الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

انقلاباتٌ على الربيع العربي

     ما إن غادر المبعوث الأمريكي الخاص بالقرن الأفريقي- جيفري فيلتمان- والذي عقد سلسلة من اللقاءات مع قادة المرحلة الانتقالية- وفي مقدمتهم الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، وعبد الله حمدوك رئيس الحكومة- حتى قام البرهان بعملية انقلابية أدت الى حل مجلس السيادة والحكومة، وإعلان حالة الطوارئ، واعتقال رئيس الحكومة وبعض من وزرائه وبعض قادة الأحزاب أيضاً.

     ورغم أنه بادر بالظهور في خطاب متلفز تجاوز الساعة، محاولاً تبرير انقلابه بالكذب والتلفيق نافياً صفة الانقلاب، وإنه عبارة عن عملية لتصحيح مسار الثورة والعملية الانتقالية، ولتجنيب البلاد اندلاع حرب أهلية طائفية، وأكد على التزام الجيش بالمرحلة الانتقالية، واستكمال الهياكل القانونية، وتسليم السلطة لحكومة انتقالية، يجري العمل على تشكيلها! كما وعد بإجراء الانتخابات عامة منتصف (2023) لنقل السلطة بعدها إلى المدنيين.

     لم يرّشَح عن لقاء المبعوث الأمريكي فيلتمان مع القيادة السودانية سوى ما تناقلته وكلاء الأنباء، من أن الدعم الأمريكي يعتمد على مدى التزام مجلس السيادة بالنظام الانتقالي المتفق عليه، والالتزام بالإعلان الدستوري، وإنشاء مجلس تشريع انتقالي، وتسليم الحكم للمدنيين، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وإنشاء آلية للعدالة الانتقالية، وكذلك التزامهم باتفاق جوبا للسلام، الذى أعطى حكماً ذاتياً لمنطقة جنوب كردفان والنيل الأزرق، دون المساس بوحدة السودان. غير أن ما كان تحت الطاولة هو الذي دفع العسكر لانقلابهم بعد التوافق الروسي الأميركي المشترك على ذلك لقطع طريق الثورة التي نادت بها مظاهرات 21 تشرين أول/ أكتوبر 2021 في الذكرى السنوية لثورة تشرين الأول / أكتوبر 1964 التي أنهت نظام حكم إبراهيم عبود، والتي يقول ناشطون إنها مثلت إلهاماً كبيراً للثوار في انتفاضة كانون الأول/ ديسمبر التي أطاحت بحكم البشير؛ والأكيد أن الثورة ماضية لإسقاط خطوة العسكر وأتباعهم وقد شاهدنا على مدار اليومين السابقين في 30 و 31 تشرين الأول تصاعداً للمظاهرات الهائلة التي تنبئ باستمراريتها حتى تستعيد الثورة ألقها وطريق تحقيق مطالبها، والتي جاء صداها العالمي في جميع دول الانتشار السوداني.

     وقد سبق الانقلاب أحداث شمال شرق السودان، الذي تسكنه قبائل “البجا” والذي أعلن مجلس نظاراتها (قبائلها) إغلاق مرفأ بورسودان شريان الاقتصاد الرئيسي للسودان، والمطالبة بإلغاء اتفاق جوبا لانتقاصه من دورهم، والتهديد بإعلان الانفصال، ما لم تتحقق مطالبهم، وجاهزيتهم للحوار مع المجتمع الدولي (وهو ما قد يكون مقدمة لإعلان الانفصال).. وما لم يرشح من لقاء فيلتمان مع القيادة السودانية هو الذي يشرح ما يحدث كما أشرنا، والذي سيبقى ربما طويلاً حبيس الأضابير السرية الأمريكية كما هي العادة!

     لقد كان البرهان الحاكم الفعلي للسودان، مدعوماً من قطاعات الجيش الذي يترأسه، مترافقاً مع دعم الفريق أول حميدتي، قائد قوات التدخل السريع (هو محمد حمدان دقلو، والذي لم يدرس في أية كلية عسكرية، وإنما نال رتبته العسكرية بمكرمة من الرئيس المخلوع حسن البشير، بعد أن كان تاجراً للماشية، والذي أثرى من جرائها وشكل قوات لحماية تجارته، ووصل تعداد قواته إلى أكثر من ثلاثين ألفاً، وهي متهمة بمجازر وجرائم وانتهاكات طالت سكان دارفور).

     ويبرز السؤال لماذا قام البرهان بانقلاب إذن؟! وهل كان تلبية لرغبة أمريكية- روسية مشتركة تقطع طريق الثورة في السودان؟ وهو سؤال مشروع ستجيب الأيام القادمة عليه، وهي بالتأكيد ليست الإجابات التي أتحفنا بها البرهان في خطابه التلفيقي المتلفز والطويل. وللتذكير؛ البرهان وحميدتي هما من سارعا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، رغبة منهما في الحفاظ على مواقعهما ومصالحهما أيضاً.

     لم يكن انقلاب البرهان هو أول انقلاب في دول الربيع العربي رغم أنه تقويض لشرعية مؤسسات الحكم الانتقالي السودانية وللمجلس العسكري معاً، فقد سبقه الفريق عبد الفتاح السيسي بانقلابه- الخديعة- في مصر عبر المطالبة بتوكيلات غير مشروطة، للقيام بانقلابه، ليتلوه بعد ذلك انقلاب الجزائر الذي جاء عبر انتخابات هزيلة، وأبقى على المؤسسة العسكرية في سدة صنع القرار في الجزائر، وبعدها حدث انقلاب قيس سعيد في تونس بالاعتماد على مواد دستورية وقانونية، أقصى من خلالها برلمان الغنوشي وحكومته، وكان الأجدى به الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة، يتم من خلالها تصحيح المسار، وإبعاد الإخوان عن مسرح السياسة، كما حصل في المغرب.

     ويبقى الاتحاد التونسي العام للشغل، هو وحده القادر على تحريك الشارع، لكونه يرتبط بمصالح المشاركين به، والمنتسبين إليه، كما حدث في دعوته لمظاهرة كبيرة في صفاقس (العاصمة الاقتصادية لتونس) للمطالبة برفع الأجور لمواجهة ارتفاع الأسعار؛ الاتحاد الذي أسسه عام 1946المرحوم الشهيد “فرحات حشاد” الذي قض مضاجع المحتل الفرنسي آنذاك، مما أدى لاغتياله عام 1952.

     مسار ثورات الربيع العربي، والذي ما يزال يأخذ شكلاً متعرجاً، صعوداً وهبوطاً وتراجعاً عن مطالب الشعوب في بناء دولهم الوطنية المدنية الديمقراطية العادلة والمستقلة غير التابعة، والذي يبرهن على غياب النخب في القيام بدورها القيادي، كما كشف الغطاء عن الأحزاب التي برهنت عدم قدرتها على قيادة شعوبها، وتخلف خطابها، وهزال برامجها، في التصدي لواقع مرير بل وكارثي أيضاً ليبقى الجيش وملحقاته الأمنية في كل البلاد العربية هو المتسيد على المشهد السياسي برمته، ليفرض على شعوبه مقولاته وشعاراته بل واستراتيجياته التي لم تنجب سوى الخراب.

     وليس بعيد عنا أحداث ’الطيونة‘ و’عين الرمانة‘ في بيروت، والتي بدأها حزب الله بالدعوة للتظاهر للمطالبة بإقالة القاضي طارق البيطار، المكلف بالتحقيق في انفجار بيروت، والتي شاهد العالم مقدار سلميتها بمتظاهرين يحملون مختلف الأسلحة، وكأنهم ذاهبون إلى حرب، ويبدو أن حزب الله يصر على اعتبار نفسه الحاكم الفعلي للبنان، ويطالب الجميع بالاعتراف بهذه الحقيقة، التي جرّت وتجر على لبنان الكوارث المتتالية تتويجاً لمظاهر فوضى الحكم والحكومة في لبنان واهتزازهما بعد انكشاف التصريحات الغبية لوزير الإعلام اللبناني عن حرب اليمن ونظام الأسد. يدعمها خطوات دؤوبة في سبيل إرضاء “الحاكم الإيراني في لبنان” الذي لا يرضى بأقل من إطاحة قاضي التحقيق وتحقيقه في انفجار المرفأ.

     ويبقى العراق حاضراً في المشهد السياسي العربي، بوضعه الكارثي الذي أوصله إليه الاحتلال الأمريكي، وتسهيل وضعه تحت الوصاية الإيرانية، التي فجرت الصراع الطائفي؛ وها هي انتخاباته ما تزال حبيسة المحاصصة الطائفية المرتبطة بالقرار الإيراني.

     أما سورية وشمال سوريا تحديداً، فما تزال صورة الموت اليومي هي الأبرز في المشهد، وان كان المشهد الرئيسي لسورية، هو الانهيار الكامل على كافة الأصعدة، وفي مقدمتها الفقر الذي طال الأغلبية الساحقة من شعبها، والمزيد من التهتك في النسيج الاجتماعي، وانعدام الأفق في إيجاد حل يوقف الحرب الهمجية على الشعب السوري، والتي ماتزال قضيته في إطار إدارة الأزمة وليس حلها، كما دلل على ذلك فشل الدورة السادسة للجنة الدستورية التي انعقدت في جنيف وفق ما اعترف بذلك المبعوث الأممي الخاص بسورية غير بيدرسون وتحميله المسؤولية لنظام الشبيحة وداعميه خاصة الروس- دون ذكرهم- وإن مقايضات ومسايرة وفد المعارضة لخباثة وفد نظام الشبيحة وأحكامه المسبقة تكمّل تلاعب الروس – حلفاء بشار أسد- بالحل السياسي؛ كل ذلك جاء محمولاً على دعوات التطبيع وتدوير الاستبداد الأسدي وممثليه القتلة.

     وعلى وقع قمة العشرين لإدارة الأزمات الدولية في العاصمة الإيطالية روما، يبقى الأمل- الوطني والعربي- اليوم حبيس القلوب والأحلام، وهو أقرب للتمنيات، ويوماً ما سيجد طريقه إلى العقول ليكون فاعلاً ومؤثراً وناجزاً.

التعليقات مغلقة.