الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حول وثيقة التوافقات الوطنية –2

معقل زهور عدي

في البدء أستعيد ما كتبته سابقًا من أن هناك جهدًا متميزًا في إنتاج وثيقة التوافقات التي عمل عليها مركز حرمون للدراسات بطريقة تتصف بالحرفية والشمول ومحاولة إشراك 186 شخصية

ثقافية وسياسية بصياغتها عبر سلسلة من الحوارات الجادة ( راجع الجزء الأول بعنوان: رسالة مفتوحة حول مشروع وثيقة توافقات وطنية ) على الرابط:

https://thefreedomfirst.com/2023/05/01/230512/

ومن خلال تلك الوثيقة تم تقديم رؤية متكاملة للدستور السوري المقترح لمرحلة ما بعد النظام السياسي السوري . في النقاشات التي أعقبت تقديم الوثيقة والتي ساهمت بتنظيمها ونشرها ندوة وطن, اتضح إلى حد معقول هدف الوثيقة وهو تقديم بديل شبه جاهز للدستور السوري على أمل أن تتسع دائرة التوافق حول ذلك البديل في أوساط النخب السورية في انتظار رافعة غير محددة تتبنى ذلك البديل . من حق أي مواطن سوري في هذه المرحلة تقديم تصوره للدستور, ومن حق أي مؤسسة وطنية للدراسات أن تقوم بذلك, لا بل إن الواجب الوطني يتطلب من جميع القادرين على المساهمة في إنتاج الدستور لسورية الجديدة ( الجمهورية الثانية ) المبادرة لتقديم تصوراتهم وأفكارهم بالطريقة التي تناسبهم . وقد أحسن مركز حرمون بفتح الحوار في المرحلة الأولى قبل تقديم وثيقة التوافقات وبعد ذلك, كما أحسن بتأكيده أن الوثيقة مفتوحة للتطوير والتعديل وليست نصاً مكتملاً لا يقبل النقاش والتعديل . لكن المشكلة أنه يقدم وثيقة التوافقات وبصورة أدق مشروع الدستور السوري في غير وقته . وقد أظهرت النقاشات أن مركز حرمون لا يكتفي بطرح الوثيقة برسم المستقبل السوري لما بعد المرحلة الانتقالية, لكنه يطرحها لتكون وثيقة توافقات وطنية تتضمن مشروع الدستور بالضبط من أجل المرحلة الانتقالية وكافتتاح لتلك المرحلة . وقد ظهر ذلك بوضوح في جولة الحوار الأولى حين برر الأستاذ نادر جبلي من مركز حرمون ضرورة وضع فقرة تحت مسمى ضمانات فوق دستورية كجزء من وثيقة الدستور بالقول إن ذلك ضروري لخلق الثقة بين شتى مكونات المجتمع السوري لاستعادة لحمته ويعني ذلك بالطبع أن المسألة المطروحة أمامنا هي كيف نُقنع جميع مكونات المجتمع السوري باستعادة سورية الموحدة كتمهيد أولي لا يمكن أن يكون مكانه سوى المرحلة الانتقالية . إذن فالمخطط الزمني الافتراضي للوثيقة هو توسيع التوافق حولها ثم اعتمادها مع بعض التعديلات من قبل جهات غير محددة عشية التغيير المرتقب, ثم طرحها كوثيقة توافقات وطنية تتضمن مشروع الدستور السوري مع الاضافات والشروح الضرورية . والشيء الحسن في ما سبق أنها تُطرح كوثيقة منافسة للجنة الدستورية التي أعلن عن تشكيلها المفوض الأممي في 23 أيلول/ سبتمبر عام 2019 ولم تتمكن حتى الآن وبعد أربع سنوات من أي إنجاز هام على صعيد هدفها المعلن وهو تقديم دستور لسورية الجديدة . وتظهر وثيقة مركز حرمون أن بإمكان السوريين أن يقوموا بمثل ذلك الإنجاز على نحو أفضل بكثير خارج الاستبداد الرابض على قلوبهم والذي لا يقبل التقدم خطوة واحدة على ذلك الطريق . لكن ما سبق لا يعني أن الوثيقة جاءت في وقتها ولا يعني التغاضي عن الثغرات الكبيرة فيها . فما تحتاجه سورية اليوم ليس الدستور الدائم الذي يتضمن فقرات سميت فوق دستورية بمعنى عدم قابليتها للتعديل . لكن ما تحتاجه هو ميثاق وطني مؤقت للمرحلة الانتقالية التي ستؤمن عودة الحياة السياسية وإطلاق الحريات وتعافي المجتمع, وبعد ذلك سيتمكن المجتمع السوري من إنتاج ممثليه المنتخبين بموجب انتخابات حرة ليقوموا هم بمساعدة النخب السورية المثقفة والحقوقية بوضع مشروع الدستور الدائم للجمهورية وفتح حوار علني وواسع حوله ومن ثم إقراره بموجب استفتاء عام . استباق تلك المرحلة والمبادرة لطرح مشروع الدستور الدائم بوحي من سيناريو الأمم المتحدة بتشكيل اللجنة الدستورية العتيدة من ممثلي النظام والممثلين الافتراضيين للمعارضة هو طرح في غير محله, وهو لكونه كذلك فهو يبدو وكأنه يريد استعجال الأمور بفرض بنود بعينها يمكن أن لا تكون محل قبول من غالبية الشعب السوري فيما لو نوقشت بأجواء الحرية نقاشاً عاماً مفتوحاً وغير مقتصر على نخب ثقافية وسياسية محددة, أظهرت الثورة السورية أنها لم تتمكن من مواكبة الحركة الشعبية مما أفسح المجال للعسكرة ولتيارات الاسلام السياسي لمصادرة الحركة الشعبية وقيادتها وصولاً إلى ما آلت إليه . ليس ذلك فقط, لكن بطرح أفكار مثل المبادئ فوق الدستورية منذ الآن فذلك لا يعني تكبيل الارادة الشعبية فقط بدستور دائم يتم تمريره تحت ظلام مرحلة الاستبداد والتمزق والخوف الذي تعيشه سورية ولمرحلة طويلة ولكن لمرحلة غير محددة المدة الزمنية أيضا . ومثل تلك الفكرة لم تخطر حتى على بال لجنتنا الدستورية العتيدة ولا على بال الراعي الأممي ومن خلفه من القوى الدولية . المشكلة إذن ليست في تقديم مشروع دستور لسورية وهو حق وواجب على كل وطني غيور . ولا في التوقف عند فكرة هنا وفكرة هناك . المشكلة أن وثيقة التوافقات ولنقل بصورة أكثر دقة مشروع الدستور السوري الدائم- وفوق الدائم- يتم طرحها ليس من أجل المرحلة ما بعد الانتقالية, ولكن كمشروع شبه جاهز على الرف مع وضع بعض اللمسات التي تعطيه رائحة التوافق الوطني ( توقيع 186 ناشط سياسي ومثقف وجولات الحوار ) برسم التغيير القادم بل وكفاتحة لذلك التغيير .

سوف نُقدر لمركز حرمون أن يتقدم بدلاً عن ذلك بمشروع ميثاق وطني لمرحلة التعافي, ويبين صراحة وبوضوح أن مشروع الدستور الذي قدمه ليس لمرحلة التعافي وما بعدها بخطوة استباقية ولكنه مجرد تصور يضاف إلى جهود سوريين قبله لما ينبغي أن يكون عليه الدستور السوري الدائم, وأن مشروع الدستور السوري الدائم لا يمكن طرحه لاعتماده سوى بعد مرحلة التعافي, ولا يمكن تقديمه جاهزاً للتصويت عليه سوى عند توفر ممثلين حقيقيين منتخبين من قبل الشعب بصورة ديمقراطية حرة .

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.