الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أميركا “السيدة”.. وما عداها مستعمرات!

الفضل شلق *             

لم تنتهِ الحرب الباردة بل سقط الاتحاد السوفياتي في عام 1990. نظام العالم (الرأسمالي) يستدعي استمرار حرب باردة بين القوى العظمى، تتخللها حروب ساخنة موضعية، تتطوّر أحياناً من نزاعات مسلحة في منطقة أو أخرى من العالم، وأحيانا تصير حرباً عالمية موضعية تشارك فيها قوى العالم في موضع جغرافي محدود، وتصير أحياناً حرباً عالمية في معظم مناطق العالم.

لا بدّ للعالم من حرب ما، واحدة بعد أخرى، أو بالتزامن معها، أو بضعة زوايا منه. ما دامت صناعة السلاح مستمرة فالحرب تستمر. الحروب مصدر للمال وذلك لمن يُحرّض عليها أو يخوضها. فالمال والحرب يطغيان على الديبلوماسية أو أن الديبلوماسية هي في خدمتهما. يخاف أركان النظام العالمي من السياسة. لا بدّ أن تطغى لعلعة السلاح على ضجيج الكلام. معظم التطوّر التكنولوجي أحرز خلال البحث وتطوير سلاح جديد. ليس التقدم حصيلة سعي وراء المعرفة في سبيل المعرفة؛ هو في الغالب حصيلة سعي في سبيل القوة؛ ما زال السلاح مصدر القوة.

إن النتيجة الفعلية لإنتاج السلاح هي الحرب. وإن نتيجة الحرب التي لا بدّ منها هي الاستبداد. وإن نقيض الاستبداد هو السياسة. إن البلدان الديموقراطية المتقدمة التي تفعل كل ما بوسعها لتزويد البلدان المتخلفة والاستبدادية بالسلاح هي في نهاية الأمر بلدان داعمة للاستبداد. فهي استبدادية على الشعوب التي لا تحكمها مباشرة، ولكن التي تهيمن عليها وتتخذ القرارات لها، وتبتدع لها سبل تمويلها وتسليحها، كما بين السعودية والولايات المتحدة. هي في الحقيقة تشليح وارادات النفط مقابل سلاح متطوّر. لكن الأسلحة الأكثر تطوراً لا تُعطى إلا لإسرائيل.

ينطق الغرب بالكلام عن الديموقراطية، في وقت يدعم بلدان الاستبداد بالسلاح. وكل الكلام الذي ينطق به عن الحرب أو السلاح مقابل الدبلوماسية، كما في أوكرانيا، هو كلام كاذب. إذا كان مصدر الديموقراطية هو الغر ب، فهو مصدر الاستبداد والحرب أيضاً. الديموقراطية والسلام لشعوبهم، والحرب والسلاح لشعوبنا. وحركة المال تتجه من البلاد الفقيرة (حتى البترولية منها ما زالت فقيرة)، لإنتاج المزيد من الفقر في البلدان المتأخرة، وتقام الثروات في البلدان المتقدمة، أو تراكمها كما يقال لتلطيف الأمر.

يحار أهل بلادنا في الوطن العربي، من المغرب الى اليمن، أين ذهب الدولار، ولماذا جرى إخفاؤه من السوق. لا جواب. إلا أن القطب الدولي الأميركي أوعز لمناصريه المعلنين وغير المعلنين بتهريب أموالهم، وترك بلداناً مثل لبنان ومصر والعراق لينضب دولارها. يسهل اتهام إيران بسرقة دولار العراق. وهذا صحيح. لكن السرقة الكبيرة تتجه الى الولايات المتحدة. على الولايات المتحدة أن تتمسّك بالدولار وتنزل العقوبات الظاهرة والمستترة. فهي تعرف كيف تسترد الدولار بعد أن يدخل صناديق الدول النفطية. أليست هذه البلاد بحاجة الى استثمار فائض الدولار في ما هو مؤكد النتائج، وهل النتائج مؤكدة إلا في بنوك الغرب والملاذات المالية والضريبية التي يعرف مخبرو أو خبراء الغرب كل شاردة أو واردة فيها؟

النظام العالمي شبكة واحدة مترابطة فيه قطب واحد يحاول أن يخلق أقطاباً عظيمى من أجل تبرير الحرب. أغرقوا روسيا في حرب أوكرانيا، ويحاولون إغراق الصين في تايوان. وفي الحالتين لن تنتصر روسيا ولا الصين. وسيكون الجميع بحاجة الى الولايات المتحدة ذات الجيش (بما فيه القوات البرية، والطيران، والمارينز، والقوات الخاصة) الذي يتفوق على جيوش بقية العالم. ولديها القدرة على التلاعب بحركة المال كما تريد، فتتسبب بنضوب الدولار حيث تريد، وتراقب حركته عبر مراكزها. ولن تستطيع أي دولة أو مجموعة دول، مهما شكّلت من أحلاف أو بلوكات، أن تستقل مالياً، فتضطر الى تهريب الدولار من جيرانها الذين لا مشكلة لهم مع القطب الأعظم. وهذا القطب يحتّم على بلدان مثل العراق ولبنان ومصر وغيرها أن تحرس الدولار الذي لديها وتمنع تسربه الى البلدان الواقعة تحت العقوبات، وإلا تُسحب الدولارات منها.

ولنا أن نستغرب أن العراق الغني بالنفط يستورد البنزين للسيارات والشاحنات، ويقبع معظمه في الظلام. هو لا يستطيع استخدام نفطه. فذلك يتطلّب إذناً من القطب الأعظم لقاء شروط تطبقها، وهي ممارسة العقوبات التي تقررها الدولة العظمى على جيران العراق. لا تستطيع الدولة المعاقبة أن تنفذ الى السوق العالمي الذي يشكّل شبكة مركزها القوة العظمى إلا عن طريق هذه الدولة. وفي هذا السياق، تثار الحروب الأهلية والإقليمية في البلد غير المعاقب. فكأن الدولة العظمى والدولة المعاقبة تتواطأ على العراق. لبنان حالة مشابهة. أرادت روسيا أن تظهر وكأنها عظمى، فأغرقها الأميركيون وزبانيتهم الأوروبيون، ولو مضطرين،  في حرب أوكرانيا. ظنّت روسيا أنها هي المورّد الوحيد لأوروبا، فإذا الشبكة العالمية قد رتبت أمورها. والأمر يشبه ذلك في الصين وتايوان. وتبدو الصين دولة عظيمى برغم سعيها للتمدد في العالم. على كل حال، المشاكل المثارة في إيران وروسيا والصين تحد من حركتها، وتؤكد أن هذه البلدان في الجانب الآخر من العظمة. وهي بعيدة عن تشكيل أقطاب منافسة. ما زال لدى القطب الواحد أوراق، بالأحرى وسائل، أكثر من غيره للمناورة. ولا مانع لدى القطب الواحد من تقديم “المساعدات الإنسانية” في حال حصول كوارث طبيعية، من الكورونا الى الزلازل. بالطبع المساعدات هي فتات الموائد.

أما التعاون الدولي الحقيقي فهو شأن آخر يتطلّب تغيير بنية النظام العالمي، وعلى الأقل تغيير في السياسة الجيواستراتيجية لدولة القطب الواحد. وذلك ينتظر عودة الاستقلال لا عودة الاستعمار. فلا دولة مستقلة في العالم الآن ذات سيادة كاملة ومطلقة سوى الولايات المتحدة، وكل ما عداها مستعمرات بشكل أو بآخر. في كل أنحاء العالم لها أساطيل وقواعد عسكرية وقوات خاصة جاهزة للتدخل عندما يطرأ ما يخالف إرادتها التي تعتبر أن كل ما يجري في كل زاوية من العالم يخص أو يمس مصلحتها الوطنية. استقلال دول العالم غير الولايات المتحدة شكلي، ولا مانع عند القطب الواحد من اختراق هذا الاستقلال في أي لحظة. والتعاون الحقيقي لا يكون إلا بين دول مستقلة. كما الحرية الفردية مطلب للحرية في كل مكان، كذلك الاستقلال والسيادة مطلب لكل دولة في كل العالم.

الحرية مطلب أساسي في كل دولة من دولنا، وشعوبنا تعرف كيف تنتزع حرياتها وتعجز عن ذلك. وتعرف في الوقت عينه أن دولة القطب الواحد لن تقاتل في سبيل حرية شعوب أخرى ولو قيد أنملة. وقد حان الوقت للإقلاع عن النفاق والدجل وادعاء محاربة الاستبداد بالعقوبات. كما حان الوقت كي تعترف الدولة العظمى أن الحرب على الإرهاب وتبييض العملة والمخدرات هو لتبرير التدخل، وأنها هي ذاتها (كدولة) تساهم في جميع هذه الأنشطة التي تعتبرها مخالفة لقوانين دولية لا نعرف نصوصها سوى أنها إعلانات الفئة الحاكمة عن نوايا في الغالب هادفة الى شيء آخر، هو الإخضاع والاستتباع.

يلي ذلك أن تتوقف الدولة العظمى عن العيش والانفاق على حساب غيرها. إن تدفق المال والسلع هو الى الولايات المتحدة وليس العكس، وذلك من بقية العالم. فهي بلد يراكم الثروة ويستجلب السلع من عمل الغير، ولا منة له على العالم سوى تصدير السلاح والحرب؛ وهذه منة سلبية لنهب لعالم وسلبه.

التعاون يكون بين دول مستقلة. تُعبّر مواقف أنظمتها عن إرادة شعوبها. هرمية الدول (هيراركيتها) وخضوع بعضها لبعض يشبه الهيراركية داخل كل مجتمع، وخضوع طبقات تتشكّل من غالبية الناس لمن هم في أعلى الهرمية. الدول كيانات كالأفراد، تحتاج الى ديموقراطية في العلاقات في ما بينها. كما أن الهيراركية داخل المجتمع الواحد تتيح نهب ومصادرة ما تنتجه الطبقات الدنيا لصالح طبقات أعلى الهرم، فإن الهيراركية في نظام العالم تتيح للأعلى الهيمنة ومصادرة ثروات الأدنى؛ علماً بأن الأدنى هم غالبية الناس في البلدان الخاضعة والمهيمنة أيضاً. احتكار الدولة العظمى للمصدر الأوحد للسلاح والمال هو كاحتكار كل دولة لوسائل العنف، واصدار العملة الوطنية. القطب الأوحد يُسيّر العالم كما يُسيّر النظام في كل مجتمع ناسه. والتعاون بين الدول هو غير النظام العالمي الحالي، حيث تخضع دول لمشيئة دول أخرى، كما يخضع الناس في كل دولة لمن يتحكم بنظامها.

التعاون الحقيقي في المجتمع يكون بين أفراد أحرار أو من يسمون مواطنين، والتعاون الدولي لا يكون إلا بين دول أحرار وذات استقلال حقيقي، تُعبّر قراراتها عن إرادة شعوبها. تعكس العلاقات الجيواستراتيجية بين دول العالم هيراركية إخضاع وهيمنة كما في أي مجتمع بين طبقاته وأفراده. الفرق بين الحاضر وقرون مضت أن على التعاون يتوقّف مصير الإنسان، فالمنافسات الراهنة تؤدي الى حروب إبادة بسبب التقدم التقني والأسلحة المستخدمة. لم يكن الأمر كذلك في قرون مضت. دون التعاون البشري على جميع الأصعدة تدخل البشرية في المجهول. إذ أن مصيرها هو الذي في خطر دائم. تغيير النظام السياسي الاجتماعي للعالم أصبح ضرورة ملحة لبقاء الجنس البشري.

* مثقف وكاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.