الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عسكرة آسيوية: ماذا يحدث في شرق العالم؟

د. مدى الفاتح *

هزت الحرب الأوكرانية الكثير من الثوابت الجيوسياسية، فالحرب في أوروبا لم تعد أمراً مستبعداً، والتحالف مع القوى الغربية ما عاد يكفي كحصانة من أي اعتداء بعد أن رأى العالم كيف تم تدمير البنية التحتية الأوكرانية بشكل جعلها تعود إلى عصور ما قبل استقرار الكهرباء. يؤكد المتضامنون الغربيون مساندتهم لأوكرانيا، وحرصهم على إعادة إعمارها، وهي جهود لا نعرف إلى أي مدى يمكن الوثوق بها في ظل حرب لم تضع أوزارها بعد، وفي ظل وجود الكثير مما هو غير قابل للتعويض. على الصعيد الآسيوي كانت الأنظار تتجه إلى الصين، التي تجمعها صلات وروابط كثيرة بروسيا، وكان السؤال هو أنه، وفي حالة نجاح روسيا في تثبيت حدود جديدة، فهل تقوم الصين بضم تايوان؟

موقف الحليف الأمريكي لم يساعد كثيراً، ففي أوكرانيا حفّزت التصريحات الأمريكية، التي كانت تتحدث عن احتمالية قبول أوكرانيا في حلف الناتو، الاتجاه نحو عسكرة الصراع، وهو أمر مشابه لما حدث لاحقاً على الصعيد الآسيوي، حين قامت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي، بزيارة إلى تايبيه عبرت فيها عن دعم بلادها لتايوان المستقلة، وهو ما مثّل استفزازاً للصين التي تعتبر المنطقة جزءاً من أراضيها. الحرب الأوكرانية أوضحت أيضاً أنه لا يمكن التعويل على أي أحد لحماية الأمن القومي، وأن خطأ أوكرانيا الأكبر كان في تخلصها من سلاحها، واعتمادها على وعود الحماية الغربية.

ما سبق يفسر إعلان اليابان الأخير عن مراجعة سياستها الدفاعية، بما يجعلها أكثر فاعلية عبر مزيد من الإنفاق العسكري وعبر إعادة ترتيب القيادة العسكرية. التفكير في أمور لوجستية مثل زيادة مدى الصواريخ، لا يعود فقط لمجابهة أي تداعيات محتملة لمحاولة الصينيين غزو تايوان، وإنما أيضاً للاستعداد لردع الصين إذا ما فكرت في ضم أراض يابانية. في حالة نشوب حرب تايوانية، على غرار الحرب الأوكرانية، وإذا ما صدقت الولايات المتحدة وكانت جادة في تدخلها لحماية تايبيه، فإنها لا شك ستستعين بقواتها المتمركزة في اليابان، التي يبلغ تعدادها حوالي خمسين ألف جندي، إضافة إلى أسطول وعتاد كثيف، ما يعني أنه لن يكون هناك مفر من تورط اليابان، حتى في حالة إحجام الولايات المتحدة عن التدخل، فإن الاستراتيجية اليابانية الجديدة، التي تدعو إلى «تثبيت الأوضاع القائمة في المنطقة»، والتي تتيح التحرك دفاعا عن حرية الملاحة البحرية، قد تدفع للتدخل دفاعاً عن تايوان. من الناحية العامة تبدو المنطقة ملغومة أمنيا، فهناك جزر هي محل نزاع بين اليابان والصين، يقع معظمها قريباً من تايوان، ويُخشى أن تدفع الفوضى المحتملة الصين لضمها، كما أن هناك وجوداً روسياً عسكرياً في منطقة الشمال، وسفناً نووية في البحر، بالإضافة إلى خطر كوريا الشمالية التي لا تتوقف عن تجريب الصواريخ التي يعبر بعضها حدود اليابان. هذا كله يجعل سعي اليابان لتأمين نفسها مبرراً، لكن الاستراتيجية الجديدة تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، لتتحدث بمنطق الدول الغربية عن ضرورة الدفاع عن النظام الدولي، وعن العمل على حماية حرية الوصول إلى الأسواق والمواد الخام، كما أن هذه الاستراتيجية لا تكاد تخفي اهتمامها بكبح جماح كل من روسيا والصين المعارضتان لـ«النظام الدولي». بحسب الخطة الجديدة فإن اليابان، القوة العسكرية الخامسة في العالم وصاحبة سابع إنفاق عسكري، سوف ترفع انفاقها العسكري لحدود الثلاثمئة مليار دولار خلال السنوات المقبلة، كما أنها ستضاعف التركيز على القوة الصاروخية، ما يعني أن البلد، القوي اقتصادياً وعلمياً، لن يكتفي، كما كان الوضع في السابق، بتطوير أسلحة دفاعية لصد الهجمات، ولكنه سيسعى لأن يكون قادراً على التدخل الخارجي والردع.

ربما يعود السبب في هذه التغييرات على صعيد العسكرة الدولية، التي لا تشمل اليابان وحدها، لتراجع دور الأمم المتحدة وانعدام الحماس الأمريكي للتدخل العسكري. بهذا سيكون الوضع مرشحاً لمزيد من التصعيد في أكثر من مكان، خاصة في القارة الآسيوية التي لا تشهد توتراً فقط في نواحيها الشرقية، ولكن أيضاً في غربها في ظل الأزمة النووية الإيرانية، وميل كثير من دول المنطقة لمراجعة اعتمادها على وعود الحماية الأمريكية. مع الأزمة التاريخية في شبه القارة الهندية بين كل من الدولتين النوويتين الكبيرتين الهند وباكستان طرأت في الآونة الأخيرة بوادر تصعيد جديدة بين الصين والهند، البلدان المرتبطان منذ أواسط القرن العشرين بعلاقة متأرجحة بين التوتر الذي يصل درجة الدخول في حرب، كما حدث في عام 1962، والبراغماتية السياسية. في هذا العام تجدد التصعيد بسبب الأزمة الحدودية التي ظلت عالقة منذ أيام الاستعمار البريطاني للهند. يمكن القول إن الحدود الطويلة الممتدة عبر شريط على جبال الهملايا هي في أجزاء واسعة منها محل خلاف، يرى فيه كل بلد أن جارته تقتطع جزءاً من أرضه. لم يؤد النزاع الحدودي إلى التحول إلى حرب مفتوحة، أو مواجهة دامية بين البلدين، وعلى الرغم من المطالبات المستمرة المتبادلة، إلا أن الأمر ظل في أغلب الأوقات تحت السيطرة، بحيث لا يتم التصعيد حول هذا الملف إلا في حالة الخلاف السياسي حول قضايا أخرى. كانت للصين رغبة تاريخية في خلق تحالف مع الهند، ونذكر في هذا الصدد أن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ كان يرغب في قيادة تجمع للدول الآسيوية ضد المعسكر الغربي الاستعماري، وهو المشروع الذي أجهضته الهند بقيادتها لتجمع «دول عدم الانحياز»، الذي كان طرحه مقنعاً لعدد أكبر من الدول التي لم تكن ترغب في أن تكون محسوبة على أي طرف. لم يكن هذا هو الاختلاف الوحيد في وجهات النظر، حيث ما لبث أن لحق به اختلاف آخر لم يكن من السهل التسامح معه وهو المتعلق بقضية إقليم التبت، الذي استقبلت الهند زعيمه «الدلاي لاما» الذي كانت تنظر إليه الصين كمعارض انفصالي. كان ذلك الإيواء هو السبب الرئيس لحرب 1962، التي استمرت لأسابيع والتي لم يكن الخلاف الحدودي سوى مجرد مسوغ لها.

الحساسيات بين البلدين مفهومة، فالبلدان يتطلعان للتحول لقوة اقتصادية عالمية وبهذا فالتنافس وارد، لاسيما وأنهما يتشاركان مناطق النفوذ، ففي حين تريد الهند أن تكون الأهم آسيوياً، تتقدم الصين لتنافسها بالدخول في شراكات واسعة مع دول مثل سريلانكا ونيبال وحتى بوتان، الصغيرة في المساحة لكن ذات الموقع الاستراتيجي بين الصين والهند، التي باتت مهددة بقضم أجزاء مجاورة للهند منها بواسطة الصين. هذه الشراكات، مضافا إليها العلاقة الصينية الجيدة مع باكستان، باتت ترقى بالنسبة للهند لدرجة التهديد. بالمقابل تنظر الصين بتوجس للتقارب الأمريكي الهندي، خشية تحول جارتها لمحارب بالوكالة عن الأمريكيين. مع كل هذه الحساسيات، إلا أن المناوشات الصين – هندية واصطفاف الجيوش عبر الحدود لم يسفر عن وقوع ضحايا، حيث يظهر البلدان قدرة على هندسة الصراع، بما يجنب الانزلاق، وذلك باتباع سياسة تركز على سبل التعاون، وتنطلق من عدم وجود ضغائن تاريخية كبيرة، كالتي بين الصين واليابان مثلاً، لكن الأمر يظل أشبه بلعبة الدومينو التي يكفي تحريك قطعة واحدة منها لينهدم خلفها كل شيء.

* كاتب سوداني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.