الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ثمَّ ماذا؟

محمد أمين الشامي

في عالم يمور بالمشكلات السَّياسيّة والأزمات الاقتصاديّة والصِّدامات العسكريّة، سيكون حمقًا، إن لم نقل ضربًا من الجنون أو شكل من أشكال الانتحار، أن تواجه كلَّ هذا الآن بفكر حروب داحس والغبراء “وهوجة العربان” كما نقول. ولن يكون الأمر أقل إثارة للاستغراب إذا وجدنا السِّياسي يعالج الأمور السِّياسية “بتنظير” الأكاديمي أو “بتخطيط” العسكري، فلكل مقام قرائن ودلائل وأفكار وتخطيط واستراتيجيات، أو نختصر كل هذا بكلمة “فكر” وصولًا إلى حلول يعلن عنها صراحةً مقالٌ يصدر عن قائلٍ أو جهةٍ أو حتّى “ائتلاف”.

فماذا لو كان القائل يفتقد إلى أدنى مقوِّمات الفكر الَّذي يساعد في قيادة ثورة دخلت مرحلة انسداد الأفق، ومداورة مرحلة هي الأخطر في مسيرتها وقد انفضَّ عنها الكثير ممّن ادّعى نصرتها، وتشتَّتت المواقف كما تشتَّتت الرّايات والقيادات والمرجعيات من قبل؟ منذ 12 سنة وحتى الآن، ما زلنا نراوح في المربَّع نفسه، وأعني به مربَّع الفكر القائم غصبًا، والفكر القيادي المفتقد، أو رجل “مشروع الذّات” المتصدِّر للمشهد ورجل الدَّولة الحقيقي الممنوع من الظُّهور. فإذا كان غياب القيادة الحقيقيّة هذا مبرَّرًا في بداية الثَّورة بحجّة أنَّها ثورة مرتجلة أطلقتها حناجر فجَّرت كلَّ تراكمات السِّنين الماضية، فهو الآن مقتلة بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى.

ولم يكن انتفاء الفكر القيادي الكفء هو المعضلة الوحيدة الَّتي واجهت الحراك الثَّوري حتّى الآن، أو بعبارة الواقع: لم يكن تصدُّر رجل “مشروع الذات” للمشهد الثَّوري هو العقبة الوحيدة، بل ترافق هذا الأمر بمعضلة الغياب التّام لمشروع إعلامي مؤسَّساتي الطّابع مؤثِّر وفعّال يعمل وفق استراتيجيّة تواصل واضحة تستهدف حشد رأي عام إقليمي وعالمي لدعم -أو التَّعاطف على الأقل- مع الشَّعب ومعاناته، ليتحوَّل المشروع إلى اجتهادات فرديّة لا تسمن ولا تغني من جوع. فعلى مدار 12 عامًا، لم يتقدَّم الخطاب “الثَّوري” قيد أنملة، ولم يستطع تبنّي مفردات أخرى غير مفردات نفعت في مرحلة من المراحل فقط، مقابل إعلام استطاع استقطاب “مؤثِّرين” ساهموا بشكل من الأشكال في تمييع الواقع أمام شعوبهم، مع عدم استثمار لوجود اللّاجئين في دول أوروبا والعالم وتحويله إلى عامل داعم ومساعد.

وثالثة الأثافي هو معضلة الانفصام القائم بين الفرضيّة والواقع، وهنا يطول الحديث ويتشعَّب وتصعب لملمته: فالفرضيّة تقول إنَّها ثورة، أي: قيامة شعب بأطيافه تحت قيادة واحدة سقفها الوطن، بينما الواقع أنَّ القيادة هي قيادات، وبدل أن تكون مصلحة الشَّعب هي بوصلتها، لمسنا ارتهانها إلى جهات مختلفة، ففقد العمل الثوري وحدته واستقلاليته وبات الشَّعب على الهامش؛ والفرضيّة تقول إنَّ الدَّعم المقدَّم يجب أن يتوجَّه إلى ترسيخ وتدعيم العمل الثَّوري بكافّة وجوهه السياسية والإعلامية والعسكرية والاجتماعية، لكن الواقع له رأي آخر، فوجدنا الاستثمارات بالملايين تظهر من أفراد كانوا جزءًا من جماعات ومحسوبين من قيادات الثورة، وسمعنا عن المحاصصة في توزيع الدَّعم بين الفرقاء، والبذخ الَّذي يلوِّن حياة قادة مؤسَّسات الثَّورة، لتفقد الواجهة “الثوريّة” صدقيَّتها أمام الدّاعم والعالم والشَّعب؛ والفرضيّة تقول إنَّ المؤسسات الثورية “تؤسِّس” وترسِّخ لديمقراطية الغد، والواقع يقول إنَّ عمليّة تبادل الطَّرابيش بين حفنة من “المتحاصصين” وأصحاب المصلحة، جعل من “الدّيمقراطية” الثَّورية سخرية الدنيا والشَّعب نفسه، ليفقد العمل الثَّوري واحدًا من أهم مقوّماته أمام العالم، ونعني بهذا “الممارسة الديمقراطية” والشَّفافية في العمل المؤسساتي على المستويات كلِّها؛ ويبقى من نافلة القول الإشارة إلى تسلط “المندسّين” على العمل العسكري، وتحييد الضُّبّاط الحقيقيين عن قيادة هذا العمل، لتفقد الثورة مكتسباتها على الأرض وتتقلص رقعتها الجغرافية إلى ما نرى الآن.

فما هو مصير فعل بلا استقلالية ولا صدقية ولا شفافيّة ولا كفاية؟ ما المتوقع من ثورة بلا قيادة سياسية حقيقية وموحدة، وبلا منبر إعلامي قوي، وبلا قرار مستقل وصدقية فعل جعل الشَّرخ بين القيادات والشَّعب يزيد عمّا كان عليه قبل اندلاع أحداثها مع النِّظام، وبلا ممارسات ديمقراطيّة، وبلا فكر عسكري ناجع؟ كيف للعالم أن يقف معها وهو يراها تتحوَّل إلى نسخة مشوَّهة من حلم نتيجة ممارسات قادة سياسيين وعسكريين وإعلاميين “أغرار” أقل ما يقال عنها إنَّها ممارسات عبثيّة؟ لا غرابة أن يعيد الجميع حساباتهم من قيادتها ومن النِّظام، ولا غرابة أن ينقلب على هذه القيادة أقرب الداعمين لها، حتى ولو شارك في صنعها، فنابليون رفض يومًا أن يصافح ضابطًا خائنًا واكتفى برمي المال له لقاء خيانته قائلًا أنا لا أصافح الخونة.

ويبقى السُّؤال: ثمَّ ماذا؟ أختصر فأقول: لم تبارح الثَّورة المربّع الأوَّل، فها هي تعود يتيمة كما كانت، وأنا أستخدم الخطاب العاطفي نفسه الّذي انتقدته منذ قليل، ولم تغيِّر الدُّول الإقليميّة والعالميّة مواقفها، وأنا أشير إلى حقيقة تعامى عنها البعض، فمن حارب الثَّورة بقي على حربه لها، ومن وقف معها وجد نفسه في حال من المفاضلة بين سيِّء قديم يخدم مصالحه وسيِّء جديد بات عبئًا على مصالح الجميع حتّى مصلحة الثّورة نفسها، فآثر القديم.

ليس القصد تبرير التَّخاذل أو الردّة أو التنكُّر لوعود سابقة، بل هي مجرَّد قراءة شخصيّة للمشهد المبكي الَّذي آل إليه الحال بعد 12 سنة من “الحلم”، فهل هناك ضوء في نهاية النَّفق؟ الضَّوء موجود دائمًا، وللوصول إليه يجب إزالة العقبات الَّتي ذكرناها لتوِّنا، مع صعوبة الأمر، فالمصلحة تبقى القانون الأهم النّاظم للعلاقات بين الدُّول والشُّعوب، والأحلام أيضًا.

المصدر: إشراق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.