الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

التطبيع السعودي-الإيراني.. القفزة الصينية الكبرى في المنطقة

سميح صعب *                 

الهدية التي تلقاها الرئيس الصيني شي جين بينغ بعد ساعات من انتخابه لولاية رئاسية ثالثة غير مسبوقة، كانت الإعلان عن تحول جيوسياسي كبير قادته بكين في الخليج والشرق الأوسط عبر الإعلان، من مكان غير بعيد عن مؤتمر الشعب الصيني الذي بايع شي جين بينغ، عن معاودة العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران. وإلى الانفراجات التي قد تترتب على هذا الحدث إقليمياً، فإنه يبرز تعاظم النفوذ العالمي للصين في منطقة كانت محسوبة على الولايات المتحدة تاريخياً.   

كانت الأنظار مشدودة إلى أوكرانيا، وإلى الحملة الواسعة التي شنتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على الصين عقب تقدمها بمبادرة من 12 بنداً لحل النزاع الروسي-الأوكراني في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع أخطر حرب على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. وإذا بالقوة الناعمة الصينية تحقق اختراقاً ديبلوماسياً واسعاً في الخليج.

تطور أربك واشنطن، ولم يسعها في الوقت نفسه سوى الترحيب به، من زاوية ما يمكن أن يحمله من حل للحرب في اليمن، مع حمولة من التشكيك في نيات إيران على صعيد الالتزام ببنود إتفاق التطبيع. القلق الأميركي نابع من قدرة الصين على إحداث تغيير بهذا الحجم في الشرق الأوسط. ولم تكن واشنطن تخفي قلقها من تنامي الدور الصيني في الخليج، لا سيما عقب زيارة شي جين بينغ للرياض في كانون الأول/ديسمبر والإعلان عن “شراكة استراتيجية” بين السعودية والصين، وما تلا ذلك من قمم صينية-خليجية وصينية-عربية. ومن ثم أتت زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين في شباط/فبراير الماضي. الديبلوماسية الصينية كانت تعمل بصمت في هذه الأثناء.

ومما يضاعف من حجم الخشية الأميركية، هو أن التطبيع السعودي مع إيران، سيجعل طهران أكثر مقاومة للضغوط الاقتصادية والسياسية التي تمارسها عليها الولايات المتحدة، لحملها على العودة إلى الإتفاق النووي لعام 2015. وكل انفتاح إقليمي على إيران لن ينزل برداً وسلاماً على قلب صانعي القرار السياسي في واشنطن. الآن، يمكن فهم سبب هذا الكم من الزيارات التي قام بها وزراء أميركيون في الأسابيع الأخيرة لكل من إسرائيل ومصر والأردن والعراق وشمال شرق سوريا، مع تحاشي دول الخليج.

المعضلة المتزايدة التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم، هي أن كل ظنونها السابقة حيال سعي الصين إلى دور سياسي عالمي قد بدأت تتحقق. لم تعد الصين ثاني قوة اقتصادية فقط في العالم همها ينحصر بالتبادل التجاري فحسب. إن الصين في مستهل الولاية الثالثة لشي جين بينغ تُحقق “قفزة كبرى”- على الطريقة الماوية – في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تتخلى عنها أميركا تدريجياً منذ عهد باراك أوباما وتحشد كل قواها لمواجهة الصعود الصيني في المحيطين الهادئ والهندي.

والاهتمام الصيني بالخليج ليس منطلقه التنافس مع الولايات المتحدة، بل يستند إلى حقيقة أن الصين تعتمد اعتماداً كبيراً في مواردها من الطاقة على الدول الخليجية، من السعودية والإمارات وقطر وإيران. وبناء عليه من مصلحتها أن تعبر “مبادرة الحزام والطريق” في منطقة مستقرة ومتصالحة.. والصين هي الشريك التجاري الأول للدول الخليجية العربية وإيران. وكان هذا من العوامل الرئيسية التي جعلت الصين قادرة على التحدث إلى الجميع، عكس الولايات المتحدة التي يشعر أصدقاؤها التقليديون في المنطقة بتراجع اهتمامها بهم وبمصالحهم. وهذا ما جعلهم يعيدون النظر في العلاقات الإقليمية ويبدون في السنوات الأخيرة اهتماماً بالانفتاح على طهران والدخول معها في جولات حوار توسطت فيها بغداد وسلطنة عمان. وقد بنت الصين على هذه المناخات الإيجابية للدفع نحو التطبيع بين إيران والسعودية. وعلاوة على ذلك، فإن الصين قررت في لحظة شي جين بينغ أن لا تُكرّر تجربة الإتحاد الأوروبي، بأن تكون عملاقاً اقتصادياً وقزماً سياسياً يعيش في جلباب أميركا.

وكانت الهدنة اليمنية ميدان الاختبار الأول لجدية السعودية وإيران على حد سواء في طي صفحة العداء وفتح آفاق الحوار بين الجانبين لحل المشاكل المتراكمة وخفض منسوب التصعيد في ساحات المواجهة بينهما بالوكالة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. وإذا لم يكن متاحاً التوصل إلى حلول دائمة فعلى الأقل تنظيم الخلافات وعدم جعلها تتفاقم.

ومنذ أن راجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياساته التي سلكها في العشرية الماضية وقرر الانفتاح على الخليج ومصر، وأخيراً رغبته في الحديث إلى دمشق وعقد اجتماعات أمنية وعلى مستوى وزيري الدفاع، بدا أن ثمة إمكانية لتوسيع دائرة المصالحات في الشرق الأوسط. وساهم الزلزال المُدمّر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في تحريك عجلة الانفتاح على سوريا، وكانت السعودية من بين الدول التي تحدثت عن عدم جدوى التمسك بالسياسات القديمة حيال دمشق، على رغم أن الولايات المتحدة تُطلق تحذيرات متكررة من مغبة الذهاب بعيداً في التطبيع مع سوريا.

وكانت زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي إلى قاعدة التنف على مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية، بمثابة تذكير بأن سوريا لا تزال ميداناً للحرب وبأن أوان السلم لم يحن بعد. لكن مع تطبيع العلاقات السعودية-الإيرانية، من الممكن أن تتغير أشياء كثيرة كانت عالقة على رغبة أميركا. ويمكن للدول الإقليمية أن تجد السبل الكفيلة للخروج من المآزق التي تراوح فيها منذ سنوات. ومع الاستعداد الصيني للاضطلاع بأدوار سياسية رئيسية في المرحلة المقبلة، فإن من الممكن “الالتفاف” على الممانعة الأميركية في مد الجسور مع سوريا.

في المقام الأول لا ريب في أن دول المنطقة نفسها تعبت من النزاعات. وما ينطبق على السعودية في اليمن ينطبق أيضاً على إيران المتعبة من العقوبات الاقتصادية الأميركية ومن وضع معيشي صعب، وجد متنفساً في الاحتجاجات التي تفجرت مع وفاة الشابة الكردية “مهسا أميني” في مركز للشرطة في أيلول/ سبتمبر الماضي.

بعد نجاح الصين في ترميم العلاقات بين السعودية وإيران، ستتركز الحسابات الجيوسياسية الأميركية على أوكرانيا، لمنع المبادرة الصينية لإنهاء تلك الحرب من مصادفة أي حظ بالنجاح، ولن تكون واشنطن مرتاحة لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين. والسبب في ذلك عائد إلى كون ماكرون من محبذي الخيار الديبلوماسي لحل النزاع الأوكراني، لكنه في المدة الأخيرة لم يعد يتجرأ على المجاهرة بضرورة الحوار مع روسيا، كي لا يتعرض للتقريع من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي!

هل يُشكّل التحول في الشرق الأوسط، علامة من علامات إنهيار الأحادية القطبية بزعامة أميركا؟ وهل فعلاً أحدث الغزو الروسي لأوكرانيا على رغم تعثره الميداني هزةً جعلت الصين تستشعر من نفسها قوة جيوسياسية قادرة على اجتراح الحلول لنزاعات كانت للولايات المتحدة يداً غير خافية في تأجيجها؟

يقول لينين إن “التاريخ يكون أحياناً في حاجة إلى دفعة”.. ربما شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا هذه الدفعة المطلوبة لولادة نظام دولي متعدد الأقطاب. عالم لا تبقى فيه الولايات المتحدة وحدها “الأمة الضرورية” على حد وصف وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة مادلين أولبرايت، وإنما تصير الصين وروسيا وأوروبا من ضرورات العالم؟

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.