الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«زيغمونت باومان» يرصد انحراف البوصلة الأخلاقية لأوروبا

إبراهيم قعدوني *

عالم الاجتماع البولندي «زيغمونت باومان» يُعرب عن سخطه إزاء التنكّر التاريخي الصارخ الذي يواجهه اللاجئون الهاربون من الحرب وأولئك المحرومون الذين يسعون إلى حياة أفضل.

تغلُب على مؤلفات عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان (https://www.facebook.com/ZygmuntBauman/?ref=br_rs) (1925-2017) الذي رحل في التاسع من شهر كانون الثاني/ يناير 2017 في مدينة ليدز الإنكليزية، دراسات تحوّلات الإنسان المعاصر. وكان اسم باومان قد لمع منذ دراسته حول صراع الطبقات والتي تناول فيها الطبقات الاجتماعية والحركة العمالية في بريطانيا في ستينات القرن الماضي، وهي الدراسة الأولى التي صدرت له باللغة الإنكليزية لينتقل بعدها في منتصف الثمانينات إلى حقل آخر يُعنى بنقد مجتمع الاستهلاك وما بعد الحداثة.

أصدر باومان ما يربو على خمسين كتاباً، أبرزها «الحداثة السائلة» و«الحرية» و«الحياة السائلة» و«حيوات مهدورة» و«حب سائل» و«بحث في السياسة» و«مجتمع تحت الحصار» وغيرها، فضلاً عن مجموعة واسعة من المقالات الفكرية والنقدية في الاجتماع والاقتصاد والسياسة. ويلاحظ قارئ باومان تأثره بالمنهج الماركسي في التحليل، لا سيّما موضوعة الطبقية والتفاعلات المجتمعية البينية والأنماط الاستهلاكية في مجتمعات ما بعد الحداثة. وكان كتاب «غرباء ببابنا» آخر الكتب التي تركها باومان قبل رحيله.

في هذا الكتاب الذي يعدّ قصيراً نسبياً (117 صفحة) مقارنةً بكتبه السابقة يدرس باومان أزمة الهجرة في أوروبا والنقاش الدائر حولها مستكشفاً أصول الهلع والخوف الناجم عن الحملات السياسية ودينامياتها المعاصرة المتمثلة في نزع الطابع الإنساني عن هذه الأزمة. وبحسب ما يرى باومان فإنّ هذا الذعر يعكس اتجاها اجتماعياً وسياسياً شاملاً ينطوي على انحراف البوصلة الأخلاقية التي توجه السياسة في أوروبا والغرب بشكل عام. ويستعين باومان بمجموعة من الأُطر المفاهيمية لتعرية حملات التخويف الخفية والمُعلنة المستندة إلى دوافع سياسية، والتي بدأها صناع السياسة الأوروبيون من جميع الخلفيات في محاولة يائسة لمحاكاة نجاح الأحزاب الشعبية اليمينية. وهكذا يرصد زيغمونت باومان في كتابه أثر قضية اللاجئين في الكشف عن السقوط الأخلاقي للنخب السياسية في الغرب.

صناعة الهلع:

يقع الكتاب في ستة فصول أشبه ما تكون بمجموعة من المقالات التي تحمل عناوين مستقلة رغم أنها تناقش أبعاداً مختلفة لمسألة واحدة وتحيلُ على بعضها البعض في تكرارٍ يبدو أن غرضه توكيد الاستنتاجات التي يكتفي باومان بالإلماح إليها دون تقريرها. ويستشهد باومان بسيلٍ من المقالات الصحفية ونتائج الاستطلاع التي تكشف الآليات السياسية التي تشكل الظروف الراهنة في الغرب، مصحوبة بانتقادٍ حادّ لهذا النمط من السياسة. وعلى سبيل المثال فإن الفصل الأول الذي جاء بعنوان «الذعر من الهجرة وإساءة استخدامه» يعرِضُ باومان ذلك الكمّ الهائل من الحملات التعبوية عبر تسخير كافة وسائل الخطاب بهدف نزع الطابع الإنساني عن الآخر وترويج الأوهام القومية والعرقية وما قد يشكّله الوافدون الجدد من “مخاطر” مزعومة.

ولعلّ نقطة انطلاق باومان في كتابه هي حيرته تجاه أوروبا التي، على الرغم من “كل تقاليدها التنويرية والكانطية والكوزموبوليتانية، وصل خطابها السياسي إلى نقطة من العداء الصريح تجاه الغرباء والمشردين من بقاع أخرى من العالم في تنكّرٍ معلن للقيم الإنسانية وتقوقعٍ على الحدود الذاتية مع أنَّ “الترحال والهجرة كانا أشبه بثوابت أنثروبولوجية على مرّ التاريخ البشري” كما يقول باومان.

وفي ضوء ذلك، يُعرب باومان عن سخطه إزاء التنكّر التاريخي الصارخ الذي يواجهه اللاجئون الهاربون من الحرب وأولئك المحرومون الذين يسعون إلى حياة أفضل. ووفقاً لما يذهب إليه الكاتب فإن ذلك يدلل على عمق مأزقنا المعاصر الذي يربطه باومان بهيمنة القيم الرأسمالية على وجودنا مستنداً إلى رؤى من الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي.

ومن الأمثلة المفيدة على ذلك مناقشة باومان في الفصل الثالث من الكتاب لمفهوم “الخوف الكوني” الذي طرحه الفيلسوف واللغوي الروسي ميخائيل باختين (1895-1975) واصفاً هذا الخوف بأنه على وجه التحديد، هذا القلق المنتشر الذي يساورنا في مواجهة عدم اليقين الذي يُعتَبَر سمة أساسية لحياتنا، والذي عرّفه البشر عبر تاريخهم على أنّه “إرادة الله”، ومع ذلك يتم تحويل هذا الخوف إلى خوفٍ رسمي من قِبَل من يفوّضون أنفسهم باسم الله على الأرض، أي السياسيين المحترفين الذين يتنافسون على الأصوات. وهكذا يجري تحويل حالة عدم اليقين إلى تحيّزاتٍ عنصرية وعدائية تجاه كل شيء “غير معروف”، ولعلّ أبرز تجليات هذه التعبيرات تظهر من خلال موجات كراهية الأجانب التي يستغلها السياسيون بلا خجل، وفقاً لما يقوله باومان.

وانطلاقاً من عملية صناعة الخوف هذه، يقدّم باومان تحليلاً لهذا المفهوم بوضعه في إطار تطور مزدوج يبدو أنه يحكُم تصورات العالم الغربي. ويتكون هذا الإطار المزدوج من عملية الفَردَنة ومن اختفاء السيادة الإقليمية. إذ من ناحية، يسبّب ما يسمّيه باومان “مجتمع الأداء” (مستشهداً  بالمنظّر الثقافي الكوري المولد والألماني الجنسية بيونغ تشول هان) ضعفاً متزايداً بين الأفراد في الاستجابة بشكل مناسب لـ”حتمية الأداء” التي حددتها مجتمعاتهم، وبالتالي توليد نسبة متزايدة من الأشخاص الذين يشعرون (وهم كذلك) بالاستبعاد الأيديولوجي والمادي وبالإقصاء من الرعاية الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، فإن تلاشي المعنى الكلاسيكي لنقاط المرجعية الإقليمية المستقرة -أي قبل كل شيء، الدولة القومية- يزيد من الشعور بالارتباك والحرمان من الحقوق، مع كون السياسة الديمقراطية (أي الدولة التي ترتكز على القومية) هي الضحية البارزة لهذا التطور.

يهيئ ذلك بدورِه التربة الخصبة لجميع أنواع “أكباش الفداء” أو “الإيذاء”، التي تُغذّيها وسائل الإعلام الهستيريّة الموجّهة وصولاً إلى “الإنسان الذي يُهدَر دمه” أو “هومو سيسر Homo sacer باللاتينية”، وهو مصطلح مأخوذ من القانون الروماني وقد اتّخذ منه الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبين” عنواناً لأحد مؤلفاته وهو «الإنسان المهدور الدم: السلطة السيادية والحياة العارية» (1995). وهو ما يفرد له باومان الفصل الرابع من الكتاب محلّلاً العملية التي يتم من خلالها تجريد مجموعة بشرية من حقوق الإنسان الأساسية والكرامة. وحسب ما يقوله باومان فإن مجال العلاقات المتبادلة بين البشر والتفاعل المعفيّ من التقييم الأخلاقي […] يخضع فقط  للتقييم من خلال كفاءته في “تحقيق النتائج”. على هذا النحو فإننا نخسر محاملنا الأخلاقية، التي يأسرها الأداء التقديري. والسبيل الوحيد للتغلب على هذا، بحسب باومان أيضاً، يكمن في إقامة حوار مفتوح يهدف إلى ما يدعوه “مزجِ الآفاق” (Horizontverschmelzung)، وهو مصطلح يستعيره من الفيلسوف الألماني “هانز جورج غادمير”.

التغلب على الفجوة بين التفكير والعمل يتطلب تعزيز “فن الحوار”:

وينبع هذا العلاج أيضاً من قراءة باومان لحنّا أرندت في الفصل السادس من الكتاب، حيث يقول إن التغلب على الفجوة بين التفكير والعمل يتطلب تعزيز “فن الحوار”، أي الرغبة في التعامل مع عدم اليقين الذي يجسّده الغريب. ومع ذلك، فإن هذا يقف في تعارض صارخ مع “القدرة التنافسية التي يفرضها مجتمع فناني الأداء”، مما يضع المجتمعات البشرية أمام مخاطر التحول إلى “عالم هوبزيّ يحارب فيه الجميعُ الجميع”. لذا فإنَّ باومان يصرُّ على مركزية “ظاهرة اللقاء وجهاً لوجه”، والتي يعتبرها الطريق الأمثل إلى “الاتفاق […] والتعايش السلمي”. كذلك يسلّط باومان الضوء على تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي في أعقاب الاستفتاء الذي جرى عام 2016 مستعرضاً حملة البريكسِت من أجل “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي” وما انطوت عليه من عنصرية عنيفة كامنة، ويرى باومان أنَّ استراتيجية التأريخ هذه تُعدُّ في نهاية المطاف هزيمة ذاتية، فهي تعمل على استدعاء الخوف من الغرباء كاستجابةٍ لحالة عدم اليقين التي تلفُّ المجتمع المعاصر والتي سبق أن تحدّث عنها في الفصول الأولى من الكتاب.

بالإمكان اعتبار كتاب «غرباء ببابنا» بمثابة منظور استشرافي للمرحلة المقبلة من التفاعلات التي قد تثيرها ظاهرة الهجرة، ولكن العلاجات التي يقترحها باومان تبدو غامضة بعض الشيء. ومع أنّ مواجهة الذروة التي بلغتها الأزمة الإنسانية الراهنة قد تحتاج إلى اتباع نهج أكثر انتظاماً ومنهجيةً لإعادة بناء “حديقة إنسانيتنا المشتركة”، إلاّ أن هذا الكتاب قد يكون مفيداً كنص تمهيدي وتأسيسي يقدم لمحة قيِّمة عن تعقّد المسائل المطروحة.

* كاتب سوري

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.