها طموحات توسعية، تضرب عرض الحائط بالأعراف الدولية، لا تخفي أطماعها الإمبراطورية، محرومة فوق ذلك من غطاء أيديولوجي يمكن تصديره كالشيوعية أو الليبرالية. فالأيديولوجية القومية الروسية تخص الروس وحدهم، ولا يمكنها كسب تيارات مساندة خارج روسيا، لكن النموذج السلطوي الروسي يلهم قادة دكتاتوريين في «العالم الثالث» وزعماء شعبويين في الغرب الليبرالي. من هذا المنظور تكتسب مسرحية اجتماع مجلس الأمن القومي المشار إليه أهميته.

كل هذا مفهوم حين نقتصر في حديثنا على بوتين وحاشيته المقربة، فليس هناك ما يفاجئنا في هذه التفاصيل. ولكن ماذا عن عامة الروس؟

فعلى رغم وجود بعض الأصوات المعارضة، ويتم خنقها أولاً بأول اغتيالاً أو اعتقالاً أو غيرها من التدابير الغاشمة، يتمتع نظام الرئيس بوتين وسياساته في الداخل والخارج بشعبية لا يمكن نكرانها. وهنا تتوارد إلى الذاكرة روسيا في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي حين أطلق القائد الشيوعي السوفييتي غورباتشوف برنامج عمله الطموح المسمى «بيروسترويكا وغلاسنوست» (إعادة البناء والشفافية) في أعقاب عقود من نظام شمولي مغلق. ففي ذلك الزمن شهدت روسيا مناخاً من حرية التعبير طال انتظار الناس له، وكأن الشعب خرج من سجنه المؤبد وأخذ يتنفس الحرية. وبصورة طبيعية كان الطموح الطاغي هو إلى نظام ليبرالي ديمقراطي يحاكي النموذج الغربي. ثم أفلتَ الزمام من يد السلطة، وعادت الطبقات ذات الامتيازات في ظل النظام الشيوعي إلى المسرح مجدداً على شكل لصوص يستولون على غنائم حرب، وسرعان ما تحولوا إلى أصحاب ثروات هائلة استعادوا بها السلطة مجدداً من خلال ممثليهم السياسيين، وآخرهم فلاديمير بوتين الذي استطاع أن يقدم نفسه كـ«منقذ» للدولة الروسية بعد فترة الاضطراب والفوضى التي سادت قبله.

أين تبخر إذن توق الروس إلى الحرية؟ ألا يتحمل الغرب مسؤولية كبيرة في هذا التحول؟

الولايات المتحدة، بصورة خاصة، تصرفت كالمنتصر على روسيا في نهاية الحرب الباردة، لتعلن نفسها القوة العظمى الوحيدة، الأمر الذي استثار الشعور القومي الروسي مع كبرياء جريحة. هذه هي الوصفة المثالية لصعود النموذج السلطوي البوتيني.

كان من شأن تعامل حكيم مع روسيا ما بعد السوفييتية أن تغير من مجرى التاريخ في روسيا والعالم. الآن تدفع أوكرانيا ثمن السياسات الأمريكية، يضاف إليها هذا التعامل بخفة مع الأزمة الحالية، بين تهويل من احتلال عسكري روسي لأوكرانيا وجعبة خاوية من أي رد رادع سوى التلويح بعقوبات يعرف الجميع عدم فعاليتها.

بالنظر إلى سياسة بوتين، في السنوات الماضية، تجاه الدول المجاورة التي استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبخاصة تجاه جورجيا وأوكرانيا، من المحتمل أن بوتين كان يريد الاكتفاء الآن بالمقاطعتين الأوكرانيتين اللتين أعلن اعترافه باستقلالهما، ليعاود الكرة بعد حين نحو هدف جديد.

لكن هزال الموقفين الأمريكي والأوروبي قد يشجعانه الآن على مواصلة حملته غرباً، ومن يدري؟ لربما تقوده حساباته إلى أن غزو جميع الأراضي الأوكرانية لن يكلفه شيئاً. خطابه المتلفز يمهد لهذا الخيار، حين ينكر على أوكرانيا صفة الدولة ويعتبرها من صنع لينين، وتدين لروسيا بمليارات الدولارات!

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.