الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مأساة الطبقة العاملة في سورية

جوزيف ضاهر *

◉ تراجع دور الأجور في إنتاج الثروة طيلة فترة الحرب، وبلغت حصّة الأجور من الدخل القومي 20 في المئة بينما شكّلت الأرباح والإيجارات النسبة المتبقّية.

◉ الدور المؤثّر الذي منحه النظام للاتحادات العمالية والفلاحية لم يكن هدفه تعزيز مصالح هذه الفئات بل تعزيز شبكاته ونفوذه وسيطرته.

بعد أكثر من 11 عاماً على انطلاق الصيرورة الثوريّة السوريّة، تستمرّ معاناة الطبقة العاملة والشعبيّة في الازدياد. فقد احتاج نحو 14,6 مليون شخص (67,3 في المئة من السكّان)، من بينهم نحو 12 مليون شخص يعاني من انعدام الأمن الغذائي (55,3 في المئة من السكّان)، إلى المساعدة الإنسانيّة في شباط 2022. ويعيش 90 في المئة من الشعب السوري تحت خطّ الفقر.

كان العمّال الريفيّون المهمّشون والموظّفون المدنيّون وأصحاب الأعمال الحرّة في طليعة الانتفاضة السوريّة، لكن هذه الشريحة من السكّان لم تكوِّن تنظيمات على أساس هويّتها الطبقيّة، بل بقي النشاط الجمعي الذي يقوده العمّال محدوداً، حتّى حين تردّى وضعهم الاجتماعي نتيجة النزاع المُسلّح. وما زال غياب تنظيمات العمّال المُستقلّة أمراً واقعاً حتّى الآن، على الرغم من تصاعد الانتقادات والاحتجاجات (حتّى لو كانت محدودة) ضدّ السياسيّات الاقتصاديّة للحكومة.

تحاول هذه الورقة الإحاطة بأوضاع العمّال في سوريا، والأسباب التي منعت نشوء حركة عمّاليّة أو فعل عمّالي جمعي أثناء الانتفاضة أو في الأعوام اللاحقة لها.

عهد حافظ الأسد – الانفتاح ونهاية الدور المُستقلّ للنقابات العمّاليّة:

في أواخر ستينيّات وأوائل سبعينيّات القرن الماضي، أدخل الجناح الجذري لحزب البعث سياسات (مثل الإصلاح الزراعي، والتأميم، وخلق قطاع عامّ واسع) وضعت حدّاً للتفاوت الطبقي الراسخ، وأوجدت نظاماً للضمان الاجتماعي والخدمات الحكوميّة المجّانيّة، والتعليم والطبابة المجّانيين. تحسّنت الظروف المعيشيّة للعمّال والفلّاحين، لكن لم يُسمَح لهم بالاستقلاليّة. حارب النظام النزعة التمرديّة داخل النقابات العمّاليّة وحركات المعارضة ضدّ النظام البعثي في الستينيّات، والتي قادها الشيوعيون والناصريون في معظم الأحيان. لم تُمنح الطبقة العاملة تمثيلاً سياسياً مُستقلّاً في الدولة البعثيّة، ولم يكُن بإمكانها المشاركة في عمليّة صنع القرار السياسي. وبطريقة مماثلة، استَبعَد حزب البعث بعد تأسيسه عام 1964 غير البعثيين من الاتحاد العامّ للفلّاحين.1

ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، أُنهِيت تلك السياسات، وتمّ التوجّه نحو كسب دعم القطاع الخاصّ وتأييده عبر تطبيق إجراءات تدريجيّة لتحرير الاقتصاد. وفي الوقت نفسه، فُرِضت إجراءات تقشّفيّة حادّة، ووُضِع سقف للتوظيف في القطاعين العامّ والإداري، ولم ترتفع الأجور بما يتناسب مع التضخّم. انخفض الدعم عن مستهلكي المواد الزراعيّة والصناعيّة بشكل كبير في الثمانينيّات والتسعينيّات، وتراجعت نسبة الإنفاق الحكومي من الناتج المحلّي الإجمالي من 48 في المئة إلى 25 في المئة بين عامي 1980 و1997. 2  هكذا تمّ تسريع الانتقال من الاقتصاد الرأسمالي الموجّه إلى رأسماليّة المحاسيب في الثمانينيّات والتسعينيّات بسبب التخلّي التدريجي عن الاقتصاد الموجّه مركزيّاً.3  وشهدت نهاية التسعينيّات تفاقماً في المشاكل الاجتماعيّة-الاقتصاديّة: إذ ارتفع معدّل الفقر إلى 14,3 في المئة عامي 1996-1997، وانخفضت القوّة الشرائيّة لدى العمّال بنسبة 12 في المئة سنوياً بين عامي 1994 و2000. 4

كانت سياسات التقشّف والانفتاح الاقتصادي مُمكنة بفعل قمع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، ومن ضمنهم نقابات العمّال والفلّاحين. بعد انقلاب حافظ الأسد عام 1970، أصبحت النقابات العمّاليّة، تدريجيّاً، أداة تساعد النظام في تنفيذ السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة، والسيطرة على القوى العاملة بدلاً من الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة.

في عام 1972، وصف مؤتمر الاتحاد العام لنقابات العمّال5  دور النقابات العمّاليّة في دولة البعث بـ “السياسي”. بعبارة أخرى، قُيِّد أي دور سياسي مُستقلّ للنقابات، وأصبحت المطالب الماديّة خاضعة للضرورة العليا المُتمثّلة في زيادة الإنتاج والمساهمة في النضال من أجل التحرّر وبناء الأمّة. أصبح النضال المطلبي عملاً سلبيّاً في قاموس ما يُسمّى النظام “الإشتراكي” الموجود في سوريا، وصنِّف عملاً “تخريبياً” ضمن النهج “الإشتراكي”.

في نيسان 1980، حُلَّت جميع النقابات المهنيّة (مثل نقابات المهندسين والمحامين والأطباء) بمرسوم أصدره النظام، وأسّس جمعيّات مهنيّة جديدة وعيّن قادتها. وفي الوقت نفسه، اشتدّت حملات القمع ضدّ النقابيين المُنتسبين إلى أحزاب المعارضة أو المرتبطين بها، والذين فازوا في انتخابات 1978 و1979 بعد التنافس مع مرشّحين بعثيين رسميين. استُهدِف هؤلاء لأنّهم لعبوا دوراً هامّاً في مواجهة السياسات الاستبدادية للحكومة في السبعينيّات وبداية الثمانينيّات عبر تنظيم الإضرابات والمظاهرات، وبسبب تعاطفهم الصريح مع المعارضة اليساريّة والديمقراطيّة أو انتمائهم إليها.

في عام 1985، دعم الاتحاد العام لنقابات العمّال قانوناً خاصاً بموظّفي القطاع العامّ، فرض عليهم الالتزام بأهداف دولة البعث، وحظر الإضرابات المخالفة للقانون. وفي عام 2004، صدر قانون خاصّ بموظّفي الدولة يتضمّن التوجّه السياسي ذاته. يتكوّن الاتحاد العام لنقابات العمّال من ثماني نقابات6 . وتُعدُّ عضويّة الاتحاد إلزاميّة تقريباً على موظّفي القطاع العامّ، وكذلك على جميع منظّمات العمّال، على الرغم من أنّ تأثيره محدود جدّاً في القطاع الخاصّ.

عزّز الاتحاد العامّ لنقابات العمّال والاتحاد العامّ للفلّاحين، على امتداد العقود الماضية، قدرتهما على حشد عضوياتهما لاستمرار الجهود الإنتاجيّة، وتأمين الدعم لسياسات النظام الخاصّة بالطبقة العاملة، وتوفير الحماية للنظام كلّما لزم الأمر. على سبيل المثال، تعاون الاتحاد العام لنقابات العمّال مع الأجهزة الأمنيّة في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي لقمع العديد من النشاطات والتحرّكات العمّاليّة غير المُنظّمة في القطاعين العامّ والخاصّ احتجاجاً على ظروف العمل المتردّية، بينما حشد الاتحاد العام للفلّاحين أعضاءه للالتحاق بالقوى المُسلّحة بغية سحق التمرّد في مدن عدّة في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات.

بيد أنّ الاتحاد العام لنقابات العمّال والاتحاد العامّ للفلّاحين كانا يُقدّمان خدمات اجتماعيّة لافتة لأعضائهما ولشرائح أخرى من السكّان، وهي خدمات مجّانيّة عادّة أو بتكلفة ضئيلة مقارنة بالبدائل المؤسّسيّة. وكان الاتحاد العام لنقابات العمّال، على وجه الخصوص، فعّالاً جدّاً فيما يخصّ خدمات الصحّة العامّة.

أيضاً، ساهم النظام السوري خلال عهد حافظ الأسد في تعزيز انقسامات الطبقات الشعبيّة عبر سياسات طائفيّة وعنصريّة. زاد نظام الأسد منذ العام 1970 التمييز المُمارس بحقّ الأكراد على سبيل المثال، واعتبروا مواطنين من الدرجة الثانية، بحيث لم يسمح لهم بتعليم لغتهم، ولا الاحتفال بتقاليدهم، وأي مخالفة لهذه القوانين يُعاقب عليها بالسجن لنحو 10 سنوات. بالإضافة الى ذلك، بين العامين 1972 و1997، أُرسِل نحو 25 ألف مزارع عربي، ممَّن تضرّرت منازلهم من الفيضان الذي سبّبه بناء سدّ الطبقة،  إلى الجزيرة العليا وأسكِنوا في بلدات نموذجيّة وحديثة موازية للبلدات الكرديّة المُفقرة. تمتّعت هذه القرى والبلدات الحديثة بالمياه والكهرباء والمستشفيات والمدارس والطرقات، بينما حُرِمت البلدات الكردية من جميع هذه الخدمات تقريباً. أيضاً غيّرت الحكومة السوريّة أسماء المناطق الكرديّة واستخدمت لها أسماء عربية، وكذلك منعت الأهالي من تسجيل أبنائهم وبناتهم بأسماء كرديّة. كانت سياسة الحزام العربي تهدف فعلياً إلى بناء حزام اجتماعي يقفل أو يحاصر الحافة الشماليّة والحافة الشمالّية الشرقية من الجزيرة مقابل الحدود مع تركيا والعراق، فيما صودِرت الأراضي الكرديّة وأعطِيت لعرب، وأُرسِلت العائلات الكرديّة لتعيش في الداخل السوري وسمح للعرب بالمجيء بدلاً منها. وتدعيماً لهذا الحصار العنصري، انتشر وجود عسكري كثيف في هذه المناطق.

خلال العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، أضعف بشّار الأسد، بقرار مقصود، الاتحاد العام لنقابات العمّال والاتحاد العام للفلّاحين، لأنّه اعتبرهما عقبة أمام عمليّة الإصلاح الاقتصادي النيوليبرالي. وقطع النظام الأموال عن المنظّمات الفئويّة “الشعبيّة” بشكل متزايد، وهاجم سلطات المحسوبيّة التابعة لها. ومع بداية الانتفاضة عام 2011، لم تتمكّن المنظّمتان من التعبئة بشكل فعّال، بسبب التهميش السياسي الذي عانتاه في العقد السابق. لكن تغيّر هذا الوضع مع إعادة حزب البعث النظر في دور المنظّمات الفئويّة “الشعبيّة” في شبكات النظام السوري في فترة ما بعد 2011.

تـ(دهـ)طوّر سوق العمل (2000-2010) – الأرباح مقابل العمالة:

أدّى تسارع تحرير الاقتصاد خلال العقد الأوّل من حكم بشّار الأسد إلى زيادة تضرّر القوى العاملة الرسميّة، ودفع إلى توسيع نطاق العمل في السوق السوداء، وانخفض معدّل المشاركة في القوى العاملة لمن تبلغ أعمارهم 15 عاماً وما فوق من 52,3 في المئة عام 2001 إلى ما بين 39 و43 في المئة عام 2010. وارتفعت نسبة البطالة والبطالة المُقنّعة، لا سيّما بين الشباب، ولم تتمكّن سوق العمل الحكوميّة من استيعاب القوى العاملة الجديدة، خصوصاً من الخرّيجين الشباب. قبل عام 2011، زوّدت الجامعات والمعاهد التقنيّة السوريّة سوق العمل بنحو 200 ألف عامل جديد من ذوي المهارات العالية سنوياً، فيما لم تتمكّن الدولة من توفير أكثر من 60 ألف وظيفة، ولم يكن بمقدور القطاع الخاصّ فعل شيء يُذكر لتعويض الفارق الذي بلغ 140 ألف شخص.7

في الوقت ذاته، تقلّصت القوى العاملة الزراعيّة بنسبة 40 في المئة بين عامي 2002 و2008، لتنخفض من 1,4 مليون عامل إلى 800 ألف عامل. وبالتوازي خُصخِصت الأراضي ما أضرّ بآلاف الفلّاحين في الشمال الشرقي. واتضحت قسوة هذا الإجراء خصوصاً مع فترة الجفاف بين عامي 2007 و2009، حيث اضطرّ مليون فلّاح إلى اللجوء إلى المساعدات الدوليّة والإمدادات الغذائيّة، وهاجر 300 ألف شخص من الشمال الشرقي إلى دمشق وحلب ومدن أخرى. وساهمت عدّة قوانين أخرى تعود بالفائدة على مُلّاك الأراضي على حساب الفلّاحين في إضعاف القوى العاملة الزراعيّة. فالقانون رقم 56 الصادر عام 2004، وينظّم العلاقات في قطاع الزراعة، سمح لمُلّاك الأراضي بإنهاء جميع عقود الإيجار بعد مرور ثلاث سنوات على توقيعها، ما أتاح لهم طرد الفلّاحين من الأراضي التي عملوا بها على مدى جيلين مقابل تعويضات هزيلة (أو من دون تعويضات في معظم الأحيان) واستبدالهم بعمّال مؤقّتين. وأسفر هذا القانون الذي نُفذ عام 2007 عن طرد مئات آلاف المستأجرين والعمّال، خصوصاً في المدن الساحليّة مثل طرطوس واللاذقية.8  وانخفضت حصّة الزراعة من العمالة من نحو 31 في المئة عام 2000 إلى 13,5 في المئة فقط عام 2011. 9

قُدّرت نسبة البطالة العامّة مع حلول عام 2010 بنحو 25 في المئة، خلافاً لإحصاءات الدولة الرسميّة التي قدّرتها بنحو 8,6 في المئة، فيما بلغت نسبة البطالة بين الشباب 48 في المئة في العام التالي.10  انعكس الانكماش في معدّل مشاركة القوى العاملة في المناطق الريفيّة والحضريّة، لكنّه كان أكثر وضوحاً في المناطق الريفيّة، حيث اختار العمّال ذوو المهارات الهجرة في معظم الأحيان للبحث عن أجور أفضل.

وانخفضت حصّة الأجور في الدخل القومي من 41 في المئة عام 2004 إلى 33 في المئة بين عامي 2008 و2009. 11  وبالتالي مثّلت الأرباح والإيجارات أكثر من 67 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي قبل عام 2011. وقد أصدر الاتحاد العام لنقابات العمّال التابع للدولة بياناً استنكر فيه حقيقة أنّ “الأثرياء ازدادوا ثراءً، والفقراء ازدادوا فقراً… فيما يبحث أصحاب الدخل المحدود، الذين يشكّلون 80 في المئة من السكّان السوريين، عن أعمال إضافيّة لتأمين احتياجاتهم”.

انعكست هذه الديناميّات أيضاً في ميدان حقوق العمّال وقوانينهم في القطاع الخاصّ. فبعد سنوات عديدة من التحضير والمناقشات، أصدرت الحكومة القانون رقم 17 عام 2010، الذي ينظّم العلاقة بين العمّال وأرباب العمل في كلّ من القطاع الخاصّ، والخاصّ-الحكومي، والتعاوني، ويتحيّز لأرباب العمل على حساب العمّال. أظهر القانون تفضيل السلطات السوريّة لحماية رأس المال والأرباح على حساب حماية العمّال، وأعطى أرباب العمل، بشكل واضح، الحقّ في فصل موظّفيهم من دون تقديم أي تبريرات وبتعويضات محدودة. وفقاً للإحصاءات الرسميّة، فُصل 100 ألف سوري من وظائفهم منذ تطبيق القانون.12  وفي عام 2020، ذكر المرصد العمّالي للدراسات والبحوث، وهو مركز أبحاث تابع للاتحاد العام لنقابات العمّال، أنّ معظم العاملين في القطاع الخاصّ، باستثناء قطاعي الماليّة والتأمين، لا يتمتّعون بأبسط الحقوق المنصوص عنها في القانون رقم 17، مثل الزيادات الدوريّة في الأجور، والتأمين الصحّي، والشمول في برامج التأمين الاجتماعي.13

بصورة أعمّ، على الرغم من الاعتراف بحقّ المفاوضة الجماعيّة في قانون العمل رقم 17 لعام 2010، تحتفظ وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل بسلطات واسعة لمعارضة ورفض تسجيل الاتفاقات الجماعيّة المُبرمة. وعلى الرغم من السماح بالإضرابات على المستوى الرسمي في القطاع الخاصّ، غالباً يتمّ التنازل عنها خوفاً من العقوبة أو الغرامات. ففي قطاعات مثل النقل والاتصالات، يُعاقب على الإضرابات التي يشارك فيها أكثر من 20 عاملاً بغرامات، وحتّى بالسجن، بينما قد تؤدّي إعاقة الموظّفين الحكوميين لعمل خدمات الدولة إلى حرمانهم من حقوقهم المدنيّة.14

أدّى حكم الأسد وسياساته الاقتصاديّة إلى إفقار غير مسبوق، بينما استمرّت التفاوتات في الثراء بالتزايد. على الرغم من ارتفاع الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 4,3 في المئة سنوياً بين عامي 2000 و2010 بالقيمة الحقيقيّة، إلا أن هذا الارتفاع لم يعُد بأي نفع سوى على قطاع محدود من النخب الاقتصاديّة. ارتفع الناتج المحلّي الإجمالي أكثر من الضعف، من 18,8 مليار إلى 60 مليار دولار بين عامي 2005 و2010. أيضاً شكّل الإنفاق على العشرين في المئة الأفقر من السكّان 7 في المئة فقط من إجمالي الإنفاق بين عامي 2003 و2004، على الرغم من استفادتهم من 45% في المئة من إجمالي الإنفاق. كانت نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خطّ الفقر في عام 2007 تبلغ نحو 33 في المئة، أي ثلث عدد السكّان تقريباً، بينما كان يعيش 30 في المئة من السوريين فوق هذا الخطّ بقليل، وهو ما يمثّل قفزة كبيرة من القرن الماضي، حين لم يكن سوى 14,3 في المئة من السكّان يعيشون دون خطّ الفقر.

تركّز الفقر في المناطق الريفيّة تحديداً، حيث كان 62 في المئة من المفقرين السوريين يعيشون في مناطق ريفيّة في مقابل 38 في المئة يعيشون في مناطق حضريّة في عام 2004. في الوقت نفسه، كان نحو نصف السوريين العاطلين عن العمل يعيشون في المناطق الريفيّة. تواصل إفقار المناطق الريفيّة في سوريا منذ ثمانينيّات القرن الماضي، إلّا أنّ حالات الجفاف التي بدأت 2006 سرّعت من هجرة الريف الجماعيّة.

كان غياب الديمقراطيّة وإفقار الجماهير المُتزايد، في مناخ من الفساد والتفاوت الاجتماعي المتنامي، من العوامل التي مهّدت طريق الانتفاضة الشعبيّة التي لم ينقصها غير شرارة، جاءت من الانتفاضات الشعبيّة في تونس ومصر.

القوى العاملة بعد الحرب:

أدّى تدمير قطاعات كبيرة من الاقتصاد، وعسكرة المجتمع، والتهجير القسري لملايين السوريين، إلى تقليص حجم القوى العاملة في البلاد. بين عامي 2011 و2019، انخفض إجمالي عدد الموظّفين المُسجّلين من 5,184 مليون إلى 3,085 مليون، بينهم ما يزيد عن مليون موظّف حكومي، ومن ضمنهم العاملين في قطاع الصناعة العامّة، في مقابل نحو 760 ألف موظّف مؤهّل في القطاع الخاصّ، و1,2 مليون يعملون لحسابهم الخاصّ.

في الوقت نفسه، ارتفع عدد العمّال في الاقتصاد غير الرسمي بشكل كبير في العقد الماضي، لا سيّما من خلال أنشطة التهريب والإجرام. قبل العام 2011، كان الاقتصاد غير الرسمي يمثّل نحو 30% من العمالة (1.5 مليون فرد)، ونحو 30-40% من الناتج المحلّي الإجمالي. في العام 2022، تجاوز حجم الاقتصاد غير الرسمي في سوريا 70% من الناتج المحلّي الإجمالي الرسمي وفقاً لإطار بدائل السياسات الاستراتيجية ومصادر أخرى.

تراجع دور الأجور في إنتاج الثروة في سوريا طيلة فترة الحرب، وأشارت التقديرات إلى أنّ حصّة الأجور من الدخل القومي بلغت نحو 20 في المئة، بينما شكّلت الأرباح والإيجارات النسبة المتبقّية، أي 80 في المئة، في تموز 2020. 15

بالمثل، واجه الفلّاحون مشاكل وتحدّيات متزايدة لمتابعة هذه الأنشطة، بالإضافة إلى تداعيات الحرب ودمارها. دفع نقص الموارد المائيّة والطاقات وارتفاع التكلفة العامّة للإنتاج (خصوصاً البنزين والمازوت والأسمدة) العديد من المزارعين إلى التوقّف عن نشاطهمـ، وترك أراضيهم نحو فرص معيشيّة أخرى، في حين راكم آخرون مستويات عالية من الديون أو سعوا وراء وظيفة ثانية لتغطية نفقاتهم الزراعيّة.

استمرّ النظام بسياسته التي تُهمل الظروف المعيشيّة للقوى العاملة. وسُجِّلت زيادات رمزيّة فقط في الأجور في القطاع العامّ، بينما عدّلت وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل عام 2019 نحو 26 مادة من قانون العمل رقم 17 لعام 2010، ما أدّى إلى تغيّرات طفيفة للغاية: زيادة قليلة في الأجور (نحو 9 في المئة)، وضمان استحقاق إجازة الأمومة، بالإضافة إلى رفع الحدّ الأدنى للأجور الشهريّة في جميع القطاعات من 16,175 ليرة سوريّة إلى 47,675 ليرة سوريّة في كانون الأوّل 2019، ومن ثمّ إلى 92,970 ليرة سوريّة (أي ما يعادل 33 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي البالغ 2,814 ليرة سوريّة للدولار الأميركي) في كانون الأوّل 2021.

إلّا أنّ هذه الإجراءات لم تعالج تدهور الظروف المعيشيّة للعمّال.

تستمرّ القدرة الشرائيّة للقوى العاملة بالانخفاض. بالفعل، ارتفع متوسّط تكلفة المعيشة بشكل مستمرّ في السنوات القليلة الماضية. على سبيل المثال، توسّعت سلّة الغذاء المرجعيّة القياسيّة لشهر حزيران 2022 بنسبة 45 في المئة منذ كانون الثاني 2022، وتضاعفت تقريباً مقارنة بشهر حزيران 2021، ووصلت إلى 318,726 ليرة سوريّة (113.26 دولاراً أميركياً وفق سعر الصرف الرسمي البالغ 2,814 ليرة سوريّة للدولار الأميركي).

كانت ديناميّات التضخّم أكثر أهمّية في بعض المجالات. على سبيل المثال، شهدت عائلة مكوّنة من خمسة أفراد في دمشق، ارتفاعاً في متوسّط تكلفة المعيشة من 732,000 ليرة سوريّة في كانون الثاني 2021 (أي 529 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي البالغ 1,256 ليرة سوريّة للدولار الأميركي في تلك الفترة) إلى 2,026,000 ليرة سوريّة (أي 807 دولارات وفق سعر الصرف الرسمي البالغ 2,512 ليرة سوريّة للدولار الأميركي) في كانون الأوّل 2022، وهو ما يشكّل زيادة بنسبة 177 في المئة على مدى عام بالليرة السوريّة.

في الوقت نفسه، لا يزال السوريون يعانون من الرفع التدريجي للدعم عن المشتقّات النفطيّة والسلع الأساسيّة الأخرى. تؤدّي إجراءات تقليص أو إنهاء الدعم إلى تعميق المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة في جميع جوانب حياة العمّال السوريين والطبقات الشعبيّة، فضلاً عن القطاعات الإنتاجيّة. علاوة على ذلك، بعد رفع الدعم تدريجيّاً عن المشتقّات النفطيّة، اتخذت دمشق خطوة مهمّة في الأوّل من شباط 2022، حين أعلنت استبعاد نحو 600 ألف أسرة من برنامج الدعم الخاصّ بها، أو نحو ثلاثة ملايين شخص في المجمل (على أساس متوسّط 5-6 أفراد لكلّ أسرة سوريّة)، علماً أن 600 ألف عائلة توازي نحو 15 في المئة من حاملي البطاقة الذكيّة،16  ما سوف يجبر العديد من الأسر المُستبعدة من نظام الدعم إلى خفض استهلاكها من السلع الأساسيّة بشكل أكبر بسبب الفجوة الكبيرة بين الأسعار المدعومة وغير المدعومة. وفي بعض الحالات، قد يتوقّفون عن شراء منتج معيّن. قبل قرار الحكومة، كانت الأسرة تطلب نحو 200 ألف ليرة سوريّة (أي ما يعادل 71,4 دولاراً أميركياً) شهرياً لشراء السلع والسلع المدعومة، والآن ستحتاج العائلة، بأسعار غير مدعومة، إلى أكثر من 600 ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 214,3 دولاراً أميركياً) للحصول على هذه العناصر نفسها. وبالتالي، يرجّح أنّ تواصل دمشق سياساتها التقشّفيّة وخفض الدعم. على سبيل المثال، تستهدف الحكومة قطاعات جديدة من السكّان لاستبعادها من سياسات الدعم.

لا تزال الأجور في القطاع العام أقل بكثير من ارتفاع تكاليف المعيشة، على الرغم من رفع الحكومة رواتب الموظّفين العموميين مرّات عدّة خلال السنوات القليلة الماضية وتخصيص العديد من المكافآت لهم. على سبيل المثال في أب 2022، قدِّمت منحة ماليّة لمرّة واحدة بمبلغ مقطوع قدره 100 ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 35,7 دولاراً أميركياً) للعاملين في الدولة من مدنيين وعسكريين ومتقاعدين. وهذا هو سبب فشل حملات التجنيد الحكوميّة بشكل عام. بدليل إطلاق الحكومة حملة لتوظيف 100 ألف موظّف عام في تموز 2022، (خفّضت العدد لاحقًا إلى 80 ألف)، لكنّها تمكّنت من تعيين 33 ألف موظّف فقط. ومنذ بداية العام، استقال المئات من موظّفي الدولة في مختلف القطاعات – من الزراعة والمياه والمنسوجات إلى التعليم والرعاية الصحّية – أو قدّموا استقالاتهم بسبب تكاليف النقل الباهظة، والأجور الضئيلة، والفرص الأفضل في القطاع الخاص أو في الخارج. يبلغ عدد الموظّفين الحكوميين في أيلول 2022، باستثناء العسكريين وقوّات الشرطة، نحو 900 ألف موظف، نصفهم في قطاع التعليم.

يُجبر هذا الوضع العمّال على البحث عن مصادر بديلة للدخل بغية ضبط ميزانيتهم الشهريّة، وهو ما يعيدهم إلى الديناميّة السابقة لعام 2011. إذ يعمل كثير من موظّفي القطاع العام في وظائف إضافيّة، فيما تزداد تكلفة الرشوة، ويهاجر عدد كبير من العمّال ذوي المهارات العالية أملاً بظروف أفضل في المعيشة والعمل.

فضلاً عن ذلك، كان العمّال والطبقات الشعبيّة السوريّة عموماً يعتمدون بشكل مُتزايد على التحويلات المالية التي يرسلها الشتات السوري. من الصعب معرفة الحجم الدقيق للتحويلات، لكنّها تتجاوز عدّة مليارات من الدولارات. يتلقّى غالبيّة المستفيدين ما بين 100 و200 دولار شهرياً، وهو مبلغ كبير مقارنة بمتوسّط ​​الأجور والرواتب في الدولة. على سبيل المثال، كان مبلغ 100 دولار شهرياً يعادل في صيف 2022 ما بين 400 ألف و450 ألف ليرة سوريّة بسعر الصرف في السوق السوداء، وهو ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العامّ (92,970 ليرة سوريّة). بعبارة أخرى، أصبحت التحويلات الإيراد الرئيسي للعائلات المتلقّية لها، في مواجهة الخسارة المستمرّة في القوة الشرائيّة بسبب تراجع الأجور الحقيقيّة والإيرادات نتيجة ارتفاع التضخّم والانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السوريّة.

يعزِّز هذا الوضع تبعيّة الأسر والاقتصاد لمصادر التمويل الأجنبيّة بدلاً من المصادر الوطنيّة، ما يجعلهما أكثر هشاشة أمام الصدمات الخارجيّة مثل الأزمة الماليّة اللبنانيّة، أو بشكل خاصّ تفشّي جائحة COVID-19 عالمياً.

تتّسم القوى العاملة بوجود مستويات عالية من البطالة وانخفاض الأجور ونقص ذوي المهارات في صفوفها. وإن كان مُمكناً إرجاع سبب ارتفاع معدّلات البطالة إلى تدمير قطاعات كثيرة من الاقتصاد وقلّة الفرص، لكن لا يصحّ نسيان دور التهديدات بالاعتقال بتهمة التخلّف عن الخدمة العسكريّة، التي تؤدي إلى التزام كثير من الشبان منازلهم أو بحثهم عن عمل يومي غير آمن ولا رسمي وبأجر منخفض بغية تجنّب الخدمة العسكريّة القسريّة.

لم يمنع الوضع المأساوي الذي تعيشه الطبقة الشعبيّة السوريّة، رئيس مجلس الوزراء السوري حسين عرنوس من اعتبار أنّ “ما قامت به الحكومة منذ عامين وحتّى الآن مقبول في ظل الظروف الحالية”، وذلك خلال لقاء الحكومة في آب 2022 مع أعضاء المجلس المركزي للاتحاد العام لنقابات العمّال.

قمع وتمييز وتحكّم بالقوى العاملة:

كان النشاط الجماعي للنقابات المهنيّة واتحادات الفلّاحين محدوداً أثناء الانتفاضة، مع ذلك كان أعضاء نقابة المحامين من مختلف المحافظات أكثرهم نشاطاً في بدايات حركة الاحتجاج. أمّا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، فقد اقتصرت الأهداف الرئيسيّة للنقابات المهنيّة المُنشأة حديثاً ونقابات العمّال على المطالب الديمقراطيّة، وخدمة مؤسّسات المعارضة المحليّة، واستنكار انتهاكات حقوق الإنسان، وسط غياب أو محدوديّة المطالب الاجتماعيّة-الاقتصاديّة أو الخطاب الطبقي عن برامجها.17  ويعكس ذلك التوجّه السياسي للفاعلين الرئيسين في المعارضة السوريّة العربيّة، لا سيّما المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، اللذين حصرا مطالبهما في إضفاء الطابع الديمقراطي على النظام السياسي، ولم يتطرّقا إلى القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي كانت أولوية الغالبيّة العظمى من سكّان البلاد، خصوصاً في ظل تزايد التفاوتات الاجتماعيّة والبطالة والفقر العام. المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لم يقدّما بديلاً اقتصادياً اجتماعياً فعّالاً يصبّ في صالح الطبقات الشعبيّة، بل روّجا لسياسات نيوليبراليّة لا تختلف كثيراً عن سياسات النظام. نشرت مجموعة من كبار الخبراء السوريين المُرتبطين بالمعارضة عام 2013 وثيقة سياسيّة بعنوان “خطّة التحوّل الديمقراطي في سوريا”، والتي خطّطت لسوريا ما بعد الأسد، ودعت إلى خصخصة الشركات السوريّة المملوكة للقطاع العام السوري، وتحرير سعر الصرف، ورفع الدعم، وتقليص حجم القطاع العامّ من أجل تطوير القطاع الخاصّ، وعودة جميع الأصول المؤمّمة من حزب البعث (الأراضي، سواء كانت زراعيّة أم لا، الشركات والمصانع والمنازل والمباني) إلى “أصحابها الأصليين”، ودعم انضمام سوريا إلى مؤسّسات مُتعدّدة الأطراف مثل منظّمة التجارة العالميّة. وخلصت إلى أنّه “قد يكون أفضل لسوريا أنّ تترك على نحو تدريجي نموذجها الاقتصادي القائم على قيادة الدولة للاقتصاد لتتحوّل إلى نموذج اقتصادي يحكمه السوق. وأيضاً تحتاج سوريا إلى إطلاق العنان لروح المبادرة العظيمة التي تمتّع بها صنّاع وتجّار سوريا عبر التاريخ… يبقى الهدف الرئيسي هنا هو تقوية الإنتاجيّة والتنافسيّة في الاقتصاد السوري، ووضعه على المسار الصحيح الذي يقود فيه القطاع الخاصّ حركة نموّ وخلق فرص العمل الحقيقيّة ورفع الإنتاجيّة”. لم يكن لهذا النوع من التوصيات تقريباً أي صلة بالسوريين الذين تضرّروا من إصلاحات مماثلة في السنوات التي سبقت الانتفاضة مباشرة. في الواقع، كانت هذه التوصيات بمثابة المزيد من الشيء نفسه، إذ أشاحت هذه الرؤية الاقتصاديّة ببصرها عن هواجس السوريين العاديين، ولم تحظَ بقبول قطاعات كبيرة من موظّفي القطاع العام. ما كشفته هذه التوصيات الصمّاء هو وزن البرجوازيّة السابقة وملّاك الأراضي السابقين وتأثيرهم بين قادة المعارضة السياسيّة.

لم تطرح المعارضة أي برامج أو أنشطة لحشد القوى العاملة أو التشجيع على إنشاء نقابات عماليّة مستقلّة. وفي الوقت نفسه، تبنّى هؤلاء الفاعلون في المعارضة، إلى جانب الفصائل المُسلّحة، بشكل مُتزايد، خطابات وممارسات إقصائيّة على أسس طائفيّة وإثنيّة، ساهمت في ترسيخ الخلافات والانقسامات العميقة بين السوريين وتوسيعها. ولم تؤدِّ العسكرة والحضور المُتزايد للقوى الأصوليّة الإسلاميّة والجهادية إلّا إلى تقويض العمل الجماعي المدني، بما في ذلك أنشطة النقابات المهنيّة المنُشأة حديثاً.18

بقيت الاحتجاجات العمّاليّة، وغيرها من أشكال المعارضة، مُقيّدة للغاية في مناطق سيطرة النظام، على الرغم من استمرار تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي. يرتبط ضعف النشاط والمنظّمات العمّاليّة المُستقلّة بغياب الحركة العمّاليّة أو أي شكل من المعارضة في الاتحادات العمّاليّة الرسميّة والنقابات المهنيّة القائمة، نتيجة القمع التاريخي الذي مارسه النظام ضدّ النقابات وتحكّمه بها، فضلاً عن عقود من السياسات القائمة على تقسيم المجتمع عبر المحسوبيّة والولاءات السياسيّة والتمييز الطائفي والإثني، حتّى في وظائف الدولة، والتي أدّت إلى خلق عقبات أعاقت تنظيم النشاط الجماعي المعارض. في هذا السياق، أضحى الاتحاد العام لنقابات العمّال رمزاً لاستغلال النظام للمنظمات “الشعبيّة” بغية السيطرة على القوى العاملة.

أدّى قمع النظام لخصومه والنقابيين والمستقلّين والفاعلين السياسيين اليساريين، الذين يدافعون عن مصالح الطبقة العاملة، إلى جانب سياساته التي توظّف الاتحاد العام لنقابات العمّال والاتحاد العام للفلّاحين والاتحادات المهنيّة، وتتحكّم بهم، إلى خلق عوائق كبيرة أمام التعبئة العمّاليّة المُحتملة والعمل الجماعي أثناء الانتفاضة. وترافقت هذه الإجراءات مع سياسات تستخدم المحسوبيّة والهويّات الضيّقة في سوريا لتغذية الانقسامات. في الواقع، لعب استخدام الولاءات السياسيّة والزبائنيّة والطائفيّة والقبليّة والتمييز الإثني والمناطقي دوراً رئيسياً في تقسيم القوى العاملة والمجتمع السوري عموماً، وتعزيز قوّة النظام الذي استخدم هذه العوامل لترسيخ سلطته والسيطرة على المجتمع وضمان تراكم رأس المال والأرباح.

توفّر هذه الأدوات آليّة سيطرة فاعلة على مسار الصراع الطبقي لصالح النظام، عبر خلق روابط تبعيّة بينه وبين الطبقات العاملة، التي تُحرم من وجودٍ سياسيٍ مُستقلّ لها، وتُصنّف (وتتصرّف سياسياً) وفقاً لوضعها الخاصّ (الزبائني أو الطائفي أو القبلي أو الإثني). وبدلاً من تحدّي هذه الانقسامات الاجتماعيّة أثناء الانتفاضة، ساهمت قطاعات كبيرة من قوى المعارضة في ترسيخها.

خاتمة:

يكافح أي نشاط جماعي عمّالي منظّم ذاتياً لإيجاد أرضيّة له. ويُعدّ غياب الحراك العمّالي المُستقلّ والمُشجِّع على التعبئة نقطة ضعف كبرى أمام حماية مصالح العمّال وظروف معيشتهم، ويزيد قدرة القوى الأمنيّة القمعيّة على تقييد قدرة العمّال في التنظيم الذاتي والتحرّك الجماعي، فيما تزداد الضغوط على سوق العمل بمعدّلات البطالة المرتفعة في ظلّ أزمة اجتماعيّة واقتصاديّة مستمرّة. وتخلق هذه العوائق جميعها وضعاً يحول دون قدرة العمّال على المعارضة الفاعلة أو معالجة تدهور ظروف معيشتهم أو مواجهة هياكل الدولة الاستبداديّة. وليس ثمّة خيار أمام الكثيرين سوى الهجرة لبدء حياة أفضل، إذا كان ذلك مُتاحاً.

إبّان السنوات المنصرمة، لم يكن الدور المؤثّر، الذي منحه النظام للاتحاد العام لنقابات العمّال والاتحاد العام للفلّاحين عبر التنسيق مع حزب البعث، بمثابة محاولة لتعزيز مصالح العمّال والفلّاحين، بل كان يهدف إلى تعزيز شبكات النظام وزيادة نفوذه والسيطرة على المجتمع. لم تفعل هذه المؤسّسات شيئاً يُذكر للدفاع عن مصالح العمّال والفلّاحين عموماً، ولا عند تدهور ظروف عملهم ومعيشتهم. بل على العكس، سعت السياسات التي فرضتها إلى الدفاع عن بروباغندا النظام في مختلف المؤسّسات والمؤتمرات المحلّيّة والأجنبيّة.

بالطبع، نُظِّمت في السنوات الأخيرة مظاهرات عدّة في محافظة السويداء اعتراضاً على فشل النظام السوري في محاربة الفقر والبطالة وانعدام الأمن المُرتبط بعصابات أجهزة الأمن التابعة للنظام السوري. أيضاً كثُرّت الاحتجاجات والانتقادات الموجّهة للنظام لأسباب سياسيّة و اقتصاديّة في مناطق أخرى، وليس في درعا والمناطق المحيطة بدمشق فقط.

مع ذلك، لا تتخذ هذه الظروف على نحو آلي شكل فرص سياسيّة، لا سيّما بعد 11 عاماً من حرب مدمّرة وقاتلة. إنّ غياب معارضة سوريّة مُهيكلة ومُستقلة وديمقراطيّة وتقدّميّة وقادرة على دمج كلّ المعنيين وجذب أفقر الطبقات، جعل وحدة مختلف قطاعات السكّان وتحدّيهم للنظام من جديد وعلى صعيد وطني أمراً صعباً.

وهنا يكمن التحدّي الرئيسي. يجب، على الرغم من صعوبة ظروف القمع والإفقار الحادّ والتفكك الاجتماعي، تنظيم بديل سياسي تقدّمي في التعبير المحلّي عن تلك المقاومات.

علاوة على ذلك، كان غياب الحركة العمّاليّة المُنظّمة نقطة ضعف رئيسيّة في الانتفاضة السوريّة، في حين شكّلت الإضرابات مع العمل الجماعي للعمّال والعاطلين عن العمل عنصراً أساسياً في الإطاحة برؤساء النظامين التونسي والمصري عام 2011، والنظام السوداني من عام 2019. في السودان وتونس، تُظهِر الحركات التي يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل، أو النقابات المهنيّة، أهمّية التنظيم النقابي في توليد نضال جماهيري متماسك وناجح. أيضاً، لعبت المنظّمات النسويّة أدواراً حاسمة في تونس والسودان لتعزيز حقوق المرأة، واكتسابها المزيد من الحقوق الديمقراطيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. وقد حقّقت الحركة الاحتجاجيّة مكاسب ديمقراطيّة كبيرة في كلا البلدين، على الرغم من تعرّضها للخطر وعدم تماسكها بشكل كامل.

لم يكن لدى الحركة الاحتجاجيّة السوريّة تلك القوى المُنظّمة الجماهيريّة، وهو ما أضعف إمكانيّاتها. لذلك، سيكون بناء منظّمات جماهيرية مماثلة أمراً ضرورياً في النضالات المستقبليّة لتحسين ظروف المعيشة والعمل للقوى العاملة في سوريا.

هوامش:

1- لمزيد من التفاصيل أنظر هذا المقال https://bit.ly/3Aliq5C

2- روبرت غولدن، “الإسكان وعدم المساواة والتغيير الاقتصادي في سوريا”، المجلّة البريطانيّة لدراسات الشرق الأوسط، المجلّد 38، العدد2، 2011، 192.

3- لمزيد من التفاصيل أنظر هذا المقال : https://bit.ly/3KjbMB

4- ليندا مطر، الاقتصاد السياسي للاستثمار في سوريا (بالإنكليزيّة)، بالغريف، 2015، 109.

5- تأسّس الاتحاد العام لنقابات العمّال عام 1938، أي بعد نحو عقد من تطوّر الحركة العمّاليّة وإعادة هيكلتها، وبعد صدور مرسوم تشريعي عام 1968 لتنظيم جميع النقابات داخل الاتحاد العام لنقابات العمّال.

6- يتكوّن الاتحاد العام للنقابات العمّالية من: نقابة العاملين في الخدمات العامة (الإدارة والبنوك والصحة)، نقابة العاملين في الغذاء والتنمية الزراعية والتبغ والسياحة، نقابة العاملين في قطاع النقل، نقابة العاملين في النفط والكيماويات، نقابة العاملين في الكهرباء والصناعات المعدنية، نقابة العاملين في الثقافة والطباعة والمعلومات، نقابة عمّال البناء، نقابة عمّال المحافظات.

7- سبوتنيك عربي، “رئيس اتحاد عمّال سوريا: إعادة الإعمار ستتمّ بأيد سورية، ولسنا بحاجة لأحد”، 30 نيسان 2018، https://bit.ly/2Y72aTU

8- مريم عبابسة، “نهاية الجفاف العالمي والتحوّل الزراعي شمال شرقي سوريا (2007-2010)”، في رايموند هينيبوش (محرّر)، سوريا: من صعود الاستبداد إلى الثورة؟، منشورات جامعة سيراكيوز، 2015، 200.

9- مجموعة البنك الدولي، “خسائر الحرب: التبعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للصراع في سوريا”، 10 تموز 2017، 9-10، https://bit.ly/2z3zxx9

10- مجموعة البنك الدولي، “خسائر الحرب: التبعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للصراع في سوريا”، 10 تموز 2017 9-10، https://bit.ly/2z3zxx9

11- نبيل مرزوق، “التنمية المفقودة في سوريا.. بلا رؤية”، عزمي بشارة (محرّر)، جذور الثورة السوريّة، دراسات سوريّة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، 42.

12- تشرين، “حكومة النظام تعدّل قانون العمل في القطاع الخاصّ”، المرصد السوري، 13 آذار 2019، https://bit.ly/2N326Ov

13- رشا سيروب، “صدمة كورونا… والعاملين في القطاع الخاصّ”، المرصد العمّالي للدراسات والبحوث التابع الاتحاد العام لنقابات العمّال، 2 نيسان 2020، https://bit.ly/2YOUBQK

14- اتحاد النقابات الدولي، “المسح السنوي 2012 لانتهاكات الحقوق النقابيّة – سوريا”، 6 حزيران 2012، https://bit.ly/2N8zofj

15- قاسيون، “إفتتاحيّة قاسيون 971: زيادة الأجور ضرورة… إنسانيّة ووطنيّة”، 21 حزيران 2020، https://bit.ly/2NqIjJ6

16- بعد هذا القرار، أعلنت الحكومة السوريّة أنّها ستعيد النظر في بعض عمليّات الإقصاء بسبب أخطاء، واعتذرت عنها ووصفتها بالمشاكل “الفنيّة”. نجح نحو 17 ألف فرد في تقديم استئناف ضدّ عدم الأهليّة. لمزيد من التفاصيل أنظر هذا المقال : https://bit.ly/3AhSLKT

17- لن يتطرق هذا المقال إلى ديناميات العمل في مناطق الإدارة الذاتية شمالي وشرقي سوريا.

18- لمزيد من التفاصيل أنظر هذا المقال: جوزيف ضاهر، التعدّديّة المفقودة في الانتفاضة السوريّة: كيف انحرفت المعارضة عن جذورها الجامعة؟ https://bit.ly/3ci2SYg

ـــــــــــــــــــــــــــ

* باحث وكاتب أكاديمي سوري

المصدر: الصفر

التعليقات مغلقة.