الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المقدس في العقل العربي

معقل زهور عدي

يُظهر أحد النقوش الأثرية صورة للملك حمورابي وهو يستلم من الآلهة لوائح قوانينه المشهورة, بينما تدل الدراسات التاريخية التي تمت في ضوء اللقى الفخارية المكتشفة أن قوانين حمورابي ليست في الحقيقة سوى تلخيص وتعميم للأحكام التي تكررت مئات وربما آلاف المرات في قضايا عرضت على المحاكم ونوقشت وصدرت فيها الأحكام, فهي تشبه الملخصات التي يكتبها طالب مجد ثم يناولها لطالب آخر فيدرسها ويضيف عليها حتى تصل بتكرار ذلك الفعل إلى درجة عالية من الإتقان فتُطبع فيما يشبه ( الأمالي ) الجامعية وتصبح معتمدة لدى الطلاب الذين يميلون إلى اختصار جهدهم في البحث والتنقيب في بطون الكتب .

والمسألة هنا هو كيف تحولت تلك الملخصات التي تعكس التجربة الانسانية في حقل القضاء إلى شريعة مُقدسة مستلمة من الآلهة بيد الملك العظيم حمورابي؟

في فجر الإسلام, كان واضحاً تقييد الحرام واعتبار أن ما لم يرد فيه تحريم فهو حلال, فالأصل الإباحة وليس الأصل التحريم, لكن ذلك لم يعجب كثيراً من الفقهاء, فسُلطتهم وسطوتهم ارتبطت بالتحريم وليس بالتحليل, وهكذا عاماً بعد عام, وقرناً بعد قرن, كانت الاجتهادات تذهب نحو توسيع التحريم, والدخول في أدق تفاصيل الحياة اليومية العادية لفحص كل خطوة يخطوها المسلم, وكل ما يخطر وما لا يخطر بالبال, والإفتاء فيه حرام أم حلال .

وما يحدث بالتداعي أن العقل الإسلامي كان يضيق شيئاً فشيئاً, حتى تحول المسلم إلى روبوت, يخاف أن يُقدم رجله اليسار على اليمين أو يدخل فيأخذ اليسار بدلاً عن اليمين .

يعرف كثيرون أننا تعودنا منذ الصغر أن نلتقط كسرة الخبز على الأرض ونُقبلها ونضعها على جبيننا, ثم نضعها في مكان نظيف مرتفع, ويُمثل ذلك احتراماً جميلاً ( للنعمة ), لكنه تحول مع الزمن إلى شيء ديني بغض النظر عمن أفتى بذلك, فالعادة هنا تتحول إلى طقس, وحين ترى المرأة المسلمة كسرة خبز على الأرض تصرخ ” يا حرام ” ثم تُسارع إلى حملها ووضعها على الرف, وأعيدُ ثانيةً أن تلك عادة جميلة وأعني تقدير النعمة, لكن هنا أنظرُ إليها من زاوية أخرى وهي كيف تحولت إلى طقس, وكيف صار المسلم يشعر أن ذلك حرام, بل ويستوجب عقوبة من الله قد تأتي بصورة فقر أو حرمان من الخبز .

ولنفكر قليلاً في كيف توصل الفقهاء إلى تقرير انشاء هيئة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتخذت صفة شرطة تضرب الناس في الشوارع للذهاب للصلاة أو تتعرض لامرأة بالزجر وأحياناً بالضرب لأجل لباسها أو تغطية وجهها. كيف توصل الفقهاء إلى اعتبار ذلك فرضاً من فروض الإسلام, مع أن ذلك لم يكن معهوداً لا على عهد الرسول عليه السلام ولا على عهد الخلفاء الراشدين .

ويمثل إحداث هكذا هيئة, وما قامت به من أعمال لا يقبلها العقل نموذجاً لفهم كيف يمكن تحويل حياة الناس إلى جحيم بتوسيع مساحة الحرام في الحياة العامة والخاصة .

لكن الأمر لا يقف عند ذلك, فالتفكير العقلاني الواعي عند الإنسان يبدأ من المشاعر ثم يرتقي نحو الأفكار, وبمقدار ما يتم تقييد المشاعر, والتدخل في الحياة الخاصة للانسان بمقدار ما يتم محاصرة العقل والتفكير الواعي .

ولنضع ذلك بصيغة أخرى, فمساحة المقدس أو الحرام حين تتمدد أكثر من حدود معينة تلغي مساحة العقل الحر, فحدود العقل الحر هي حدود المقدس .

وينطبق ذلك على فهم الأحكام, فحين يصبح أي انحراف عن رأي مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي كفراً أي حراماً, تضيق مساحة العقل إلى داخل أكثر التفسيرات تشدداً ضمن تلك المدرسة.

وقد كتبتُ مرة أن من غير المعقول التفكير في هذا العصر بالاسترقاق بعد أن تخلصت البشرية نهائياً من العبودية وحرّمتها بموجب القوانين كما فعل تنظيم الدولة في سبي النساء وبيعهن, فأجابني أحدهم موضحاً: إن السبي جائز فقط للنساء اللواتي يشتركن بالحرب, وطبعاً يعني ذلك استعباد الرجال المشتركين بالحرب من باب أولى .

فتحرر تفكير ذلك الأخ المسلم, ونقده لسلوك ” داعش ” وجد نهايته عند ذلك الحد.

وفي ذلك مثالٌ للسقف الذي يتركه الفكر الإسلامي السائد للتفكير الحر .

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل الاجتماعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.