الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

روسيا وجوارها بعد سنة من حرب أوكرانيا.. هيمنة بالإكراه

نبيل الخوري *

تعكس حرب روسيا ضد أوكرانيا مأزق السياسة الخارجية لروسيا حيال بعض جوارها ودول شرق أوروبا. أنْ تستخدم موسكو القوة الخشنة ضد بلدٍ مجاور، تنظر إليه باعتباره جزءاً من منطقة نفوذها التاريخية، بدلاً من كسب ودّ عموم سكانه وثقتهم وصداقتهم عن طريق القوة الناعمة، فهذا يدلّ على عجز روسيا عن جذب جزء كبير من الناس إليها وإلى نموذجها السياسي والقيم التي تروّجها، ويعبّر عن إخفاقها في إقناعهم بمواقفها وتصرّفاتها وبجدوى التعاون والتفاعل معها، فضلاً عن فشلها في تغيير انطباعاتهم ومشاعرهم السلبية نحوها.

أسباب هذا الفشل تكمن في خصائص (وسياقات) العلاقات بين روسيا وتلك الدول عبر التاريخ. ثمّة توتر دائم بين الطموح الإمبراطوري الروسي والنزعات القومية لدى الآخرين، وبين مظاهر الحكم الاستبدادي في موسكو والتيارات الليبرالية التي شكّلت في جوار روسيا بيئاتٍ صديقة للغرب. وعليه، لا يكفي تفسير مشكلة روسيا مع جوارها بوصفها نتاج تآمر خارجي، غربي، يهدف إلى إضعافها وتفتيتها والسيطرة على مواردها الطبيعية.

ثمّة روسوفوبيا … ولكن:

صحيح أن هناك نزعة روسوفوبيا ارتكزت أحياناً إلى تلاعب وتضليل ممنهجيْن، كانت بريطانيا رائدة في استخدامهما في سياق تنافسها مع روسيا القيصرية ثم السوفييتية. يتعلق الأمر مثلاً في ما زُعِمَ أنها “وصية بطرس الأكبر”، ودعوته إلى توسيع أراضي روسيا. يروي الكاتب غي لارون (Guy Laron) في مقالة عن الروسوفوبيا، في مجلة لوموند ديبلوماتيك، في عدد مايو/ أيار 2020، تحت عنوان “تاريخ قصير من رهاب روسيا .. وثائق مزوّرة وخرق حمراء حقيقية” (Petite histoire de la russophobie. Faux documents et vrais chiffons rouges)، أن هذه الوصية مزّيفة، فبركتها فرنسا لتبرير غزوها الأراضي الروسية سنة 1812، في سياق الحروب النابوليونية، ثم تعمّد الجنرال البريطاني، السير روبرت ويلسون، نشرها، على الرغم من معرفته بأنها معلومة كاذبة. أما غايته فتتمثل في إثارة الخوف من روسيا. ويضيف لارون إن هناك مثل آخر عن أكاذيب روّج لها المحافظون البريطانيون بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات في لندن، وساهمت في تعميم ظاهرة رُهاب روسيا، من خلال فبركة ما تعرف بـ”رسالة زينوفييف”، أحد القادة السوفييت، تزعم أن موسكو سعت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1924 إلى التأثير على الانتخابات التشريعية البريطانية لصالح حزب العمّال اليساري. وهي انتخاباتٌ فاز فيها المحافظون الذين راحوا لاحقاً يتهمون السوفييت بالوقوف وراء تحرّكات اجتماعية للعمال البريطانيين في عشرينيات القرن الماضي، بينما أسبابها الفعلية داخلية.

تساهم بعض حالات الكذب الغربي في تغذية رُهاب روسيا. لكن لماذا تلقى الروسوفوبيا صدى في جوارها وفي دول شرق أوروبا، لو لم تكن لدى شعوب هذه المناطق مبرّرات خاصة بهم أو بتجربتهم مع السيطرة الإمبراطورية والسوفييتية، تدفعهم إلى الخوف من روسيا، وصولاً إلى معاداتها وكرهها؟ وعليه، ليس كل حذر من روسيا مرادفاً لرُهابٍ ناتج عن تضليل، بل عن تصرّفات روسيّة مثيرة للنقمة والنفور، راسخة في الذاكرة الجماعية لشعوب الجوار.

الهيمنة في القرن التاسع عشر:

تمسّكت روسيا، في القرن التاسع عشر، بسياسة الدفاع عن “شرعية” الأنظمة الملكية المطلقة، وامتدادها الإمبراطوري بوجه الحركات القومية الاستقلالية والموجة الليبرالية التي اجتاحت أوروبا بعد الثورة الفرنسية في العام 1789. وحيث سيطرت الإمبراطورية الروسية، شأنها شأن بروسيا والسلطنة العثمانية، تعاملت الشعوب معها هناك على أساس معادلة المنتصر والمهزوم، والمهيمِن والمهَيْمَن عليه، وراحت تبحث عن سبل تحرّرها كقوميات مختلفة من أجل أنْ تبني كلُّ منها دولتها الأمة، كما يورد المؤرّخ هنري بوغدان (Henry Bogdan)، في كتابه “تاريخ بلاد الشرق منذ نشأته” (Histoire des pays de l’Est. Des origines à nos jours)، في نسخة صادرة سنة 1991.

لا ينسى البولنديون، مثلاً، كيف مارست روسيا قمعاً دموياً وقصفت بعنف وارسو، رداً على إعلانهم استقلال بلدهم في كانون الثاني/ يناير 1831، أو رداً على انتفاضتهم لاحقاً من أجل الاستقلال أيضاً في العام 1863. ولا يمكنهم نسيان سياسة “التَرْويس” (Russification) الكامل لبلادهم، وجعل اللغة الروسية إلزامية في الإدارات الرسمية والمدارس والجامعات وإعدامات المناضلين من أجل الاستقلال، أو التضييق الشديد على الكنيسة الكاثوليكية البولندية بعد حراك 1863. على الرغم من ذلك، استطاع البولنديون الحفاظ على لغتهم وثقافتهم بوسائل سرّية.

ثقل التجربة الشيوعية والسوفييتية:

بعد الثورة البلشفية التي أسقطت النظام القيصري في 1917، دعمت روسيا الشيوعية عملية تعميم نموذجها في الخارج. لكنها قوبلت بردود فعلٍ مناوئة، لا تخلو من الأبعاد القومية. وفي هذا السياق، اندلعت حربٌ بين الجيشين، الأحمر الروسي والبولندي، سنة 1920، سرعان ما انتهت بنتيجة مُرضية نسبياً للبولنديين. أما في هنغاريا وبلغاريا، فساهمت موازين القوى المحلية في فشل المحاولات الشيوعية لاستلام السلطة أو الحفاظ عليها.

بعد الحرب العالمية الثانية، ساهم الاحتلال السوفييتي لدول البلطيق ودول شرق أوروبا في فرض نموذج اشتراكي اتسم بالشمولية. وكان لهذه التجربة وقع سلبي على علاقة شعوب تلك المنطقة مع روسيا. هنا، يستنتج المؤرّخ بوغدان أنه على الرغم من إقدام موسكو على سياسة “إدماج لدول شرق أوروبا في نظام سياسي – عسكري خاضع لهيمنتها، إلا أن هذه الأمم حافظت على ثقافاتها وتقاليدها”، أي على تمايزها عن روسيا، في حين أن النموذج الاشتراكي وفكرة الأخوّة بين شعوب بلدان المعسكر الاشتراكي بقيادة موسكو لم تنجح في طي صفحة “التنافس والتناحر بين القوميات” المختلفة في تلك المنطقة من العالم. بمعنى آخر، لم تقتنع شعوب هذه الأمم بأن هناك نموذجاً حضارياً يوحّدها وتنتمي إليه وتنصهر في بوتقته بغض النظر عن تنوّعها القومي والإثني والديني. ومن المتعارف عليه أن أي إمبراطوريةٍ سيكون مصيرها الانهيار عندما لا يكون سكانها مقتنعين بوجود فكرة جامعة ومصير مشترك.

جوانب من فشل النموذج:

بهذا المنحى، لا تنحصر العوامل التي تفسّر حالة العداء تجاه الروس في إرث التاريخ الصراعي والهيمنة الروسية ثم السوفييتية، بل أيضاً في فشل النموذج الاشتراكي المفروض عليها وفي ما تسبّبه من حالات فقر وبؤس وتأخر. قدّم هذا النموذج خدماتٍ اجتماعية وصحّية وتربوية على قاعدة المساواة بين الناس، لكن ثمّة اعتقاداً سائداً، مثلاً، أن الصناعة السوفييتية كانت تفتقد للجودة المرضية للمستهلكين، الذين كانت تبهرهم المنتجات الغربية والتكنولوجيا الغربية… وهذا ما تشير إليه مقالة قديمة في صحيفة لوموند، نشرت في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، تحت عنوان “لماذا يكره البولنديون الروس؟”، للكاتب البولندي الأصل فيليب بين (توفي في إسرائيل سنة 1978). وفيها، يلاحظ الكاتب أن كره البولنديين الروس يفوق كرههم الألمان، على الرغم من فظاعة ما ارتكبته ألمانيا النازية بحقّهم. لذا، حين أتيحت الفرصة لشعوب أوروبا الشرقية بأن تعبّر عن نفسها بحرية، من دون أن تخشى آلة القمع البوليسي السوفييتي، وذلك بفضل مرونة آخر رئيس للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف وإصلاحاته، سلكت مختلف الأمم هناك طريق التحرر من القبضة السوفييتية ووضعت حداً للتجربة الاشتراكية.

مشكلات ما بعد الانهيار:

من جانب آخر، صحيحٌ أن شعوباً متنوّعة تعايشت ضمن الإمبراطورية الروسية ثم السوفييتية، ما أنتج تفاعلا وتداخلا في ما بينها. على الرغم من ذلك، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واجهت الدول المستقلة المشكلة الحدودية. وفي هذا المضمار، تقول الباحثة إيلين كارير دونكوس (Hélène Carrère d’Encausse)، في كتاب لها بعنوان “مجد الأمم أو نهاية الإمبراطورية السوفييتية” (La gloire des nations ou la fin de l’Empire soviétique)، صادر سنة 1990، أي قبل الانهيار النهائي للاتحاد، أن حدود الكيانات المكونة للإمبراطورية الروسية أو السوفييتية غالباً ما تبدّلت عبر التاريخ، ما تسبب بحركة انتقال للسكان واسعة النطاق، بشكلٍ جعل من “ترسيم حدود كل دولة أمة مسألة غير سهلة أبداً”. من هنا، المؤكّد، بحسب كارير دونكوس، يتمثل في أن “ما انتهى هو زمن الإمبراطورية التي يتمحور تشكيلها حول أيديولوجية مشتركة (روسيا الملكية والمسيحية أو الشيوعية) التي تم فرضها على الجميع…”. لكن الأمر الثاني المؤكّد هو عودة النزعة القومية وإعادة إحياء النزاعات الحدودية القديمة، وكذلك النزاعات الناجمة عن واقع هيمنة قومية ما على قومية أو قوميات أخرى. وهي مشكلةٌ تخصّ علاقة روسيا مع الجمهوريات الأخرى المجاورة، وكذلك علاقة بعض تلك الجمهوريات بعضها مع بعض.

لم تنجح روسيا إذاً في تشكيل علاقة أخوّة فعلية وعميقة مع مجمل شعوب دول جوارها القريب. وهي متّهمة من دول عدة بأنها لا تريد بناء علاقاتٍ متوازنةٍ معها على قاعدة المساواة والاحترام والندّ للندّ. من هنا، يمكن طرح سؤالٍ مشروع عمّا إذا كانت تريد فعلاً بناء هذا الطراز من العلاقات، طالما أنها تحاول دائماً إلزام هذه الدول بالتعامل معها والخضوع لإرادتها أو لإملاءاتها، من أوكرانيا إلى جورجيا وعموم القوقاز؟ وطالما أنها تردّ بعدوانية على محاولات البعض الابتعاد عنها للتقارب مع الغرب، كما هو حال أوكرانيا مثلاً، وهو ما يساهم في تعزيز العداء وإيصاله إلى ذروته، بدلاً من بناء علاقاتٍ وصداقاتٍ مع شعوب تلك الدول، وتشكيل انطباعاتٍ إيجابيةٍ عنها والتصدّي لنزعة رُهاب روسيا، وذلك بواسطة دبلوماسيةٍ عامّةٍ فاعلة وهادفة. يتعلق الأمر هنا بمفهوم يُعرَّف باعتباره مجموع الجهود والأعمال الاتصالية التي تبذُلها دولةٌ سعياً إلى التفاعل مع رأي عام أجنبي، وتأسيس تفاهمٍ متبادلٍ معه وجذبه عبر الأفكار والثقافة والقيم.

محدودية الدبلوماسية العامة لموسكو:

في الواقع، تكمن مشكلة روسيا في محدودية دبلوماسيتها العامة. أو كما يستنج الباحث والجامعي أمين لبّس، في دراسة له بعنوان “روسيا بوتين .. عودة قوة معينة إلى الساحة الدولية” (La Russie de Poutine: le retour d’une puissance particulière sur la scène international)، نشرت في مجلة “الدفاع الوطني” اللبنانية، في إبريل/ نيسان 2017، لقد أثبتت القوة الناعمة الروسية محدوديتها. بمعنى أن الدعاية الإعلامية المضادّة للدعاية الغربية تسعى إلى تعديل الصورة السلبية التي تجمع الفساد والنظام البوليسي واغتيال الصحافيين، كما يذكر لبّس. ولكن هل الزعم بعدم وجود هذه الآفات والظواهر التي لا يستسيغها الليبراليون، مقنع؟ من هنا تؤكّد “الوكالات المختصة في تقييم القوة الناعمة لدى الدول استحالة الحديث عن قوة ناعمة عندما يتعلق الأمر بالاتحاد الروسي”، على حد ما ورد في الدراسة.

لتلك المحدودية أسباب أخرى أيضاً، فروسيا لا تخفي سعيها إلى تعميم أفكار وقيم محافظة. وهذا يفترض أنها لا ولن تجذب المتأثرين بالقيم الليبرالية. هذا ما تظهره دراسة للباحثة مارلين لاروييل (Marlène Laruelle)، نشرها “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية” في نيسان/ إبريل 2021، تحت عنوان “مصادر القوة الناعمة الروسية .. الأهداف وقنوات النفوذ” (Soft power russe Sources, cibles et canaux d’influence). وتشرح لاروييل أن روسيا تطرح الأيديولوجيا المحافظة بوصفها ردّاً على الأيديولوجية الليبرالية الغربية، وتتعامل مع قوتها الناعمة بوصفها “قوة ناعمة مضادة للغرب”. والقيم التي تروّجها تستقطب قوى غير ليبرالية في الغرب، قوى محافظة، مناوئة للقيم الليبرالية. وعلى سبيل المثال، من شأن تركيز روسيا على فكرة التضامن الأرثوذوكسي أن يثير تعاطف بعض السكان في البلقان والشرق الأوسط، في حين أن العودة إلى تمجيد الماضي السوفييتي يساعدها في دغدغة بعض أحزاب اليسار، وفق ملاحظات لاروييل.

التسلل من نافذة الجاليات الروسية:

تتّبع روسيا سياسة إعلامية لمخاطبة الجاليات الروسية في دول الجوار. يفيد تقييم التجربة في دول البلطيق بأنه إذا كان من شأن ذلك أن يعزّز نفوذ روسيا في أوساط تلك الجاليات، إلا أن “صورة الدولة العدوانية، السلبية، المنتشرة في دول البلطيق وفي أرجاء العالم لا تلائم أهداف السياسة الخارجية الروسية”، بحسب الأستاذة الجامعية فيرا أغوييفا (Vera Agueïeva)، في مقالة لها عن “القوة الناعمة الروسية في دول البلطيق”، نشرها “المرصد الفرنسي الروسي” المختص في الشؤون الروسية، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. لا يشكّل التواصل مع الناطقين بالروسية إذاً دعامة كافية لسياسة نفوذ شاملة. وهي سياسةٌ تتوقف فعاليتها على قدرة روسيا على “تبديد المخاوف” الراسخة حيالها في تلك الدول، فكيف الحال إذا كانت روسيا “وفي إطار تعاونها مع دول البلطيق، لم تستخدم بعد أدوات من طراز الإقناع والجذب الإيجابي”، كما تلاحظ أغوييفا؟ على العكس، كانت روسيا تنسج علاقاتٍ جيدة مع النخب الحاكمة، وتتجاهل “الحالة المزاجية للسكان”، المأخوذة بموجة الخوف والحذر منها، حسب ما يشير الباحث غريغ سيمونز (Greg Simons)، في مقالة نشرتها مجلة Public Relations Review، في أيلول/ سبتمبر 2014، تحت عنوان “الدبلوماسية الروسية في القرن الحادي والعشرين .. الهيكل والوسائل والرسالة” (Russian public diplomacy in the 21st century: Structure, means and message).

محرر أو محتل؟

بالطبع، حاولت روسيا التصدي لصورتها وسمعتها السيئتين، عبر أدوات الدبلوماسية العامة في دول الجوار، اعتقاداً منها بأن أسباب وجود نظرات سلبية نحوها تكمن في “نقص الفهم والمعلومات السلبية وغير الموضوعية” المنتشرة، كما يذكر سيمونز. لكن النتيجة كانت مخيّبة و”صورتها لم تتحسّن”، ليس بسبب “الإرث الثقافي والفكري الروسي، بل لأن من المستحيل أن تحظى سياساتها بتأييد شعبي” في الدول المجاورة. مثلاً، تسعى روسيا، بواسطة الدبلوماسية العامة، إلى “إعادة بناء صورة السوفييت بوصفهم محرّرين لأوروبا الشرقية من النازية وليس بوصفهم محتلين”، كما تُظهر مساهمة الباحث جون بسميرز (John Besemeres)، تحت عنوان “سياسة بوتين .. العودة إلى الاتحاد السوفييتي” (Putin’s Westpolitik: Back to the USSR) في كتاب “حوار صعب .. مقالات عن روسيا وشرق أورويا ووسطها منذ الحرب العالمية الثانية” (A Difficult Neighbourhood: Essays on Russia and East-Central Europe since World War II)، الصادر سنة 2016. لكن تغيير قناعة الذين يعتقدون أنهم عاشوا تحت الاحتلال السوفييتي، أو تحت التهديد السوفييتي بالتدخّل، هو مهمة مستحيلة. أما عن سياسات روسيا البوتينية، فهي غير مقنعة لأن الناس يشتبهون بأنها تخفي نوايا إمبريالية. في الظاهر، كانت الدبلوماسية العامة الروسية تهدف إلى تأطير التعاون مع الجاليات الروسية ومواطني الجوار، من خلال المساعدات الإنسانية ومن خلال أنشطة ثقافية وعلمية ولغوية، وفق إشارة بسميرز في بحثه. لكن وفي خطوة من شأنها زعزعة استقرار الدول المجاورة، بدأت موسكو تمنح الجنسية الروسية لأفرادٍ من تلك الجاليات، ثم راحت تزعم لاحقاً أن الروس هناك يتعرّضون للاضطهاد، أو تضخّم ما يتعرّضون له من تضييق وتمييز، وذلك لتبرير التدخل العسكري. وما الحرب الروسية وضم أراضٍ أوكرانية إلا خير دليل على ذلك.

فقدان السلطة المرجعية:

لن تكسب روسيا قلوب وعقول شعوب لا تزال تعاديها أو ترتاب منها، طالما أن الكرملين يتمسك بمنطق الإكراه والإلزام بدلاً من الإقناع. وبما أن قوة الدولة في السياسة الدولية تُقاس ليس فقط بقوتها العسكرية والاقتصادية، بل بما تملكه من سلطةٍ على الرأي العام، وقدرتها بمعنى آخر على استمالة الرأي العام إلى جانبها، كما يقول الباحث إدوارد هاليت كار (Edward Hallett CARR)، في كتابه “أزمة العشرين سنة .. 1919 – 1939” (The Twenty Years Crisis; 1919-1939)، الصادر سنة 1939، فإن مشكلة روسيا مع جوارها القريب ومع دول شرق أوروبا تكمن في فشلها في جذب (واستمالة) أكثرية الرأي العام. وهي تعالج هذا الإخفاق بأسوأ منه، حين تخالف الحِكَم القديمة جداً في التاريخ، كتلك التي صاغها الجنرال والمخطّط الاستراتيجي العسكري الصيني صن تزو (544–496  قبل الميلاد)، عن “أهمية كسب معركة من دون قتال”، أي إقناع الآخرين بدلاً من استخدام الإكراه والعنف. وأين هي من حكمة الفيلسوف الصيني كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد)، الذي يقول إن على القادة أن ينالوا تأييد الشعب بواسطة الفضيلة وليس عبر القوة؟

بمعنى آخر، مأزق روسيا يكمن في أنها تستخدم سلطة المكافأة، خصوصاً من خلال النفط والغاز والموارد الطبيعية، أو سلطة العقاب من خلال القوة العسكرية، من أجل فرض إرادتها على الآخرين. وتعجز، في المقابل، عن امتلاك أحد أهم أسس السلطة على الآخرين، بحسب تعريف الباحثيْن برترام رافن وجون فرانش (Bertram Raven, John French)، في مساهمتهما تحت عنوان “أسس السلطة الاجتماعية” (The bases of social power) في كتاب “دراسات في القوة الاجتماعية” (Studies in Social Power) الصادر سنة 1959، وهي “السلطة المرجعية” (Referent power). وهذا بالتحديد ما يحول دون وجود رغبةٍ لدى شعوب جوار روسيا في التماهي معها.

يتعلق الأمر إذاً بعطبٍ تعاني منه القوة الناعمة الروسية، لأن روسيا لم تتشكل بوصفها مرجعية في أذهان عموم الناس، تكون محط إعجابهم، يتماهون معها، وتجذبهم وتنمّي لديهم مشاعر بالـ”الفخر المشترك”. هكذا، أصبحت كل خطوةٍ يقوم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة التذكير بأمجاد روسيا السوفييتية والقيصرية ولاستعادة المكانة الدولية لروسيا استناداً إلى نموذج محافظ واستبدادي، تؤثّر إيجاباً على مشاعر المؤمنين بالقومية الروسية أو محبّي الاتحاد السوفييتي السابق، أو بعض المحافظين، لكنها تعزّز مشاعر الامتعاض والنفور لدى القوميات الأخرى، وخصوصاً لدى التيارات الليبرالية، التي أرادت كلٌّ منها، لدوافع خاصة، التحرّر من الهيمنة والاحتلال الروسيين، وترفض اليوم تكرار تجارب القرنين التاسع عشر والعشرين.

* كاتب وباحث أكاديمي لبناني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.