الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة السابعة والثلاثون

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة السابعة والثلاثون من الجزء الأولثانياً(1)– تشخيص بعض الجوانب السلبية في تجربة البعث؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”

 

ثانياً(1)– تشخيص بعض الجوانب السلبية في تجربة البعث

    ما هي أسباب هذا الفقر الإيديولوجي ولماذا استمر?! وكيف تجسد هذا الفقر في واقع الحزب من حيث تركيبه الاجتماعي وأساليب نضاله ومواجهته للواقع؟

    وفي هذه الفقرة سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة، محاولين تشخيص بعض الجوانب السلبية في هذه التجربة.

  • شعارات بلا نظرية

    إن أي تيار يساري، باعتباره تيار تحويل اجتماعي، يجب أن يكون لديه مفهوم واضح محدد لهذا التحويل، سبله ووسائله ومرتكزاته. ويتكون هذا المفهوم من دراسة وتحليل الواقع الذي نعيشه ونناضل بغية تغيره، على أن ينير معطيات هذه الدراسة النظريات التي تلخص وتعمم التجارب النضالية في العالم. إن الجمع بين النظرية والممارسة، الجمع بين التجربة الخاصة والتجارب الإنسانية هو وحده الذي «يستطيع أن يعطي الحركة الثقة وقوة التوجه وإدراك الصلة الداخلية للحوادث الجارية، هو وحده الذي يستطيع أن يساعد النشاط العملي على أن يفهم ليس فقط في أي اتجاه وكيف تتحرك الطبقات في اللحظة الحاضرة، بل كذلك في أي اتجاه وكيف ينبغي أن تتحرك في المستقبل القريب».

ياسين الحافظ

    فهل استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي أن ينهض بمثل هذه المهمة?

    في نشرة عنوانها (حول الاشتراكية العربية)، أصدرها حزب البعث عام 1951، يؤكد الكاتب أن البعث العربي «حركة أصيلة لا تقبل التقليد»، واذا نحن ضربنا صفحاً عما في هذا الكلام من تزمت ورومانتيكية (باعتبار أن التراث الفكري والنضالي هو إرث مشترك لجميع الشعوب، وأنه لم يعد باستطاعة أحد أن يعيش في عزلة دون أن يؤثر ويتأثر)، وإذا ربطنا هذه الفكرة بتركيز أنظار الحزب على الجانب السلبي من التجربة الروسية وانعزال الحزب عن التيارات الاشتراكية في العالم، ورُحنا نستقصي النتائج العملية لمثل هذه الفكرة، لتبين لنا ما يلي:

   آ – عاش حزب البعث طوال تاريخه بعفوية، فهو إذ اكتفى بتلخيص الأهداف الكبرى للنضال بالوحدة والحرية والاشتراكية، دون أن يحاول تلمس الطريق- بكل ما في هذا الطريق من تفاصيل وانعطافات والتواءات- عاش في تخبط تجريبي طوال فترة نضاله. لقد كان الطريق إلى تلك الأهداف الثلاثة حلماً غير محدود المعالم بالنسبة إليه، لهذا وبالرغم من الطابع الثوري الذي نتلمسه في بعض ما يصدر عن الحزب من مقالات سريعة وعامة، فإن الحزب نظراً لأنه لم يتصد لصياغة منهج نظري يكون دليله في العمل، ترك تخومه الفكرية والتنظيمية مُنسابة غامضة، وتورط في مواقف انتهازية وإصلاحية، لأن الربط بين تلك الشعارات الثورية وبين أسلوب العمل لها وأداة هذا العمل، لم يكن واضحاً ومحدداً، مما سهل الطريق أمام تلاعب العناصر الانتهازية في الحزب.

   ب – تبعاً لمنطق عدم القبول بالتقليد، اتخذ الحزب موقفاً سلبياً تجاه التجارب الثورية والنضالية في العالم، واتخذ بصورة خاصة، موقف العداء الحاد والرفض الكامل للتجربة الروسية، فلم ير إلا جانبها السلبي (كما أن الشيوعيون لم يروا إلا جانبها الإيجابي)، وباسم «الخصائص القومية» وُضعت «الاشتراكية العربية» ، في موضع التناقض والتعارض مع التجارب الاشتراكية في العالم (مع أنه لم يجرِ حتى الآن أي محاولة لتوضيح مضمون وملامح الخصائص القومية للشعب العربي وأثرها على الاشتراكية العربية)، وهكذا وبالتذرع بالشروط الخاصة بالشعب العربي أضاع الحزب إمكانية الاستفادة من أعمق وأقوى التجارب الثورية في العصر الحديث.

    إن الخصائص القومية ليست «سوراً صينياً» يعزل الأمم عن بعضها، ليست هُوى سحيقة تباعد بين الشعوب وتمنع التفاعل بينها، هنالك ما يسمى بالجوهر الإنساني العام، بالسمات الإنسانية المشتركة، التي تخلق خطاً عاماً مشتركاً موازياً لاتجاه التطور، إلا أن هذا المجرى ليس ضيقاً ومحدداً كما تحاول المذهبية الجامدة تصويره. لذا فان التذرع بـ«الخصائص القومية» لإنكار التجارب الثورية في العالم ورفضها لا يقل غباءً عن الخربشات المذهبية التي تغلق عينها عن الواقع  الملموس وتحتقر التجربة الذاتية للشعب وتنتقل من النص إلى الواقع لتُفسره وتُزوره.

    إن الخصائص القومية والشروط القومية والظروف الخاصة بالشعب العربي لا تغير جوهر الاشتراكية (وهو إلغاء الاستثمار كلياً)، ولا تجعل هذه الاشتراكية مختلفة من حيث مضمونها بين شعبٍ وآخر، بل تخلق سبلاً خاصة متميزة للانتقال نحو الاشتراكية؛ كما أن هذه السبل لا بد أن تكون مختلفة، لأن الطريق لبناء الاشتراكية لا يتبع خطاً مستقيماً محدداً، بل سيتحدد وفقاً لعلاقات القوى الطبقية ومستوى الاقتصاد في المرحلة السابقة للاشتراكية وحسب البناء السياسي والتقاليد والوعي الاجتماعي للشعب، وتبعاً لهذا ستتنوع وتيرات الانتقال ومراحله وأساليبه، وسيتنوع التنظيم السياسي للسلطة والنظم والأساليب التي ستتبع إلغاء إطار الاستثمار ونظمه.

    «إن كل شعب سيعتمد على تجارب الآخرين في بناء الاشتراكية، ولكنه يضيف إلى التجربة المشتركة تجاربه الخاصة، وبذلك تزداد الاشتراكية خصباً ونماءً».

    جـ – إن الحزب- بسبب غموض مرتكزاته النظرية- لم يأخذ في نموه شكلاً متجانساً مرصوصاً، فبقي التنظيم والانضباط الحزبيين ضعيفين، وتخللته الفجوات الفكرية والتنظيمية، فأخذ الحزب يهتز عند كل أزمة، إلى أن انفجر عندما جابه قضية الانفصال. وبالإضافة إلى ذلك فإن الغموض النظري قد ساعد على استفحال خطر الانتهازية الإصلاحية في الحزب (لأن فقدان المرتكز النظري يفتح للانتهازي مجال المناورة الرخيصة، ويتيح له فرص التقلب مع الظروف  والأوضاع)، كما أنه موّه النضال الداخلي في الحزب وحوله إلى نضال شخصي، في الظاهر على الأقل.

    د – حقاً إن هناك بعض الحركات اليسارية (غير الشيوعية) التي تُغمض عينيها عن تجارب الشعوب الأخرى، إلا أنها تصدت لدراسة المجتمع الذي تناضل فيه وحللت واقعها الملموس، وعممت تجاربها الذاتية المباشرة، ولها مفهومها المحدد للمجتمع الاشتراكي، وهي تحاول أن تضع تفسيراً للتطور المحتمل للمجتمع. إلا أن حزب البعث قد رفض كل محاولة من هذا القبيل لأن «كل تفلسف وتعقيد في رسم خطوط المجتمع المقبل هو مناقض لنظرة البعث» (نفس الكراس)، فمهمة البعث هي «إيصال العرب إلى وضع سليم في الفكر والشخصية كأفراد وكمجموع، وهذا الوضع السليم بدوره يُوجدُ لنفسه الأشياء الملائمة لشخصيته» (نفس الكراس) وهكذا يحسم حزب البعث المشكلة بالهرب منها والقفز من فوقها ويريح نفسه من عناء أي جهد بالبحث والدرس؛ وفي هذا المجال يبدو أن حزب البعث ليس حزباً تجريبياً فحسب، بل هو حزب عفوي يرفض كل تفكير نظري، فلم يهتم  بأسلوب الوصول إلى هذا «الوضع السليم في الفكر والشخصية» ولم يهتم بدراسة تجربته الخاصة، ولم يحاول بالتالي أن يفسر التطور المحتمل للمجتمع العربي، فسار وهو لا يرى سوء مواطئ قدميه مترنماً بالوحدة والحرية والاشتراكية.

۲ – اشتراكية البورجوازية الصغيرة

    فيما يتعلق بموضوع الاشتراكية، انطلق الحزب من مفاهيم خيالية وبورجوازية صغيرة، فاعتبر الاشتراكية «مجرد تنظيم اقتصادي عادل وسليم للمجتمع العربي» (نفس الكراس). لسنا الآن بصدد مناقشة هذه الموضوعة، وإنما حسبُنا أن نقرر هنا أن هذا المفهوم الضيق والجزئي والسطحي للاشتراكية قد ولدَ غموضاً والتباساُ في أساليب نضال الحزب، وهو بالتالي قد أدى إلى رفض صريح لفكرة الصراع الطبقي، باعتباره «عامل فُرقة ومنازعات داخلية» (نفس الكراس).

    في الظروف الراهنة، أصبح هذراً وسذاجة التحدث عن اشتراكية خارج- الطبقات، باعتبار أن الصراع الطبقي في المجتمع العربي الراهن (سواء على صعيد داخلي في كل قطر أو الأقطار العربية بين بعضها) والفكر الاشتراكي، قد تخطى الاشتراكية الخيالية التي تنتقد المجتمع الرأسمالي وتدينه وتلعنه دون أن تعيّن بوضوح المخرج الحقيقي من هذا المجتمع، ودون أن تحدد القوى الاجتماعية المُلزمة بحكم وضعها الطبقي بأن تصبح القوة القادرة على هدم المجتمع القديم القائم على الاستغلال والتخلف وبناء المجتمع الجديد الاشتراكي المتطور.

    حقا انه النضال العملي لحزب البعث وتجاربه قد تخطى اشتراكية خارج- الطبقات، إلا أن خرافة تجنب «عوامل الفرقة والمنازعات الداخلية» قد تركت آثاراً عميقة على ملامح الحزب، وأول هذه الآثار وأخطرها هي أن الحزب لم يركز جهوده في الأوساط التي تَعتبر الاشتراكية قضيتها الخاصة الملحة، فلم يصرف الحزب اهتماماً جدياُ دائماً على تنظيم الطبقة العاملة، لذا بقي طابع الحزب العمالي شاحباُ وهزيلاً؛ ورغم أن الحزب- في مناطق عديدة في سورية- قد استطاع أن يتغلغل بين جماهير الفلاحين (بما فيهم الفلاحين الفقراء والعمال الزراعيين) إلا أن الهيكل العام والإطار الأساسي للحزب في الريف تميز بالطابع الوسطي، فقد كانت ركائز الحزب وملاكاته مؤلفة من عناصر «غير مالكة- وغير كادحة» (دكنجي القرية- إمام القرية- ابن أحد وجهاء القرية- المرابع- المزارع الصغير)، أما في المدينة فقد كان الطابع البورجوازي الصغير أكثر وضوحاً وشمولاً (موظفين، مثقفين، ذوي مهن حرة، حرفيين الخ…). وقد انعكس هذا التركيب على مفاهيم الحزب وأساليب عمله ونضاله (وفي تنظيمه المهزوز وانضباطه الضعيف) فدفع الحزب إلى مواقف تؤمن المصالح المباشرة والقريبة لهذه الفئات، فبهتت جذوته الثورية وخَبَت، تلك الجذوة التي كنا نتلمسها في خطوات الحزب الأولى، كما أن هذه الفئات كيفتْ اشتراكية الحزب وفقاً لتصوراتها ومفاهيمها الخاصة، فحبستها في إطار بورجوازي صغير.

                                  ٣ – البيروقراطية أم الجماهير؟

    إن النشرات  التي يصدرها الحزب، تؤكد صفته الشعبية، وهذا يعني أن الحزب يؤمن  بأن الجماهير الشعبية هي، بالأساس، التي يجب أن تتولى قضيتها الخاصة، وأنها بالتالي ستحرر نفسها، وبالفعل فإن هذا هو السبيل الحقيقي لجدية الثورة وجذريتها، وضمان لنجاحها واستمرارها أيضاً، وهذا يعني أن الحزب يتجنب الطريق «البلانكي» للثورة، طريق حفنة من المتآمرين المتحمسين الطليعيين، ذلك هو المعنى الحقيقي لـ«شعبية» الحزب، أما سلوك الحزب العملي فقد سار في طريق آخر، فلم يُظهر الحزب ثقة كاملة باقتدار الجماهير وثورتها، وهذا هو التفسير العميق لتعاون الحزب مع البيروقراطية العسكرية. فمن لا يثق بالجماهير الشعبية سيتخطاها، ومن وراء ظهرها وبمعزل عنها يتوهم أنه سينقذها.

    إن الانتهازية في العمل السياسي تنبع من احتقار الجماهير وعدم الثقة بها، وأن الزعم بإمكان إنقاذها من الأعلى، هو أمر يُكذبه التاريخ، ويجفوه الواقع كل يوم، وأن قضية الثورة هي دوماً وبالأساس، قضية تنظيم الجماهير الشعبية الكادحة، هذا جانب من الموضوع، أما الجانب الآخر، فهو أن التعاون مع تلك البيروقراطية يفضح جدية الاشتراكية التي ينادي بها الحزب. لأن هذه البيروقراطية بالأساس، وبحكم تكوينها العقلي ومفاهيمها التسلسلية وطابعها الاجتماعي، لا يمكن أن تتبنى قضية الجماهير الكادحة بصورة حاسمة وإلى مدى بعيد. فهي، بالأساس، وكإطار عام، قوى مُحافظة، وهي في أحسن الظروف ملائمة قوی وسطية.

    ان ما يفضح الطابع الرخيص لهذا التعاون، هو أن اللعب بهذه البيروقراطية, لم يكن يوماً لعباً ثورياً جذرياً، بل كان دوماً لعباً انتهازياً وصولياً، فقد كان يُستخدم كـ«فزّاعة» للقوى الرجعية، كعنصر مكمل لـ«اللعبة البرلمانية» كسبيل لاحتلال مركز الصدارة في المسرح السياسي البورجوازي- الرجعي(5) لقد كانت هذه اللعبة بمثابة أصوات إضافية، غير منظورة، في البرلمان، فالعدد قليل على المسرح، ولا بد من زيادته من وراء الكواليس.

    إن على القوى الثورية أن تناضل لإبعاد هذه البيروقراطية عن المسرح السياسي نهائياُ وإعادتها إلى وضعها الطبيعي كجهاز عادي من أجهزة الدولة، وبنفس الوقت يجب على القوى الثورية أن تتخذ كافة الاحتياطات وجميع الوسائل لمنع وقوعها في شِباك الرجعية، وأن تبقى- على الأقل- على الحياد في اللحظة الحاسمة وفي المعركة الحاسمة مع الرجعية، هذه المعركة التي يجب أن تكون الجماهير الكادحة- بقيادة الحزب- القوة الأساسية والحاسمة فيها، أما سائر القوى الأخرى فيمكن أن تكون قوى احتياطية وغير أساسية من قوى التحويل أو مجرد أداة بيد الحزب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع.. الحلقة الثامنة والثلاثون بعنوان: ثانياً(2)التكتيك الاستيزاري والتكتيك الثوري؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.