الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية(-)

عبد الحسين شعبان *

بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967وما أفرزته من نتائج عسكريٍة وسياسيٍة  واجتماعيٍة وفكريةٍ، تم طرح تساؤلاتٍ عميقة حول الفكر القومي العربي بعد حالة المد القومي الذي شهدته الساحة.

على سبيل التمهيد:

انشغلتُ منذ وقت مبكّر بالمسألة القومية، فعلى الصعيد العربي كانت القضيّة الفلسطينية، وخصوصًا منذ العام 1967 الشغل الشاغل، وذلك ارتباطًا مع صعود حركة المقاومة والعلاقة المتميّزة التي ربطتني بها. أمّا على الصعيد العراقي، فقد كانت المسألة الكرديّة قد احتدمت، لاسيّما بعد العام 1961، ولقت انعكاساتها وصداها فكريًا وعمليًا على الساحة العراقية وقواها السياسية.

ولعبت المتغيّرات في العقود المنصرمة وتعقّد ظروف الصراع دورًا كبيرًا في زيادة الاهتمام بالمسألة القومية، وذلك من خلال محطّات عديدة، ترافقت مع قراءاتي واجتهاداتي وفهمي لهذه المسألة التي اتّخذت أبعادًا وجدانية وإنسانية ملموسة ومباشرة لديّ أكثر من غيرها.

وتوقّفت عند رؤانا وتحليلاتنا السابقة فوجدت الكثير من النواقص تشوبها، وفيها العديد من الثغرات، وأن العديد من نقاط الضعف في مواقفنا التي تستوجب مراجعتها ونقدها بروح رياضية والاعتراف بأخطائنا بأريحيّة وإيجابية بهدف تجاوزها، مثلما تلمّست أكثر فأكثر نواقص الأطراف الأخرى إزاء هذه القضية ذات الأبعاد الحيويّة، سواء كانت العربية أم الكرديّة. ولذلك حاولت تقديم رؤية جديدة فكرية وسياسية استنادًا إلى تقريظ ونقد وانطلاقًا من واقع “الحركة الثورية” كما كنّا نطلق عليها بقياداتها المتنوّعة ومواقفها المختلفة للمسألة القومية وموقعها في الصراع الدائر كجزء من قضية التحرّر الوطني.

وهنا سأركّز على التيار الماركسي الرسمي السائد كما يطلق عليه والتطبيقات التي رافقت بعض قراءاته المبتسرة، خصوصًا وقد تكوّنت لديّ رؤية مغايرة ونظرة مفارقة في مسألتين أساسيتين؛ أولهما– الموقف من القضية الفلسطينية وتطوّراتها؛ وثانيهما– الموقف من الوحدة الكيانية، وذلك للنقص الحاصل في القراءة والفهم من جهة وللنزوع الإنساني من جهة أخرى.

الفلسطيني هو النموذج الأممي:

إذا أردنا الحديث عن الاضطهاد على المستوى الكوني، فسوف لا نجد أكثر كونية وأممية من النموذج الفلسطيني، فقد اقتلع الفلسطيني من أرضه وصودر حقه الإنساني الأول في تقرير المصير جماعياً وفردياً، وذلك بإلغاء كيانيته في أكبر عملية سطو على التاريخ، بدأت منذ قرن وربع قرن من الزمان، خصوصاً عندما عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول في مدينة بال السويسرية عام 1897، الذي تبنّى فكرة عرّاب الحركة الصهيونية المفكر المجري ثيودور هيرتزل: تأسيس دولة لليهود (في فلسطين) وهو عنوان كتابه الذي أصدره قبل عام واحد من انعقاد المؤتمر “دولة اليهود” The Jewish State”.

ولعل فصول الاضطهاد المزدوج والمركّب اكتملت حلقاتها تدريجياً بصدور وعد بلفور عام 1917 بعد اتفاقية سايكس- بيكو السريّة بين بريطانيا وفرنسا (1916) التي قسّمت البلاد العربية، خصوصاً بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بعد احتلالها في الحرب العالمية الاولى، وذلك في مؤتمر سان ريمو العام 1920 ومصادقة عصبة الأمم عليه العام 1922.

وخلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات رُفع سقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين تمهيدًا لإصدار قرار التقسيم رقم 181 العام 1947، وفيما بعد قيام دولة “إسرائيل” في 15 أيار/ مايو العام 1948 واندلاع الحرب العربية- “الإسرائيلية” الأولى، واستمرار العدوان “الإسرائيلي” ضد الأمة العربية، ابتداءً من العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 وعدوان العام 1967 ضد سوريا ومصر والاردن و(حرب تشرين الأول/ اكتوبر) 1973 و(اجتياح لبنان) في العام 1982 وقبلها ضرب المفاعل النووي العراقي 1981 وفضيحة الفلاشا وهجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين (أواخر الثمانينيات) والحرب على لبنان بحجة الأسرى (حرب تموز/ يوليو) 2006 ، إضافة إلى حصار غزّة منذ العام 2007 والحروب المتكرّرة عليها.

كل هذه المأساة ستكون ماثلة أمامي، وأنا أتحدث عن الجانب الإنساني، الذي لا يمكنني ولا أستطيع أن أغضّ الطرف عنه لدى تناول أية قضية أو مسألة من المسائل العقدية في الصراع العربي- “الإسرائيلي”. ومثل تلك النظرة ستكون حاضرة عند تحديد موقفي ورؤيتي من القضية الفلسطينية موضوعيًا أو ذاتيًا، مباشرة أو غير مباشرة، خصوصًا وقد كان قيام دولة “إسرائيل” عاملًا أساسيًا في تعطيل التنمية وعرقلة التجارب الجنينية الاولى للديمقراطية والاصلاح، لا سيّما بالتوجه نحو التسلّح والعسكرة وتبرير أحكام الطوارئ والأوضاع الاستثنائية ومصادرة الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، والتبرير كان جاهزًا باستمرار، هو “الخطر الخارجي” الذي يدّق على الأبواب. ولعلّ ذلك ساهم في تكريس سلطات الاستبداد بحجة “تحرير فلسطين” تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، والذي كان عملياً يعني لا صوت يعلو فوق صوت الحكام وارادتهم ومصالحهم.

اليسار والمزاج الشعبي:

كنت من موقعي كمثقّف يساري أتحسس القصور والنقص في فهم المسألة القومية العربية من جهة، وقلّة الانشغال وضعف الاهتمام بها أو تخصيص ما تستحقه من جهود من جهة أخرى، إضافة إلى التقليل من أهمية الوحدة الكيانية للعرب أو إيجاد شكل من أشكال اتحادها، وذلك ليس عبر شعارات أيديولوجية أو مزاودات سياسية كما فعل القوميون المتعصّبون، وإنما باعتبارها حاجة ماسّة وضرورة حضارية وتعبيراً عن وجود روابط مشتركة أساسها: اللغة والتاريخ والثقافة، ناهيك عن الأديان، فضلاً عن مصالح اقتصادية جيوسياسية، كلّ ذلك مع مزاج شعبي ووجداني جامع خارج دوائر الأيديولوجيا والسلطات الحاكمة.

لقد كانت مهمة الحركة الماركسية والشيوعية في العالم العربي صعبة مع استمرار الثغرات الكبيرة الفكرية، النظرية والسياسية، والعملية في الموقف من المسألة القومية ، وذلك إضافة إلى الموقف من الدين، ومكمن هذه الصعوبة هو أننا خالفنا المزاج العام، الشعوري- الفطري في كلتي المسألتين، تحت عناوين أيديولوجية بتقديم الطبقي والاجتماعي، على الوطني والقومي، بل إننا ازدرينا بعض الأطروحات القومية، ناسبين إيّاها إلى البرجوازية، مطبّقين المسطرة الأوروبية على المسألة القومية، متناسين أننا ما زلنا نعيش مرحلة التحرر والانعتاق الوطني والقومي، وحتى الاستقلال السياسي الذي حصلت عليه الشعوب العربية تقهقر كثيراً، فما بالك بالاستقلال الاقتصادي والتنمية.

لقد تعاملت الأدبيات الماركسية العربية مع المسألة القومية باستخفاف كبير، وكنّا غالباً ما نتندّر على القومية و”القومجية” دون أن نميّز الفارق بين العروبة الحضارية، التي هي انتماء شعوري وفطري ووجداني، وبين القومية التي هي أيديولوجيا أو عقيدة، باعتبار أن نماذجها هم الحكام الدكتاتوريين، وكنّا نتغنى بالأممية وفضائلها، في حين أن نماذج حكامها لا يقلّون دكتاتورية واستبداداً عن نماذج حكامنا الدكتاتوريين، بل أن الأخيرين قاموا بتقليد النماذج الشمولية الأصلية، وساروا على خطاها في أحيان كثيرة، وانتقل “القمع” إليهم بالعدوى بحكم فيروس الأيديولوجيا الشمولية والسعي لامتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات، مثلما انتقلت مسألة عبادة الفرد وتقديس الخطاب الأيديولوجي الاستعلائي إلى هذا الوسط أيضًا… الخ.

الماركسلوجيا والوعي النقدي:

إذا كانت المسألة القومية والهويّة والمواطنة إحدى شواغلي منذ فترة ليست بالقصيرة، لاسيّما بالقضية الفلسطينية، فلأن الأمر يتعلق أيضاً بغياب أو بضعف الوعي النقدي لدى التيار الماركسي، بحيث يكون دليلاً يساعد في تعزيز نهج ووحدة الهموم العربية وكفاحها المصيري من أجل تحقيق كيانيتها، التي ما تزال تعاني من التشتيت والتشظي.

وظلّ غائبًا موضوع تقديم رؤية تطورية للوعي التاريخي العربي، على أساس جدلي هدفه التنوير والتغيير، الأمر الذي لا يمكنه أن يحدث دون تحقق الشروط الموضوعية لبلورته، ناهيك عن الشروط الذاتية بتوفر الحامل الاجتماعي لذلك. ومثل هذه الأداة لن تتحقّق عبر محاولات حزبية ضيقة أو مبادرات فردية محدودة بالطبع، لأنه بحاجة إلى استكمال دورته التاريخية الموضوعية وليس عبر إرادوية ذاتية حسب.

والماركسلوجيا تعني “ماركسية” ضدّ “الماركسية”، بمعنى استخدام أداة التحليل الماركسي بالضدّ من جوهر الماركسية وروحها، وهو ما جرى تطبيقه بصدد القضيّة الفلسطينية، خصوصًا بتبرير موقف القيادة الستالينية بعد أن استدارت لتنتقل من ضفّة إلى أخرى، أي من اعتبار تقسيم فلسطين خطّة إمبريالية صهيونية إلى كونه أمر واقع واعتراف بحق تقرير المصير لليهود الذي جاء على حساب سكّان البلاد الأصليين.

ليست القضية الفلسطينية قضية ربح أو خسارة، أو نجاح أو فشل، وهي لا تخصّ الفلسطيني وحده، بقدر ما تخص البشر في كل مكان، ولذلك فالصراخ والشعارات الرنانة لن تعيد الحق السليب، وليس رد الفعل أو المعاملة بالمثل هي العلاج الناجع، لأننا سنخطأ مرتين، في المرّة الأولى سنبرّر الفعل الاجرامي بفعل مقابل، ولعل من عالج ذلك على نحو مبدع هو ادوارد سعيد في حواراته المثيرة مع ديفيد باسمليان، التي ترجمها توفيق الاسدي والموسومة بعنوان “القلم والسيف” حين تساءل مخاطباً نفسه: لو كنت في وضع يجعلني أحرز في يوم من الأيام تعويضاً سياسياً عن كل معاناة شعبي، لكنت، كما أعتقد حساساً جداً لإمكانية إيذاء شعب آخر.

ولعل هذا الموقف الإنساني العالي الشكيمة هو تعبير عن أكبر الأحاجي لمفكر مثل ادوارد سعيد، وهو لغز عميق كما يعترف، ويضيف أن قلّة نسبياً بعض الشيء من اليهود و”الإسرائيليين” يشعرون خلاف الاحراج والضيق، حين يقابلون فلسطينياً، بحس من الندم والتعاطف، من بشر عانوا ما عانوه هم أنفسهم.

أما الخطأ الثاني فهو أننا نخسر أوساطاً مناصرة لحقوقنا أو محايدة حين نتصرف في إطار ردود الافعال، بما يضع الجاني والضحية في كفة ميزان واحدة أحياناً. لا ينبغي تحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة سياسية للصراعات الداخلية أو لتأجيج الحقد، وكأننا نبحث في حلول بدائية دون التفكّر فيما تتركه من تأثيرات نفسية علينا وعلى الآخر بألوانه المختلفة.

لعل حوار ادوارد سعيد هو حوار الذات مع التاريخ في عمق المأساة والألم فقد كان يدرك أن أطنان الخطابات العربية لن تحل القضية الفلسطينية، بل ستبقيها دون حل، وقد يكون في تلك الخسارة ربحاً للسياسي العربي، لاسيّما في السلطة، إذ سيكون مبرراً وضماناً لوجوده ولانشغاله بحقوق مهدورة ومغتصبة دون البحث في استعادتها، لكن المهم هو أن يكون موجوداً ويستمر في رفع شعارات الدفاع عن ” أصحاب الحق” و”المظلومين الفلسطينيين”، في حين أن المسألة الأساسية تظل غائبة وهي استعادة الحقوق.

أقارب هذه المسألة من خلال رؤية المفكر جان جينيه، الذي هو كاتب خلافي، ومتمرد وفوضوي، لكنه عندما عايش تجربة “الأرض الفلسطينية” لاحظ على نحو عميق ما وراء السرد السياسي للقضية الفلسطينية، حيث شاهد بأم عينيه، وهو يقول كلمته ويتقنها جيداً بشأن مآل وصورة فلسطين، الواقعية، الحقيقية، وليس صورة الوعي السياسي المؤطر أيديولوجياً في أحيان كثيرة.

أتساءل هل يمكن معاينة الأدلة والقرائن الجرمية- الجنائية على جثة مشوّهة وغير واضحة المعالم؟ فلا يكفي الموقف السياسي باعتباره دليلاً على فهمنا للقضية الفلسطينية، الذي بتقديري ينقصها الكثير من التدويل على الرغم من تدويلها، لاسيّما لرؤية مؤسسات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان الدولية، وهنا أريد التحدث عن تدويل ثقافة المقاومة ورفض السائد واليومي، بتعميم ثقافة الحق، ولعل مثل هذه الثقافة، تساهم في استمالة الرأي العام العالمي، الذي لا يمكن مخاطبته بروح التهديد والوعيد أو الانتقام أو المعاملة بالمثل، وهي عناوين طالما تصدّرت الدعاية العربية بشكل عام والدعاية الفلسطينية بشكل خاص، رغم التحسّن الذي طرأ عليها في ربع القرن الماضي الاّ أنها ما تزال تعمل في إطار رد الفعل في الغالب. وكنت قد ردّدت “رذيلتان لا تنتجان فضيلة” و”ظلمان لا ينجبان عدلًا” و”جريمتان لا يعيدان حقًّا”.

لا أريد أن أذهب إلى حدّ ” التعريض” بجوانب من قصور الفهم الماركسي للقضية القومية، ولكن ما يجب التأكيد عليه هو القصور الذاتي الذي انطوى عليه المفكرون العرب “الماركسيون” أو هكذا يطلقون على أنفسهم في عدم انشغالهم بهذا الجانب المهم من البنية للتكوينية للعقل العربي الوضعي، وذلك لأسباب تتعلق بالمفهوم الأوروبي المُبسط للمسألة القومية، لاسيّما الاستعانة بخطوطها المعرفية كما هي دون التفكير بالاجتهاد النقدي أو التجديد النوعي المطلوب، وكنت أرى أن عدم الاهتمام البحثي والمعرفي بالقضية الفلسطينية عرّضها للإفقار بقدر تزايد الصراخ والدعاية والتنديد والاحتجاج كظاهرة صوتية كما يقال، ودون تحويلها إلى فعل ملموس.

ومن هنا فان اجتراح الماركسية كونها نظرية شمولية ضيّع علينا التفكير بالحاجة الدائمة إلى إغناء تفصيلي وبحث اشكالي، ولعل من ضمن هذه الاشكالات هو دراسة قضايانا العربية بعناية أكبر، والنظر إلى المكوّن الجمعي للشعور الشعبي، إذا ما استعرنا مفهوم كارل غوستاف يونغ بهذا الصدد، وتقرّبنا إلى الطبائع الجمعية للمجتمعات العربية.

وقد ازداد شغفي شخصيًا بالأنثروبولوجيا في السنوات الأخيرة، وأعدّها مبحثاً أساسياً في فهم الإنسان ضمن طبيعته البشرية من جهة، وأوضاعه الموضوعية والتاريخية من جهة أخرى، وصولاً إلى فهم متعدد للوضعية الإنسانية الفاعلة، ولا يمكن أن نتحدث عن مفهوم تكاملي لماركسية نقدية فاعلة، دون أن نعنى بالبنى التكوينية للمجتمعات العربية، وأن يصبح الفهم بحد ذاته تجربة، وهذا ما توقفت عنه طويلاً في كتابي عن “فقه التسامح في الفكر العربي- الإسلامي “وفي بحوث عن “الإسلام” بشكل عام وقضايا التنوير والمسائل الخاصة بالمجتمع المدني، وغيرها من القضايا التي تأخذ من عادات الناس وطبائعهم ومكوّناتهم الموروثة والمكتسبة نطاقا للبحث الجدي.

كيف يمكن ان نختصر قوانين الماركسية في تشكيلاتها الاجتماعية وتعاقبها وتأصلها ثم تحوّلها، دون أن نفهم المكوّن الوضعي التاريخي لها، وبأي معنى يمكننا تجاهل الشروط البنيوية لتاريخ الأمم والشعوب وحركتها؟

كل هذا يشكّل فهماً جدلياً تأسيسياً لفكر اجتماعي ماركسي جديد أو فهماً جديداً لعلم ماركسي وضعي تكويني. وأعتقد شخصيًا أن ثمة تساوقًا مفهوميًا جديدًا لا بدّ أن يكون حاصلاً بين البنية الروحية لموروث الشعوب وبين آليات الفهم والتأويل الفلسفي لها، وعلينا ألّا نركن إلى القطيعة العقلية مع هكذا جانب أساسي من الموضوع الخاص بالهويّات والانتماء القومي، وألاّ فإننا سنتحدث عن مجتمعات لا نعرفها وفي إطار قوانين عامة- جامدة، لا روح فيها.

مفارقات الإسلاموي والقوموي:

مثلما تركنا خزانة الكتب التاريخية والدينية، للقوى الاسلامية أو “الإسلاموية”، أدرنا الظهر للتراث العربي- والانتماء التاريخي، واعتبرناه من اختصاص أحزاب قومية في الغالب أو قوموية، وبعضها لم يكن بعيداً عن ترسانة الفكر الأوروبي، وقد استطاعت هذه الاحزاب والقوى تجيير مسألة العروبة لصالحها، بل أنها سحبت الشارع أحياناً إلى صفها، وهي بعيدة كل البُعد على تحقيق مستلزمات العروبة، أو الإرتقاء بمتطلباتها، فما بالك إذا انفردت بادعاء الوعي التاريخي بأهميتها، كهوّية خاصة ومكوّن أساسي، لا يمكن اغفالها أو التنكّر لها.

كنت أعجب كيف أن قومياً كردياً أو ماركسياً كردياً يعتزّ بكرديته، “كردايتي” ولا يقابله ماركسي عربي أو شيوعي عربي، الاعتزاز ذاته؟ والأمر يحصل بذات الدهشة لي عندما أقابل ماركسياً أو شيوعيًا روسياً أو تركياً أو إيرانياً أو فرنسيًا، يعتزّ بقوميته، في حين لم نكن نجد وسيلة الاّ وحاولنا فيها الانتقاص من الانتماء القومي، لاسيّما العروبي، ولذلك كررت في مناسبات كثيرة اعتزازي بعروبتي وكأن في ذلك جزء من التعويض عن الحرج عند الحديث عن العروبة لدى أصحابنا من الماركسيين “الأقحاح”، في حين أنني أحترم وأقدّر حقوق القوميات الأخرى، لاسيّما حقها في تقرير مصيرها وقيام كيانيتها المستقلة، في إطار تحوّل ديمقراطي حقيقي ومساواة تامة ومواطنة كاملة، وهذا الأمر هو الذي يؤاخذه عليّ البعض، فإما أن يعتبرني تخلّيت عن ماركسيتي الصارمة “النقية” لحساب الفكرة العروبية، أو أن البعض الآخر يعتبر إيماني بحق تقرير المصير، إنما هو جنوح باتجاه معاكس للعروبة وتأييد للانفصال وتقسيم العراق ودول المنطقة، خصوصاً المتعدّدة القوميات.

وإذا كان حسن الظن متوفراً، الاّ أن دهاليز السياسة وتقاطعاتها قد تذهب أبعد من ذلك، فتعتبر مثل هذا الموقف مجاملة أو ربما تواطؤاً سياسياً مع القيادات الكردية، وقد يذهب البعض أكثر من ذلك (حسب أصحاب نظرية المؤامرة)، بالاتجاه المعاكس في اعتبار الموقف الآخر ممالأة وتساوقاً مع الحركة القومية النافذة أو “القومجية” في دعوتهم للعروبة “المرذولة” كما يعتقدون، وينّم كلا الموقفين من بعض “المتمركسين” أو غيرهم من القوميين من أصحاب النظرة التبسيطية السطحية عن رؤية أحادية، فإما أن يكون الأمر تعبيراً عن جنوح برجوازي أو برجوازي صغير أو تقلّب وقلق، وفي كل الأحوال دليل عدم انحياز كامل أو ثبات راسخ والمقصود بذلك جمود وتقوقع، وتلك سمة الأفكار الشمولية النسقية التي لا تقبل أي قدر من الاجتهاد، لاسيّما إذا بحثنا في الاتجاهين، في حين أن المسألة مركبة ومتداخلة ومفتوحة، بل متغيّرة في إطار الموقف الثابت من الإنسان وحقوقه على المستوى الجماعي والفردي.

وفي إطار حسن الظن أيضاً يمكنني أن أتفهم الاصطفافات المسبقة والجوانب الانفعالية والعاطفية لدى البعض وعدم قدرتهم على قراءة واستيعاب الظاهرة المعقدة والمركّبة، فكيف يستقيم الأمر في كونك عروبيًا وتدافع عن العروبة من خلال فهمك الماركسي النقدي، وأنت في الوقت نفسه مدافع عن حقوق الكرد، لاسيّما المبدأ الحقوقي: حق تقرير المصير، بل وتعتبره الأساس في العلاقة مع الآخر.

وبتقديري لا يمكن تجزئة المواقف، أو تجزئة الحقوق، ومثلما علينا التمسك بحقوقنا، فعلينا الاعتراف بحقوق الآخرين، لاسيّما حقوق المجموعات الثقافية الدينية والإثنية التي تعيش بين ظهرانينا كالأكراد والتركمان والمسيحيين والأمازيغيين وسكان جنوب السودان وغيرهم، باعتبارها نماذج لاحتكاكات وتعارضات قومية ودينية ساهمت في تعطيل التنمية في الوطن العربي، وبخاصة عدم حلّها حلاً ديمقراطياً والاعتراف الكامل بحقوقها السياسية والثقافية واللغوية والسلالية. وكنت وما أزال أعتز بمواقفي الداعمة لحقوق المجموعات الثقافية القومية والدينية، انطلاقاً من ايماني الكامل بحقوق الإنسان، حتى وإن غلبت السياسة أحياناً، فإن البوصلة المرشدة والهادية تبقى هي كل ما يتعلق بالحقوق والحريات.

وإذا كان ماركس وأنجلز قد ربطاً القضايا القومية بإنجاز البروليتاريا لوظيفتها التاريخية، واعتبرا أن ذلك سيضع حداً للاضطهاد القومي، وشدّدا على أن إلغاء الاستغلال الطبقي سيؤدي إلى إلغاء الاستغلال القومي “أزيلوا استغلال الإنسان للإنسان تزيلوا استغلال أمة لأمة أخرى” ، وورد على لسان ماركس “إن شعباً يستعبد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حُراً” وهو الرأي الذي يعتبر سقفاً انسانياً للموقف من حقوق المجموعات الثقافية، الذي أُؤمن به لكن ماركس وأنجلز لم يتمكنا من تطوير مفاهيمهما للمسألة القومية، خصوصاً للبلدان التابعة والمستعمرة بشكل عام، فضلًا عن نظرتها التي تقوم على المركزية الأوروبية، وهو الأمر الذي حاول لينين معالجته لاحقاً.

القومي اللّاماركسي والماركسي اللّاعروبي:

يحتار البعض في تصنيف هذه الخلطة الفكرية حتى وإن كانت منسجمة، فقد اعتادوا على الأحادية، فهو إما مع الاتجاه القومي اللّاماركسي بشأن الموقف من العروبة؟ أو مع الاتجاه الماركسي اللّاعروبي واللّاقومي في الموقف من القضية الكردية ومن مسألة حقوق المجموعات الثقافية بشكل عام؟ وتلك مفارقة النظرة المبسطة الاحادية، ولعل هذه المواقف المركّبة التي اعتزّ بها لا تقدّم النظرية والتصوّرات المسبقة على حساب الواقع الموضوعي، وهو ما اعتبره استشرافاً للماركسية النقدية الوضعية في قراءتها الجديدة للواقع، والتعامل معها كمنهج وليس مسلمات سرمدية.

ولعل التجربة المريرة في البلدان الاشتراكية بشأن حل المسألة القومية لم تكن سوى شعارات ونصوص دستورية وقانونية مفرّغة من محتواها، على الرغم من أن ما وصلنا من معلومات كان دعاية صارخة وضجيجاً لشعارات كبرى ذات رنين أيديولوجي عالي، لم يتم اعتمادها على أرض الواقع، وأصبحت القوميات الكبرى هي السائدة والمتحكّمة في مفاصل الحزب والدولة والقيادات العليا دون اعتبار للمبادئ الأممية.

لم يكن هناك ثمة وعي نقدي لليسار العربي وللماركسيين العرب بشأن الهوية العربية وطبيعة الصراع العربي- “الإسرائيلي”، فإضافة إلى الاتكالية والكسل الفكري وتنفيذ تعليمات المركز الأممي، فقد كان هناك قصور في فهم طبيعة العلاقة من خلال رؤية مركبة ومتداخلة للوعي التاريخي العربي، بجعله جدلياً هادفاً التنوير والتغيير بشروط موضوعية لبلورتها وليس عبر محاولات تفسيرية محدودة وقاصرة.

إن الوعي بحاجة إلى استكمال دورته التاريخية، بحيث يكون نتاجاً وضعياً لما هو مشتركٌ ومُعاشٌ ومُدركٌ، لا ما هو مُحتملٌ وكامنٌ أو غير متكوّن. لقد ظل القصور الماركسي واضحاً بالنسبة للمسألة القومية، لاسيّما ضعف الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ناهيكم عن شكلانية “المشترك” العربي بشكل عام، إنْ كان له مشتركات، ولم يكن الأمر سوى تطقيس للقضية، وليس الانغماس فيها باعتبارها مسألة مركزية يتوقف عليها اندفاع الشعوب العربية نحو التنمية والديمقراطية والوحدة الكيانية، وهو ما كان ينبغي علينا كماركسيين أن نتبناه ونواصله ونحرّض الشارع عليه، في حين كان اهتمامنا بقضايا دولية كبيراً وقد أعطيناها حيّزاً شاسعاً من نشاطنا، وهي لم تكن تستحق مثل هذا القدر من الاستغراق، وتلك مفارقة حيث كان ينبغي انشغالنا الحقيقي بمسألة الوحدة الكيانية بين الأقطار العربية أو بالقضية الفلسطينية، التي هي مفتاح التحرر في المنطقة، كأساس لتحركنا وليس أمراً ثانوياُ أو تكميلياً.

الشيوعية العربية الرسمية والموقف اللّاماركسي!

إذا عدنا إلى الرأي الماركسي باستثناء ارهاصات محدودة، فإنه بشكل عام اقتفى أثر الموقف الستاليني، الذي تبدّل بين عشية وضحاها بالموافقة على قرار التقسيم بعد أن كان يدعو إلى دولة ديمقراطية يتعايش فيها العرب واليهود، وهو الموقف الذي لا أفهم أي تبرير له ماركسياً، إنْ لم يكن هو ضد الماركسية، فكيف لمن يدّعي أنه طليعة البروليتاريا العالمية يوافق على تقطيع أوصال بلد وتسليم ما يزيد عن نصفه إلى مهاجرين جاءوا من أصقاع الدنيا وطرد سكان البلاد العرب الاصليين، إنْ لم يكن ذلك بصفقة قد تمت من وراء ظهورهم بعد اتفاقية يالطا عام 1945، وضمن تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شملت بلداناً ومناطق عديدة.

ولعل الأمر لا يتعلق بالسياسة التي قد تصيب وتخطأ وبالإمكان تصحيح الخطأ، لكن المسألة تتعلق بالتنظير الأيديولوجي الخاطئ، واعتماده باعتباره تطبيقاً للماركسية في ظرف ملموس هذا من جهة، ومن جهة أخرى المصالح السياسية للدولة السوفيتية، وهو الأمر الذي استمر دون نقد ماركسي حيوي من جانب الأحزاب الماركسية الرسمية، بل وأحياناً الاستمرار في تبرير ذلك الموقف الأيديولوجي الخاطئ بتبريرات سياسية ساذجة وخاطئة أيضاً.

وبكل الأحوال فقد كان ذلك خطيئة تاريخية لا يمكن غفرانها، والغريب أن قيادات الأحزاب الشيوعية وافقت عليها وتبّنتها، بل وتحمّست لها (باستثناء الحزب الشيوعي السوداني)، كما ذهب إلى ذلك الحزب الشيوعي السوري- اللبناني والحزب الشيوعي المصري والشيوعيين الفلسطينيين والأردنيين، والحزب الشيوعي العراقي، لاسيّما مطارحات زكي خيري الصادمة للمزاج الشعبي، ناهيكم عن خطئها ماركسياً باعتبار “اليهود أمة” ولها “الحق في تقرير المصير” وبمقارنة أوضاع “إسرائيل” المغتصِبة للحقوق والارض باعتبارها ” دولة ديمقراطية” قياساً إلى البلدان العربية الرجعية، ولأن فيها حزباً شيوعياً علنياً ونقابات مرخّص بها، وهو الموقف الخاطئ الذي كان سائداً في إطار الحركة الماركسية العالمية التي حاول خيري تمثيلها آنذاك رغم وجوده في السجن.

وقد نقل يوسف اسماعيل البستاني، الذي كان يدرس في باريس رأي الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي صدر بعنوان ” أضواء على القضية الفلسطينية” حيث أثّر على توجهات الحزب الشيوعي العراقي، في حين كان قائده وأمينه العام فهد يقبعُ في السجن، إضافة إلى أركان المكتب السياسي وهما كل من حسين الشبيبي وزكي بسيم (اللذان أعدما مع فهد لاحقاً يوم 13- 14 شباط / فبراير 1949).

وكانت لدى فهد ملاحظات عديدة على وثيقة “أضواء”، وقد أمر من كان يقرأها داخل السجن بالتوقّف عن ذلك معبّرًا عن عدم ارتياحه، خصوصًا استغلال مواقف الاتحاد السوفييتي لشن حملة ضدّ الحركة الشيوعية. وقد حاول استشارة خالد بكداش أمين عام الحزب الشيوعي السوري – اللبناني حول الموقف الصحيح، بعد التشوّش والالتباس الحاصل إثر تغيير موقف الاتحاد السوفييتي، وذلك بحدّ ذاته دليل على التململ وعدم القناعة الكافية في اتخاذ موقف أو عدم القدرة في بلورة رؤية تتعارض مع موقف الاتحاد السوفياتي والمركز الأممي، لاسيّما بعد خطاب غروميكو الصادم في الأمم المتحدة، الذي كان انقلاباً في موقف الحركة الشيوعية، حين أيّد قرار التقسيم وقيام دولتين: يهودية وعربية.

ومن المفارقة حقاً أن الاتحاد السوفيتي كان أول دولة في العالم اعترفت “بإسرائيل” بعد قيامها في 15 أيار/ مايو 1948، وبحسب فرق التوقيت فان هناك دقيقة أو أكثر كانت بين صدور قرار الاعتراف، الذي اعقبه صدور قرار “إسرائيل”، الأمر الذي يدّل إذا صحّت هذه الرواية على اتفاق مسبق، وهو الامر الذي سبب احباطاً لدى أوساط واسعة من الماركسيين، وربما حرم قسماً كبيراً منهم من مواصلة عمله مع التنظيمات الشيوعية، خصوصاً وأنه لم يجد مبرراً لذلك الموقف اللاّماركسي، لاسيّما وأن لينين نفسه ردَّ على من يقول بأن اليهود يشكلون أمّة ووقف ضد الشيوعيين اليهود الروس “البوند” لتأسيس تنظيم خاص بهم، معتبراً ذلك تقسيماً للطبقة العاملة وكان ماركس يردد: لا تبحث عن سر اليهودي في الدين، بل ابحث عن سر الدين في اليهودي.

ولعلها كانت مفاجأة عندما استدارت الأحزاب الشيوعية المشرقية وأصدرت بياناً مشتركاً بالموافقة على قرار التقسيم بعد موافقة الاتحاد السوفيتي وهو نقيض لمواقفها السابقة، في حين كانت تعتبره مؤامرة استعمارية وتدعو إلى التضامن لإحباطه وإقامة الدولة الديمقراطية الموحدة، التي يتعايش فيها العرب واليهود بمراعاة الأخيرين كأقلية متميزة.

ويروي منير شفيق في مذكراته “من جمر إلى جمر” أن فؤاد نصّار الذي كان عضوًا في المكتب السياسي لعصبة التحرّر الوطني (الحزب الشيوعي الأردني) ومسؤولًا عن جريدة الحزب، وكان حينها ينام في المطبعة، وقد كتب مقالةً يندّد فيها بقرار التقسيم للعدد الجديد من الجريدة، لكن عامل المطبعة الذي كان يصفّ الحروف قام بإيقاظه الساعة الرابعة صباحًا، قائلًا له يا رفيق أبو خالد: لقد وافق الاتحاد السوفييتي على قرار التقسيم، فقام كمن لسعته أفعى، وطلب منه التأكّد من محطّة إذاعة موسكو والمحطات الأخرى، وحين توثّق من ذلك سحب مقالته المندّدة بقرار التقسيم، وكتب مقالة مؤيّدة للقرار، وهكذا صدر العدد الجديد. ولعلّ تلك إحدى مفارقات علاقة الأحزاب الشيوعيّة بالمركز الأممي.

وللأسف الشديد لم يبادر الشيوعيون والماركسيون العرب إلى تصحيح ذلك الموقف الخاطئ، والأقرب إلى الخطيئة نظرياً وعملياً، بل كانوا يزوغون عنه كلّما جرى الحديث عن القضية الفلسطينية على الرغم من تضحياتهم الجسام، وتراهم بحماسة منقطعة النظير يرددون ويستذكرون “الانذار السوفيتي” عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر “انذار بولغانين” وتسليح بعض البدان العربية، والموقف من حرب الاستنزاف، وهي كلها مواقف مشرّفة للاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية العالمية، في حين أن النقاش كان يتعلّق بقرار التقسيم، بل أن بعضهم يبرّر بسذاجة وسماجة قائلاً: ألم تكن الموافقة على قرار التقسيم أفضل من عدم الحصول على شيء؟ ألا يتمنى العرب حالياً العودة إلى قرار التقسيم 181 لعام 1947؟ ألا يكفي مزاودةً وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، حيث ضاعت نصف فلسطين بموجب القرار، وأصبحنا نوافق على 22% منها حسب اتفاقات أوسلو لعام 1993، التي لم تنفذها “إسرائيل” !؟

وكأنهم يريدون القول أن مواقف الحركة الشيوعية كانت “ماركسية” وأنها لا تخطئ، مقدِّمين تبريرات تتعلّق بتفضيل مصالح الدولة السوفياتية على مصالح الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة، وغير القابلة للتصرّف، ولم توجد هناك سابقة قانونية بحيث تقوم الأمم المتحدة بإنشاء دولة على حساب سكان البلدان الأصليين، وتتعهد هذه الدولة باحترام ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، لكنها تتنكّر لذلك بما فيها لقرار التقسيم نفسه وللقرار 194 الخاص بحق العودة لعام 1948 وللقرارات 242 لعام 1967و338 لعام 1973 وغيرها من القرارات دون أي إلزام أو إكراه أو عقوبات من مجلس الأمن والأمم المتحدة.

وإذا كان هذا الموقف الخاطئ قد اتخذه الشيوعيون العرب، فالقوميون كذلك انساقوا وراء موقف خاطئ آخر، لأنهم لم يميّزوا بين الصهيونية كأيديولوجيا وبين اليهودية كدين. وإن تمسّكوا بالحق الفلسطيني شكليًا، لكنهم رفعوا شعارات أقل ما يقال عنها دونكيشوتية مثل “رمي اليهود في البحر”، لكنهم حين وصلوا إلى السلطة قاموا بقمع شعوبهم وتكبيل حركتها، بل والتآمر أحياناً على القيادة الفلسطينية المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف)، كما قننت حركتها واغتالت بعض قياداتها.

وإذا كان الموقف الأول صحيحًا من الصهيونية كحركة رجعية والتفريق بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كعقيدة، لكن هذه المواقف ضاعت وتبددت عند تأييد الشيوعيين قيام دولة “إسرائيل”، باعتباره انسجاماً مع مبدأ حق تقرير المصير ومنه حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره وقيام دولته الخاصة، وأحياناً بررنا ذلك بالشرعية الدولية وبمواقف الاتحاد السوفيتي، التي تعتبرها الادارات الحزبية المحك “الحقيقي” الذي تقيس به الخطأ والصواب، والأكثر من ذلك تفسيرنا هذا الخطأ النظري وفقاً للماركسية، الأمر الذي يتناقض مع جوهرها ومحتواها.

كان تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية في العراق العام 1946، من جانب شخصيات يهودية عراقية توجهاً صحيحاً ونقضًا للرواية “الإسرائيلية”، فضلًا عن انضمام شخصيات عراقية يسارية إليها، لكن هذا التوجّه تم تسويفه في المواقف اللاحقة التي تم اتخاذها والتي ألحقت ضرراً كبيراً بالحركة الشيوعية، علمًا بأن فهد (يوسف سلمان يوسف) أمين عام الحزب الشيوعي ورفاقه دفعوا حياتهم ثمن موقفهم من الصهيونية يوم تواطأت بريطانيا والإمبريالية العالمية والصهيونية والقوى الرجعية والمتعصّبة وقامت بإعدامه بعد إعادة محاكمته وتنفيذ حكم الإعدام خلال شهر ونصف من صدوره.

كنت قد قلت في كتابي “تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف”: لو قدّر لي أن اعيش مرّة أخرى، لأعطيت العمر كلّه للقضية الفلسطينية النبيلة، باعتبارها المحور لقضية التحرر العربي على المستوى القومي وستكون التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاشتراكية في المنطقة ككل غير مضمونة أو ثابتة دون حل عادل ومشروع للقضية الفلسطينية. ومثل هذا الشعور صاحب جيلنا المتمرد القلق المتعطش إلى التغيير.

القوموية والماركسيوية:

أجدُ في مراجعة مواقف الحركة الشيوعية من القضية الفلسطينية مسألة حيوية، وهي تتفق مع ما كنت أتمناه، لاسيّما تخطئة موقف الاتحاد السوفيتي من قرار التقسيم الذي لم أكن مقتنعا به، وكان ذلك أحد همومي الفكرية آنذاك، وقد كبُر معي واتخذ بُعداً نفسياً، لاسيّما بعد عدوان 5 حزيران/ يونيو العام 1967، ولهذا تناغمت وبحماسة مع المواقف الناقدة حتى من القوى الأخرى، وخصوصًا مع بعض أطروحات المقاومة الفلسطينية، وقد تبلورت مواقفي لاحقًا، وخصوصًا مع بعض المراجعات التي أجرتها بعض الأحزاب الشيوعية مثل مجموعة القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي اللبناني وموقف الحزب الشيوعي السوداني المتميّز.

ما كنت أريد أن أقوله وأنا أستغرق في نقض الرواية الصهيونية وتفنيد مسوّغاتها القانونية والفكرية، بأن مواقف الحركة الشيوعية بحاجة إلى إعادة نظر لتقويمها وتعميقها، ونبذ ما هو خاطئ وسلبي منها وتعزيز وتطوير ما هو إيجابي، في ضوء المنهج، وكنت أريد نقد مواقف القوى القومية أيضاً التي تعكّزت على مسألة فلسطين لتصادر الديمقراطية وتعطّل التنمية وتؤجل الاستحقاقات الاجتماعية الضرورية، ليس هذا حسب، بل أن الهم الرئيسي لبعضهم أحياناً كان هو القضاء على الشيوعية بدلاً من اعتبار الصهيونية والإمبريالية، الخطران الأساسيان،.

ولعل العودة إلى بعض كتابات تلك المرحلة، تراها تقارب مثل هذه الاطروحات الخاطئة، على الرغم من أنها كانت هي الأخرى محكومة بظروف الصراع اللاعقلاني الذي ساد بين التيارين الماركسي- الشيوعي من جهة والقومي- البعثي من جهة أخرى.

خطوط المقاومة ماركسياً!

كيف يمكن أن نعطي لمواقف الحركة الشيوعية من القضية الفلسطينية نكهة “ماركسية” متميزة. وهو ما كنت أتمناه من صميم قلبي، وقد حاولت التعبير عنه بتواضع شديد فيما كتبت وحاضرت وساعدت في تأهيل كوادر ثقافية فلسطينية على مدى سنوات طويلة، ناهيك عن بلدان الشتات والمخيّمات وفي المنافي البعيدة أيضاً، إضافة إلى الجهود التي بذلتها على صعيد المنظمات الدولية والمؤتمرات الحقوقية العالمية، هذا على الصعيد الفكري.

أما على الصعيد العملي فقد كانت علاقتي طيبة مع منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) وكنت متفرغاً لها كباحث ومستشار دون أن يلزمني ذلك بشيء، كما كانت علاقتي وطيدة مع الجبهة الشعبية وقياداتها ومجلة الهدف بشكل خاص وعميقة مع الجبهة الديمقراطية وكياناتها وراسخة مع فتح وإداراتها، ولديّ مراسلات مع أبو عمار “ياسر عرفات”، وتواصل مستمر مع جورج حبش وقيادات فلسطينية عديدة، إضافة إلى علاقات مع جبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير الفلسطينية (جماعة أبو العباس) ومع الجبهة الشعبية- القيادة العامة وفتح الانتفاضة وحماس والجهاد من خلال خالد مشعل وموسى أبو مرزوق ورمضان شلّح وآخرين، الّا أن مواقفي مستقلة وأضع مسافة بيني وبين جميع الأطراف.

ومنذ نحو أربعة عقود من الزمان وأنا أُعلن وأُجاهر بموقفي هذا الذي استُكمل بعد تململات وارهاصات واعتراضات سبقته بنحو عقد واحد على الأقل، والأكثر من ذلك بمعاناة فائقة حتى اكتملت الصورة بالدراسة والبحث والتمحيص، بل والاستقلالية في بلورة موقف منسجم مع وجداني من جهة ومع الوضعية النقدية الماركسية التي أعتقد أنها مناسبة لتقييم الموقف من جهة أخرى، وإذا كنتُ قد أشرت إلى خطل الموقف الستاليني السوفيتي وذيوله نظريًا وعمليًا، فثمة أسباب كنت قد جئت عليها، تقفُ في مقدمتها مصالح الدولة السوفيتية ووجود بعض الموظفين اليهود الكبار في إدارات وزارة الخارجية، وربما بعضهم كان متعاطفاً مع الصهيونية، وذلك قبل مذبحة الأطباء اليهود والتصفيات التي طالتهم، كما أنه لم يكن بمعزلٍ عن المزاج الشخصي لستالين والارتياحات الخاصة التي تكون قد أثرّت عليه.

ومن المفارقة أن هذه الآراء التي قلتها في محاضرة لي في مركز الدراسات الفلسطينية في دمشق أواسط الثمانينيات ونشرت في صحيفة الحقيقة في بيروت، كان قد قال بها أيضا مفكر سوفيتي معاد للصهيونية يدعى يفيسيف، حيث نشرت جريدة الثورة السورية مقابلة معه بعد بضعة أسابيع من محاضرتي تلك، لكنها لم تُكمل نشر القسم الثاني كما وعدت، ولعل ذلك كان يعود إلى ضغوط من السفارة السوفيتية في دمشق بعد نشر القسم الأول.

وظنّ البعض أن اتجاهي ذاك قد يكون متأثراً بالاتجاه السوفيتي الجديد، لاسيّما وقد شهد عهد أندروبوف تأسيس اللجنة الاجتماعية لمناهضة الصهيونية، وكنت قد عملت مع مجموعة متميّزة من المثقفين العرب وعلى هامش ندوة فكرية لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في دمشق، لتأسيس اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية، الصادر في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، والتي ضمت نخبة رائدة بينهم ناجي علوش وإنعام رعد وعبد الرحمن النعيمي وسعدالله مزرعاني وصابر محي الدين وغازي حسين وعبد الهادي النشاش وعبد الفتاح ادريس وغطاس أبو عيطة وجورج جبّور وكاتب السطور وآخرين، حيث تم اختياري أميناً عاماً للجنة، ثم تحولت اللجنة إلى “اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية”، خصوصاً بعد تحذيراتنا من احتمال اعدام القرار 3379، وهو ما حصل بالفعل، بعد تغيّر ميزان القوى على المستوى الدولي ونكوص الكتلة الاشتراكية وإعادة علاقة “إسرائيل” بنحو ثلاثين دولة كانت قد قطعت علاقاتها معها، إضافة إلى إعادة علاقاتها بحميمية غريبة مع الدول الاشتراكية السابقة. وكنت قد عبّرت عن ذلك برسالة خاصّة إلى الرئيس أبو عمّار في نهاية العام 1988، وهو ما أتبعته ببحث منشور في مجلّة شؤون فلسطينية والموسوم ” العام 1990 وإعدام القرار 3379″ وذلك في العام 1990، وأرفقته برسالة أخرى إلى الرئيس أبو عمّار.

من المفارقة ان العالِم السوفيتي يفيسيف عُزل من منصبه في أكاديمية العلوم السوفيتية، ثم سُحبت شهادته بعد اتساع النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي لاتهامه بمعاداة السامية، حيث تم استغلال دعوات الشفافية وأجواء الانفتاح والنقد في عهد الغلاسنوست (العلانية) والبريسترويكا (إعادة البناء) لشن حملة ضد الشخصيات المعادية للصهيونية، وأخيراً وجد مقتولاً في إحدى ضواحي موسكو في ظروف غامضة عام 1990، وفي حينها كتبتُ نعياً له، وكنتُ قد أشرت اليه أيضاً في كلمتي بعد رحيل جورج حبش المنشورة في صحيفة السفير اللبنانية “الاستثناء في التفاصيل أيضاً” (2008).

مراجعات ضرورية:

ظلّت العديد من الأوساط في الحركة الشيوعية تهرب إلى التاريخ خشية من مناقشة الراهن والمستحق من المسائل التي تتعلّق بالقضية الفلسطينية، ولكن ليس إلى تاريخنا، بل إلى تاريخ ماركس ولينين وحتى ستالين إلى سنوات الستينيات وبعضهم إلى تاريخ ماوتسي تونغ حسب الولاءات، وليس إلى الماركسية (المنهج المادي الجدلي) كجزء من تاريخ الفكر الاشتراكي أو إلى جدليتها في فهم الموقف القومي، لتقتبس منه ما يشفي غليلها لكي ترد على الآخرين وتفحمهم كما تعتقد، مثلما كان التاريخ ملاذاً لأصحابنا الإسلاميين أو الإسلامويين، فتراهم يستعيدون الإسلام الأول الراشدي، لكي لا يناقشون الحاضر، في محاولة تمجيدية للماضي وهروب من الحاضر، ومثلما يفعل إخواننا القوميون الكلاسيكيون أو القومويون، حين يدللون على عظمة الامة بالعودة إلى التاريخ والفتوحات والانتصارات والإمبراطورية الإسلامية، أو بتقديس كل ما قام به جمال عبد الناصر الزعيم العربي الكبير، وأخذ ذلك كمسلّمات دون نقد أو حتى تفكير بخطأ أو مراجعة للتجربة بعقلية منفتحة. ولعلّ عبد الناصر الذي توفي في 28 أيلول/ سبتمبر العام 1970 كان أكثر تقدماً من بعض الاتجاهات القومية الناصرية التقليدية، وهي التي جاءت بعده بعدّة عقود من الزمن لدرجة تعتقد وكأن الزمن توقف لديها!

وتصطدم أيضاً حين تلاحظ مواقف البعثيين في الخمسينيات والستينيات، فقد كانت أكثر تقدماً من مواقف الكثيرين منهم في التسعينيات أو حتى اليوم، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعة ونقد للاتجاهات والتيارات “الماركسية” و”القومية” و”الإسلامية”.

ولعل التشوش “الماركسي” إزاء المسألة القومية وسيادة الفكر الجاهز والموقف الاستباقي المستعار، والسعي للتقليل من شأنها هو الذي دفعني لمقاربتها، لا من خلال التاريخ حسب، بل من خلال الراهن والآتي والاستشراف المستقبلي، لاسيّما وأن هذا الحقل ظلّ وكأنه حكرٌ على بعض الكتابات “القومية” بما فيها المتعصبة، وابتعد عنه كتاب ماركسيون حداثيون ومجددون ولم يخوضوا فيه، نظراً لعقباته وموانعه حسبما يعتقدون.

وهكذا راجت السوق بكتابات قومية بعضها لم يكن سوى هجوماً ضد الماركسية، مثلما كانت مقاربة الماركسيين هجومية أيضاً للفكرة القومية، خصوصاً بعد العام 1958، وهي مقاربة متعارضة لا تخلو من مشاكسة لتبيان فضائل الأممية على القومية، خصوصًا الابتعاد عن توجّهات الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي في ظلّ قيادة سلام عادل العام 1956، وصدور وثيقة مهمة عنه بعنوان “مهماتنا في التحرر الوطني والقومي في ضوء المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي”، والذي كان قد كتبها عامر عبدالله في حينها كما أخبرني، بالتوافق مع سلام عادل وتوجيهاته، وكان ذلك يمثّل توجهًا جديدًا عروبيًا ومراجعة أوليّة لمواقفنا من القضية الفلسطينية، لكن هذا الموقف غاب أو غيّب في ظروف الصراع ما بعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، وقد نشرت هذه الوثيقة التاريخية في كتابي الموسوم “سلام عادل: الدال والمدلول وما يبقى وما يزول”، وذلك بعد مرور نحو 6 عقود على صدور هذه الوثيقة.

الوحدة العربية:

لعل الموقف من القضية العربية، لاسيّما موضوع الوحدة أو الاتحاد ظلّ يمثل عنصر ضعف لدى الحركة الشيوعية بشكل عام وقد كانت مآخذ الحزب الشيوعي السوري على وحدة مصر وسوريا وتأسيس الجمهورية العربية المتحدّة ومقاطعته هي التي شكّلت سقف توجّهات الأحزاب الشيوعيّة العربية، دون النظر إلى الأبعاد الاستراتيجية والجيوسياسية والاجتماعية والاقتصادية لقيامها. وإن تميّز الحزب الشيوعي السوداني بدعوته الصريحة اليها، وفيما بعد ومنذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات حصلت تطورات مهمة لدى الشيوعين اللبنانيين في مسألة الوحدة العربية والقضية الفلسطينية عموماً، إلّا أن النظرة السائدة ظلّت قاصرة وتعكس قراءة مغلوطة للمنهج الماركسي وفهماً مسطحاً لأطروحاته ونصيّته في غير مكانها، خصوصاً وقد كان ماركس يتحدث عن القومية بمنظار أوروبي وليس بمنظار التحرر القومي.

أجد نفسي ألتقي في هذه القضية مع المفكر السوري الماركسي العروبي ياسين الحافظ رغم أنه جاء في الزمن الخطأ وبأدوات غير مكتملة، حين حاول دمج الوطني بالاجتماعي والقومي بالطبقي، في إطار حركة عربية ماركسية. ولعلّ القيادة المركزية للحزب الشيوعي كانت قد تبنّت مواقف مقاربة بعد انشطار الحزب عام 1967، لاسيّما بخصوص القضية الفلسطينية.

وكنت أظن أن الموقف من الوحدة العربية نظرياً وعملياً، لاسيّما من جانب بعض القياديين الشيوعيين اختلف عمّا كان عليه عن أطروحات الخمسينيات والستينيات، لكنني صُدمت بمواقف بعضهم ممن ظلّ مشدودًا إلى الماضي ويعتبر الوحدة أُقيمت قسريًا وبشروط وبخصوصيات مختلفة ويعتبرها: من أخطر المغامرات التي وقع فيها الرئيس جمال عبد الناصر وكرّرها أكثر من مرّة تتويجاً لأحلامه التي تضمنها كتابه “فلسفة الثورة”، ومثل تلك الأطروحات وغيرها وردت على لسان العديد من القيادات الشيوعيّة التي كتب بعضهم مذكراته.

وكانت بعض الأصوات الماركسية أو المتمركسة قد تساوقت مع التوجهات التي حاولت ازدراء العروبة وتحميلها آثام الحكام الدكتاتوريين، لاسيّما بعد احتلال العراق، الأمر الذي يطرح مجدداً الحاجة إلى وقف نقدي ماركسي من القضية القومية والوحدة الكيانية، بعيداً عن الارتياحات أو الصداقات الشخصية أو المصالح الآنية من خلال اعادة قراءة تاريخنا “الماركسي” قراءة صحيحة، بالارتباط مع التجربة التاريخية وما أفرزه احتلال العراق من اصطفافات وما تركه انهيار الاتحاد السوفياتي من مراجعات.

كان على الماركسيين العرب تبنّي شعار الوحدة العربية ذات المضمون الاشتراكي والدعوة إلى تحقيقها بالأسلوب الديمقراطي، خصوصاً وأنها ستسهم في وحدة الطبقة العاملة العربية وكادحي البلدان العربية، الذين يمكن باتحادهم ودورهم بالنضال الوطني والقومي الإسهام على نحو أكبر بالنضال الاجتماعي والطبقي.

ولذلك كانوا هم الأجدر في استقطاب الجمهور لشعار الوحدة العربية، لا الوقوف ضدها تصريحاً أو تلميحاً أو التشكيك فيها أو وضع عقبات أو شروط عند استحقاق قيامها كما هي نقاط خالد بكداش الثلاثة عشر عشية وحدة مصر وسوريا ( قيام الجمهورية العربية المتحدة شباط / فبراير 1958)، أو رفع شعار بديل عنها وهو الاتحاد الفيدرالي في العراق 1958-1959، في حين أن مشاعر الجماهير التي ألهبها عبد الناصر ومعارك السويس البطولية كانت كلّها تهتف للوحدة. وكان عدم حضور جلسة انعقاد البرلمان السوري من جانب خالد بكداش، حيث تم التصويت على قرار الوحدة نقطة ضعف كبيرة ظلّت تلاحق الشيوعيين العرب، حتى وان دعوا إلى قيام وحدة على أساس ديمقراطي تخدم مصالح الجماهير الواسعة لكنهم عملياً لم يكونوا معها.

علينا أن نستعيد بعض الشعارات الصراعية التي تنابز بها القوميون والشيوعيون، وقد كان الأخيرون يهتفون بعد أحداث الموصل 8 آذار/ مارس 1959 وما أعقبها من حملة قمع ضد التيار القومي: “شيلوا سفارتكم ما نريد وحدتكم”، إشارة إلى مشاركة مصر عبد الناصر في دعم حركة العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابية، وبالمقابل كانت الهتافات القومية والبعثية تصدح: “فلسطين عربية فلتسقط الشيوعية”. وهكذا استبدل كلّ منهما العدو الإمبريالي والصهيوني بالحليف الوطني حتّى وقت قريب، وتحوّل الصراع الثانوي إلى صراع أساسي إقصائي وإلغائي، الأمر الذي أضعف الجميع وحوّل الأنظار عن القضيّة الأساسية (فلسطين).

إن القراءة الماركسية السليمة ستؤكد أن المستفيد من الوحدة سيكون أصحاب المصلحة الحقيقية، لاسيّما من الطبقات والفئات الفقيرة، ناهيك عن الأمة العربية ككل، إذ أن وجود كيان عربي كبير يمكن أن يسهم بفاعلية على المستوى الدولي سياسياً واقتصادياً، ولذلك فمن الأجدر والأبعد نظراً أن يكون الماركسيون هم أول دعاة الوحدة العربية والمدافعين عنها.

وثمّة من كان يمتلك بُعد نظر من اليساريين العرب الاوائل، ففي العام 1934 انعقد في مدينة زحلة اللبنانية الجميلة مؤتمراً ليسارييّ المشرق العربي تحت شعار الوحدة العربية، وكان الشيوعي اللبناني العروبي سليم خياطة هو المبادر لجمع المثقفين اليساريين، بمن فيهم من كان أميل إلى التيار القومي وبينهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وقد حضر الاجتماع فؤاد الشايب وكامل عياد ونيقولا شاوي ويوسف خطار الحلو ومصطفى العريس، وصدر عنه بيان يدعو إلى الوحدة العربية ويحدد شروطها وأهدافها، وقامت مجلة الطليعة بنشرها، وكان سليم خياطة يدرك باستشرافه المستقبلي كماركسي نقدي أين تتجه الطريق في المشرق، فأراد إطلاق حركة تقدميّة عربية تتفاعل مع احتياجات الأمة العربية وتنطلق منها، خصوصاً بوجه يساري وعروبي ومستقل عن محاولات الكومنترن وسياسته “المركزية” المتشددة.

وعلى الرغم من أن وجهة المؤتمر كانت تستقطب مثل هذا التوجه وتلتف حوله، الاّ ان الكومنترن لم يكن مرتاحاً له لأنه لم يتلقّ التعليمات منه، حيث بادر إلى اعتماد القائد الشيوعي السوري خالد بكداش من موسكو، ليقود اتجاهاً مضاداً لمؤتمر زحلة، ويعيد الماركسيين إلى حظيرة الكومنترن، وهو الأمر الذي انعكس على ” التعاون” مع دول التحالف ضد النازية: بريطانيا وفرنسا، في حين اتجه التيار القومي للتعاون أو للإقتراب من دول المحور، لاسيّما ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.

وقد تعرّض سليم خياطة بعد ذلك إلى حملة ظالمة وشديدة كما هي العادة لأصحاب الرأي، وقد اتهم بالجنون بعد محاصرته طويلاً، ومن يقرأ كتاب خياطة “حميّات في الغرب” يتوصل إلى استنتاجات مثيرة في قدرة هذا الرجل على استنباط موقف ماركسي حيوي من خلال بصيرة ثاقبة وتحليل عميق لأزمة الغرب الرأسمالي، فضلاً عن نظرته العروبية الماركسية لمهمات التحرر والانعتاق القومي والوحدة الكيانية.

لعلّ تلك مجرّد ملاحظات أوّلية في مراجعة مواقف اليسار العربي إنطلاقًا من النقد والنقد الذاتي من المسألة القومية من خلال قراءة جديدة ورؤى نقدية دون أن تقلّل هذه الملاحظات من مساهمة التيّار اليساري والماركسي خصوصًا وحيويّته الفائقة في إثارة أسئلة كبيرة في مواجهة الواقع العربي، ناهيك عن تضحياته وكفاحه ضدّ الإمبريالية ومشاريعها ومخطّطاتها.

………………..

(-) نُشرت في مجلة الهدف الفلسطينية العدد 45 (1519) في كانون الثاني/ يناير 2023، ويمكن الاطلاع على كامل العدد على الرابط:

https://hadfnews.ps/uploads/documents/71vo3.pdf

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب أكاديمي ومفكر عراقي

المصدر: الحوار المتمدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.