الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أميركا والتطبيع السوري التركي

مروان قبلان *

مع تسارع خطوات التطبيع بين تركيا والنظام السوري، تحاول الولايات المتحدة، التي تجد نفسها بشكلٍ متزايد خارج دائرة التأثير، وقف، أو أقله إبطاء، وتيرة المسار الذي تقوده موسكو، ودخلت على خطّه الإمارات أخيرا، ويمثل التقاء المواقف من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بين أنقرة ودمشق ركنه الرئيس. ومع أنه لا ينبغي التقليل من قدرة الولايات المتحدة على الـتأثير في مجمل المسار القائم حاليا، نظرا إلى أدوات الضغط الكثيرة التي تملكها، خصوصا في علاقتها مع تركيا التي تعاني أوضاعا اقتصادية صعبة، في ظل ارتفاع مستوى التضخّم وتدهور سعر الليرة على أبواب انتخابات حاسمة هذا العام، فضلا عن وجودها العسكري شمال شرق سورية، إلا أن ذلك يظل رهنا بأولويات واشنطن الدولية الأخرى (تقع أوكرانيا على رأسها حاليا) ومدى استعدادها لخسارة حليفٍ بأهمية تركيا، ودفعه أكثر إلى أحضان موسكو في مرحلة فاصلة من عمر الأزمة الأوكرانية والصراع بين روسيا وحلف الناتو، خصوصا وأنه ثبت بالتجربة أن الدول (تركيا في هذه الحالة) عندما تُخير بين مصالحها الاقتصادية واحتياجاتها الأمنية، فإنها لا تتردّد في اختيار الثانية، وهو ما حصل مع روسيا عندما قرّرت غزو أوكرانيا العام الماضي، رغم أنها كانت تدرك أن ذلك سوف يدمّر علاقاتها مع شريكها التجاري الأول، الاتحاد الأوروبي.

فوق ذلك، ساهمت الولايات المتحدة، باتّباعها سياسة النأي بالنفس، في إضعاف قدرتها على التأثير في الساحة السورية. وباستثناء مناطق شرق الفرات، تكاد الولايات المتحدة لا تملك وزنا في بقية جوانب المسألة السورية، فمنذ العام 2014، أي منذ صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسيطرته على مناطق واسعة من سورية والعراق، حصرت الولايات المتحدة اهتمامها بسورية في القضاء على التنظيم ودولته، متخلّية عن كل دور آخر لها، بما في ذلك في العملية السياسية. وكانت الولايات المتحدة تتجنّب قبل ذلك القيام بأي دور قيادي في المسألة السورية، إذ أوكلت بين عامي 2011 – 2013 إلى تركيا وبقية حلفائها في المنطقة إدارة الملف السوري، فيما اكتفت هي، نتيجة انشغالها بمفاوضات الملف النووي الإيراني، ورغبتها في الانسحاب من المنطقة، في لعب دور توجيهي. ومنذ عام 2013، أي مع بداية إدارة أوباما الثانية، ومع تسلم جون كيري منصب وزير الخارجية، نقلت واشنطن إدارة الملف السوري إلى موسكو، وتكرّس ذلك أكثر بعد التدخل العسكري الروسي عام 2015، إذ استمرّ تراجع الدور الأميركي في مجمل القضية السورية التي باتت، من وجهة نظر واشنطن، مجرّد حربٍ على الإرهاب، فيما صارت عبارة “الحل في موسكو” لازمة في كل التصريحات الأميركية الخاصة بالمسألة السورية.

ومع بداية العام 2017، صار واضحا أن القضية السورية باتت شأنا تركيا – روسيا، إذ تم إنشاء مسار أستانة، الذي نجمت عنه تفاهمات سوتشي مطلع عام 2018، وأخذ يحلّ تدريجيا محلّ مسار جنيف، بعد التوافق على تشكيل اللجنة الدستورية خريف 2019، حيث صار الحلّ يرتكز على وضع مسوّدة دستور جديدة، تعقبها انتخابات رئاسيةٌ وبرلمانيةٌ تنهي الأزمة في سورية. لم تعترض الولايات المتحدة على هذا المسار، بل دعمته على أمل أن يصرف عنها عناء النظر في القضية السورية. وفي عهد الرئيس ترامب، بلغ التجاهل الأميركي للقضية السورية ذروته، وعبّر عن ذلك تصريح هذا الأخير بأن سورية بالنسبة إليه لا تعدو كونها “أرض موت ورمال”.

لم يتغير شيء، في عهد بايدن، سوى أن واشنطن أمعنت في تجاهل مخاوف حليفها التركي عبر زيادة دعمها “قسد”، ما مكّن روسيا، في نهاية المطاف، من إقناع تركيا بأن مصالحها الأمنية يمكن أن تتحقّق بشكل أفضل من خلال التعاون معها وبالتفاهم مع النظام السوري. من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرةً في هذه المرحلة على تلبية مطالب تركيا لوقف مسار التطبيع مع دمشق، أو ما إذا كانت مهتمة بذلك فعلا خارج إطار العبارة التقليدية بأنها “لا تدعم التطبيع مع النظام السوري”. في كل الأحوال، قد تكون واشنطن تعلمت أن غيابها عن أداء دور ما لا يعني إلغاء ذلك الدور، بل يعني أن آخرين سوف يتقدّمون لشغله، وهو ما يحصل اليوم بين أنقرة وموسكو بخصوص سورية.

* كاتب وباحث سوري

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.